حوار مع داعية العلم والسلم :

 الأستاذ جودت سعيد

أعدت الحوار : حنان لحام

.

بطاقة تعريف : جودت سعيد محمد ، ولد في قرية بئر عجم من أعمال محافظة القنيطرة في المنطقة المحررة من الجولان السورية عام 1350هـ/1931م . انتقل في المرحلة الثانوية إلى الأزهر الشريف حيث أتمها هناك ، وتابع إلى أن تخرّج من كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر . عمل في التدريس في السعودية لمدة سنتين في أواخر الخمسينات ، ثم عاد إلى سوريا في زمن الوحدة بين مصر وسوريا ، حيث حدث الانفصال عام 1961م أثناء أدائه لخدمة العلم فاعترض عليه ، ورفض المشاركة مع الوحدات التي قامت به .

    ثم تفرّغ للعمل الفكري الإصلاحي متنقّلاً بين دمشق وبئر عجم ، وافتتح إصداراته الفكرية بكتابه "مذهب ابن آدم الأول" 1966م ليُعرَّف الناس بنهجه الفكري السلمي المستقل . وتتابعت كتبه بعد ذلك .

س1: أستاذنا الكريم عرفت في الأوساط الفكرية بأنك ذو منهج جديد، حتى وصفك أحدهم بأنك واحد من الذين تنطبق عليهم عبارة الإنجيل : (صوت صارخ في البرية : هيئوا طرق الرب) . فهل لنا أن نعود إلى البدايات لنتأمل المراحل الفكرية التي مررت بها ؟

     ج: من الصعب على الإنسان أن يسبر غور مراحل تطوره الفكري . ولعل الدارسين من حوله أقدر على التحديد والتحليل . ومع ذلك فإنني سأحاول الوقوف على بعض المحطات التي مررت بها وما زالت ذكراها في مخيلتي أتذكر أنني كنت في الصف الثاني الابتدائي - في أول الأربعينات - وكنت أذاكر في الكتاب المقرر دعاء التشهد ، وقد كتبت له صيغتان بحسب المذهبين الحنفي والشافعي . كنت متعجبـًا من ذلك وما تجرأت على سؤال الأستاذ ؛ لأننا كنا نرهبه فسألت والدتي ، فقالت مشيرة باصبعها إلى أحدهما : نحن نحفظ هذا ؛ لأننا على مذهب الإمام الأعظم (الحنفي) .

    هذا الكلام أثار في نفسي تساؤلاً أكبر وهو : أن الذي أهله على المذهب الشافعي ستقوله له أمه كذلك : نحن نحفظ ذاك لأن إمامنا الشافعي هو الإمام الأعظم .!! لكنني لم أتجرّأ على سؤال والدتي عن ذلك .. وتطور السؤال في ذهني من ذلك الوقت وبدأت أفكر : كيف أعرف الحق بين المذاهب ؟ ثم كيف أعرف الحق بين الأديان المتعددة؟ ثم كيف أعرف الحق حتى مع الاتجاهات اللادينية .؟! لا أستطيع أن أحدد تمامـًا متى بدأت في طريق المعرفة ، لكن التساؤلات عظيمة وكأن الله قد وضع في عقل كل إنسان قارعة " القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة" ، تقول له : تيقَّظ .. من أين جئت ؟ وإلى أين تذهب ؟ وما هي الغاية ؟ وما هو الحق ؟ وكيف نعرفه ؟ ولما ودَّعني والدي عند سفري إلى الأزهر لمتابعة دراستي ، كانت وصيته : "أحذر من الوهابية "، فكأنه فجّر كل تساؤلاتي وفضولي للإطلاع عليها ، وأصبح عندي هوس بالقراءة .

    فلما تابعت دراستي في الأزهر لم أكن أقرأ المقرر إلا قبل الامتحان بشهرين وباقي الأيام كنت أقضيها في دار الكتب المصرية منذ أن تفتح أبوابها في الصباح إلى أن تغلق في المساء… أقلب في الكتب … ماذا قال أعداء الإسلام وكيف رد العلماء عليهم … وقد أخذ هذا من عمري الكثير… عمري الآن سبعون سنة ، قضيت نصفها في الدراسة والبحث حتى ظهر (مذهب ابن آدم الأول) - في 1966م - وما زلت أدرس وأبحث ليس في ديني فقط  ؛ لأنك عندما تقرأ عن دينك فقط تبقى محصوراً في مجال واحد ، ولا بد من قراءة الآخر ، ورؤية آيات الله فيما يحدث للأمم الأخرى من حولنا ، أحداث الواقع ، وعواقب الأحداث ، فاليابان آية ، هم بوذيون وليسوا على دين سماوي ، وهم في بلد ناءٍ ، جزر مبعثرة وكأنها معلقة في طرف الأرض ، ألقيت عليهم القنبلة الذرية واستسلموا دون قيد أو شرط في آخر الحرب العالمية الثانية - وأذكر أنني كنت وقتها في الصف الخامس - ثم رأينا بأعيننا كيف استعادت وجودها ، وأصبحت قوة عظمى دون حرب أو سلاح ، ولم يعملوا حرب تحرير مثل فيتنام ذهبت فيها ملايين الأرواح ، ولا مثل الجزائر - بلد المليون ونصف شهيد - والتي أصبحت كالثورة الفرنسية تأكل أبناءها .. اليابانيون بعقولهم وعلومهم وصناعتهم أصبحوا قوة عظمى.. إن هؤلاء آية من آيات الله (فسيروا في الأرض فانظروا) [آل عمران : 137 ، النحل: 36] لكن المسلمين لا يسيرون في الأرض ، ولا يهتمون بكيف بدأ الخلق ، ولا يقرأون لمن سار في الأرض وبحث في بدء الخلق ، بل يسخرون منهم ويكفّرونهم ، علينا أن نرى الأمم وندرس أحوالهم ، فهم أولاد آدم أيضـًا وقد خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئـًا ، مثلنا ، لكن الدأب والمعرفة والثقافة أعطتهم كل ذلك

س2: نعود إلى بداية المرحلة في مصر كيف تعرّفت على الفكر السلفي ؟

     ج: نعم كان لكتابات محمد عبده ورشيد رضا أثر طيب في نفسي . فقد أخرجتني السلفية من الحيرة بين المذاهب . ثم واجهت إشكالاً جديداً ،وذلك أن المناهج التي كنا ندرسها كانت توحي لنا بأننا نعيش آخر الزمان وكل يوم يأتي هو أسوأ مما قبله ، فكيف سأجنّد نفسي لمبدأ محكوم عليه بأن يومه أسوأ من أمسه وغده أسوأ من يومه ؟! وتساءلت : من أين جاءت فكرة آخر الزمان ؟ بحثت في القرآن فلم أجد شيئـًا من ذلك  ،بل وجدت عكسه قوله تعالى : (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) [غافر:51].

    إن المجتمعات حين تكف عن الزيادة في الفهم والخلق (الصيرورة) تصاب بالإحباط ، وتنتشر فكرة آخر الزمان ؛ لأن الزمان توقف عندهم ، هذا المرض لا يصيب المسلمين وحدهم ، بل يمكن أن نرى في كتاب فوكوياما (نهاية التاريخ) نموذجـًا من فكرة آخر الزمان ، بعد ذلك قرأت سطراً واحداً لمحمد عبده يقول فيه : (هؤلاء الذين يقيمون القيامة على الدين لم لا يقيمونها على حبهم للدنيا؟!) .

هذا الكلام أثَّر فيّ كثيراً وقلت في نفسي : إذن يمكن أن نفهم الأمور بشكل مختلف عما عرضه الآباء ، كذلك أفادني كتاب (الإسلام على مفترق الطرق) لمحمد أسد ، وصرت أشعر أن المشكلات كلها قابلة للحل ، وتطور هذا حتى تمكنت من فكرة التسخير في القرآن ، ولكن نمو الأفكار كان بطيئـًا .

س3: فكيف تعرفت على فكر مالك بن نبي ؟

    ج: كنت قد تخرجت من الأزهر في أوساط الخمسينات ، فوقع في يدي كتاب (شروط النهضة) قرأت ولم أفهم في البداية ،لكنني شعرت بأنه يقول شيئـاً جديداً يستحق التأمل فأقبلت على كتبه أدرسها وأعيد تأملها ،حتى أنني قرأت كتاب (الأفريقية الآسيوية) ثلاثين مرة ، كان فكر مالك هو المحطة الكبرى في مسيرتي الفكرية ، صدمني وفتح عيني على أمور جديدة من أهمها مثلاً فكرة (القابلية للاستعمار) ،ضمن أجواء تركز جهدها ولومها على الاستعمار .

    واستطعت أن أربط الموضوع بما جاء في القرآن عن المستكبرين والمستضعفين ، وكيف وّجه الله المؤمنين إلى الخروج من الاستضعاف ؛ لأن ما يصيبهم ليس من عدوهم وإنما (قل هو من عند أنفسكم) [آل عمران : 65] . إن سيئاتنا هي التي تمكّن الآخرين من التلاعب بنا . كم صدمني حين قال : "إن العالم الإسلامي حين يلتقي في المؤتمرات يجعل المشكلة الفلسطينية هي الأولى في حياته.. بينما التخلف والقابلية للاستعمار هي المشاكل الحقيقية لنا.." وكم كان عميقـًا في قوله : "إن إنسانـًا يجهل إضافات القرن العشرين للمعرفة الإنسانية لا يمكن إلا أن يجلب السخرية والتشنيع إلى نفسه" .

س4: وماذا عن فيلسوف الهند محمد إقبال ؟

    ج: إقبال أيضـًا وضعني على طريقة المعرفة ، إقبال هو الذي علّمنا قيمة آيات الآفاق والأنفس إذ قال : أن القرآن يعتبر الآفاق والأنفس مصدراً لمعرفة الحق ، فالقرآن وإن نزل في عصر ما قبل العلم فإنه بشَّر بعصر العلم ". وهو الذي فهم مغزى ختم النبوة ، لقد حل لي مشكلة الشريعة بأفكاره العملاقة فشريعة الله هي العدل وكل ما هو أقرب إلى العدل هو شريعة الله .

     والخلاصة أنني بدأت بالاتجاه السلفي ، ثم توقفت على محطة الأفغاني ومحمد عبده ، ثم تابعت السير مع إقبال ومالك بن نبي . ولكن ربما آخر محطة توقفت عندها هي الحداثة ، ومحمد أركون شدني ما يقال عنه ، إن الحداثة تيار غربي يُقدَّم إلينا بحلوه ومره وبعضنا لا يرى فيها إلا الضلال .

    حبذا لو تمكنا من تقبّل أحسن ما عندهم وما ابتكروه ، ونتجاوز عن سيئاتهم . إن الغربيين لم يبتكروا وسائل نقل غير الحيوانات فحسب بل ابتكروا وسيلة لانتقال الحكم غير الذبح والسحل ، إنها وسائل نقل في السياسة والحكم لم نتقبلها بعد ؛ لأنه لا يوجد فينا من يؤمن بقوة الفكرة . وأنه يمكن أن يقنع الناس بدلاً من إرهابهم . لا العلماني ولا الإسلامي .

س5: لماذا انتكس العالم الإسلامي إلى طريق العنف حتى قبل أن ينتهي عهد الراشدين ، مع أن النبي كان في سلوكه - أثناء تأسيس مجتمع الرشد - يلتزم باللاعنف ومنع أصحابه من رد العدوان والدفاع عن النفس ، هل كان اللاعنف واللإكراه فوق مستوى الناس في ذلك العصر ؟

    ج: علم الاجتماع سيحلل هذا الموضوع ، أما أنا فلا أملك إلا أن ألقي بعض الأضواء.. أذكر مثالاً : اتخذ الرسول خاتمـًا منقوشـًا عليه ثلاث كلمات : محمد رسول الله . وذلك عندما أراد أن يبعث الرسائل إلى الملوك ، فقالوا له إنّ الملوك لا تقيم وزنـًا لرسالة بدون ختم . حدث هذا منذ 1400 سنة ومع ذلك لم يكشف الناس الطباعة في ذلك الوقت ، واحتاج الأمر إلى 1000 عام . يمكن أن نقول لم تكن هناك أفكار للطبع ، وحتى الصينيون كان عندهم مبدأ الطباعة لكنهم لم يطبعوا كتبـًا وإنما طبعوا أوراق اللعب ؛ لأن عامة الناس تلعب بها . إذ أن ظهور فعالية تقنية معينة يحتاج إلى شروط في المجتمع . وأعجب من ذلك التجربة الإيرانية ، وهي بحاجة إلى دراسة وتحليل : كيف دخل الإيرانيون إلى مجتمع الرشد وأخرجوا الشاه بدون عنف ، وإنما بمظاهرات سلمية تحمل الورود للجنود وتلبس الأكفان . هل أدرك الإيرانيون سننية ثورتهم أم رأوا فيها كرامات من الله لأوليائه الصالحين؟! .

    كان أصحاب رسول الله يتذمرون في مكة ويقولون : كنا في الجاهلية ولا يتجرّأ على إذلالنا أحد ، والنبي يقول لهم : لم نؤمر بقتال ، كفوا أيديكم ، هذا يعني أنني نريد أن نصنع مجمع اللاإكراه في الدين دون اللجوء إلى العنف ؛ لأن الإكراه والبغي لا يقضى عليه بالعنف والإكراه ،  ومجتمع الرشد لا يبنى بالإكراه والعنف .

س6: هل اكتفى النبي (صلى الله عليه وسلم) بأن قال لهم : أمرنا الله بكذا ، ولم يشرح لهم أنها سنة اجتماعية ؟

    ج: القرآن يتحدث عن السنة والنبي كثيراً ما كان يتحدث عن السنن ، مثلاً قال لهم عندما تشفعوا للمرأة التي سرقت : [إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد] . فهي سنة لمن ينحرف عن العدل ويرفض السواء . والقرآن قد شرح السواء حين قال : (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئـًا ولا يتخذ بعضنا بعضـًا أربابـًا من دون الله) [آل عمران:  ] .

    ونحن في تاريخنا رجعنا عن هذا وأخذنا الأمور بالسيف وأقررنا ضمنيـًا لكل من يستطيع فليأخذ بالسيف وألغي العلم والرشد ، وكان الذين فهموا الإسلام وتربوا على سلوك النبي قد قتلوا أو ماتوا . والذين دخلوا في دين الله أفواجـًا - وهم الذين قال عنهم الله : (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّّا يدخل الإيمان في قلوبكم) - هم الذين خذلوا عليـًا الراشد ، حتى أن عمر بن عبد العزيز دهش ومن بعده محمد إقبال .. حين نقدا فتح البلدان والسرعة فيه ، وأنه لم يكن مقصود الشريعة هذا ، ما بالنا نفتح العالم ولا نهتم بترسيخ الإيمان في النفوس ؟!

    وحدث هذا في الأمم الأخرى .. هتلر مثلاً انتخب من الناس انتخابـًا ثم صار طاغوتـًا ..‍ علمنا قليل .. ونحن بحاجة إلى الدراسات الاجتماعية وهذه العلوم ما زالت جديدة . كان الناس في الماضي يقولون عن الذي يُصرع أن فيه شيطان ؛ لكن بالعلم الآن يقال عنه مريض وقابل للشفاء ، وأنا أقول : المشرك مريض نفسيـًا ، إنه لا يؤمن بالسنن وإنما بالخوارق ، إنه يتخبط كالمجنون إذ كيف يمشي دون قانون ؟‍

س7: إذا حددنا الشرك بأنه مرض نفسي فما هو التوحيد ؟

    ج: التوحيد : إيمان بسنن الله وإلغاء للامتيازات بين البشر- أي قبول السواء - إن الإيمان بالله بيولوجي وحتى الملحد لا يكفر بالله ، لكنه يكفر بالمتدينين ، لا تظنوا أن كل متدين يعرف الله ، إن معرفة الله تكون بمعرفة سننه في الكون وسننه في الأنفس - آيات الآفاق والأنفس - وإن السنة الاجتماعية هي أشرف علم في القرآن . ومن المؤسف أن كتّابنا - نحن المسلمين - ينفرّون الناس من العلوم الإنسانية (علم النفس والاجتماع) ويقولون هي من صنع اليهود .

     وأما رفض الامتيازات فهو الكفر بالطاغوت ، حق الفيتو هو طاغوت ، والخضوع للأقوى إيمان بالطاغوت ، إن الشرك ليس مشكلة لاهوتية فقط . بل هو بالدرجة الأولى مشكلة بين البشر إنه خلل في التفاعل الإنساني بحيث يكون بعض الناس أربابـًا وبعضهم الآخر عبيداً . وما أكثر ما تحدّث القرآن عن الطاغوت وعبادة الطاغوت ، وهي الإقرار بالامتيازات لمن ملك القوة من الناس .

    وقصة موسى وفرعون من أكثر القصص وروداً في القرآن ، ومع ذلك فالمسلم واقع في عبادة الطاغوت ‍ والله لم يترك البشر بدون بيان ، انظر مثلاً إلى قوله تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) ، فإن لم تصدقوا وتدركوا خطورة الانسياق وراء الطاغوت (فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) [النحل:36] . إنها قوانين صارمة مثل الجاذبية والكهرباء ، إن لم تحسب لها حسابـًا صعقتك . ألا ترون كيف أنتجت عبادة الطاغوت (حق الفيتو) الذي يعوّق نمو العالم ..؟‍ ولو أن هتلر قد انتصر لما أصيب العالم بأسوأ مما عليه الوضع في هيئة الأمم ومجلس الأمن .

س8: هل يمكن أن نلخص مشروعك الفكري الحضاري الذي وصلت إليه أخيراً بعبارات أخرى ؟

    ج: لا بد من الدخول إلى آيات الآفاق والأنفس وإلا ظل الإنسان فارغـًا والكتاب أجوفـًا . إننا حين نرى الوقائع ونكشف السنن عندها نتحرر ونفهم آيات الكتاب ، إن آيات الآفاق والأنفس في زمن الصحابة كانت ضحلة ؛ ولهذا قص القرآن كثيراً وكرر في أخبار الأمم ، أما الآن فإن من لم يسر في الأرض ولم يتابع إضافات القرن العشرين فإنه لا يوثق بعلمه ، غائب عن الحضور والقرار ومستغَل من الذين ساروا وعلموا وسخرّوا . إن العلم والسلم لا ينتصر عليه أحد وعندما نفهم لا يمكن أن يسيطر علينا أحد ، أما إن فُقِد العلم والسلم فالباطل القوي ينتصر على الباطل الضعيف . هذا قانون الله : (وكان حقـًا علينا نصر المؤمنين) .

     إن معجزة العصر هي آيات الآفاق والأنفس ، والقرآن جعلها مرجعـًا ، لكن المفسرين لم ينتبهوا لذلك . وذكروا شروطـًا كثيرة للمجتهد الذي يتصدى لتفسير النصوص إلا هذا الجانب ، ومن لم يتابع آيات الآفاق والأنفس لا يوثق بعلمه . الناس الآن اخترعوا الديمقراطية لانتخاب الحاكم بدلاً من الصراع والطغيان وكان هذا أعظم اختراعاتهم ، مع أن هذا الأمر كانت له أصول في بداية حضارتنا ، ولهذا نجد المسلمين الآن يتكلمون عن الشورى التي لم يعطها السابقون اهتمامـًا . وفي الحقيقة إن الكفر هو تغطية وفقدان للرؤية الواضحة . والآخرون يقولون عنا أن عقولنا لا تستوعب وفعلاً نحن لم ندرك بعد ، وكان يضحكون منا في مصر - نحن طلاب العلم الشرعي - ويقولون أنتم لتغسيل الموتى ..‍ لأن علومنا معزولة عن الواقع ، ولهذا نعجز عن الفهم ونتقاتل فيما بيننا ، ونلجأ إليهم ليحلوا لنا مشاكلنا .. (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) [يونس:96] .

    حرب الخليج كانت من العذاب الأليم واستنجدنا بالعالم . في قلبنا سرطان يجعل كل واحد فينا يبتلع الآخر إن استطاع .. آيات الآفاق تُكشف وتتسخر للناس ، وآيات الأنفس جسديـًا تكشف وتتسخر ، وقد أصبح بالإمكان القضاء على كثير من الأمراض ، وفي البلاد التي تجتاحها الأوبئة يقولون عنها قذرة فكريـًا بسبب الجهل . أما آيات الأمراض الفكرية فلم تتسخر بعد . الحروب والدماء أمراض فكرية . هذه الجراثيم نسميها بطولات .‍‍

    نحن ما قرأنا ولا سرنا في الأرض ، وهؤلاء الناس المبجلون عندنا كيف يعلموننا القرآن ؟ يحبوننا ويعلموننا الخرافات ، ويموت المسلم في سبيل هذه الخرافات وسيبكون عليه ، مسكين هذا الإنسان (لمّا يقضي ما أمره) ، لو قرأنا لكشفنا عالمـًا آخر ، وعندما نقرأ بعقول مغلقة نبحث عن الأخطاء فحسب ، وكما يقول إقبال : (أنت تُغلّي السعر والأيدي خواء) ‍ الصحابة قرؤوا القرآن وقاموا الليل بآيات الكتاب .. أما نحن فعلينا أن نقرأ آيات الأفاق والأنفس ونقوم الليل في دراستها .

    سمعت المفتي يتحدث مرة أنه كان في أندونيسيا يتحدث إليهم فقرأ الآية (ربنا آتنا في الآخرة حسنة) فصححوا له فعاد ، فقرأها كذلك فصححوا له … فقال : أنا أقرأ ما في عقول الناس .. وأنا حين أذكر الآية (جاء الحق وزهق الباطل) أدرك تمامـًا أن ما في عقول المسلمين الآن (جاء الباطل وزهق الحق) .

    إن الله يأمرنا (واجتنبوا قول الزور) لكننا نعيش شهادة الزور للباطل ولا نصدق أن الباطل يموت ويزهق بمجرد مجيء الحق . وكأن الحق لا قيمة له بدون قوة ، بينما محمد (صلى الله عليه وسلم) يوم الحديبية يتحدى المشركين بإعطاء الفرصة لباطلهم أن يصول ويجول أمام الحق وكان هذا الصلح هو الفتح المبين كان يقول (صلى الله عليه وسلم) : [يا ويح قريش ‍ قد أكلتهم الحرب ‍ ماذا عليهم لو تركوني ؟! والله لا تدعوني قريش إلى أمر فيه حقن للدماء إلا أجبتهم] ، وكان هذا الذي جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجـًا ؛ بينما نحن نظن أنه من غير قتل أو عنف لا يمكن إصلاح الإنسان . هذه المفاهيم الخاطئة هي التي تفسد حياتنا .

    وحتى أبو حنيفة كان يقول : (للنفس الزكية) - وهو زعيم سلالة آل البيت في زمانه - لو أعرف أنك ستنتصر لخرجت معك أيضـًا ‍‍. والذين صدعوا بالحق بعد أن عرفوه نادرون ، وكأن الحق لا قيمة له بدون قوة ، وكأن الرشد لا يتحقق إلا بالقوة والقتال ، لكننا حتى الآن لم ندرك مغزى الآية المفتاحية العظيمة (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي) لأن (لا إكراه) هي الرشد ، ولو آمنا بالرشد لكفرنا بالقوة وتمتعنا بالسكينة والنور والصحة النفسية .

    أعود فأقول : إن السلف الصالح كان يقرأ القرآن وقد نصرهم الله على قراءتهم ؛ إذ كان هو المطلوب منهم ، لكن الآن ينبغي أن نتتبع آيات الآفاق والأنفس لأجل أن نفهم الكتاب وعند ذلك سترون الناس يدخلون في دين الله أفواجـًا ، نحن الآن عقبة تمنع الناس من رؤية الحق ، والمستكبرون أيضـًا عقبة يحولون بين الناس وبين المعرفة ، لأنهم يستأثرون بالخيرات حين تتخلف الأمم .

س9: بعض المسلمين يقول "لا إكراه" نسخت بآية السيف نطمع بمزيد من البيان حول ذلك .

    ج: آيات الآفاق والأنفس تقول بأن القتال هو الذي نسخ الآن - وإن كانت المعارك لم تنته بعد فإنها تعتبر كجذوة النار التي تتقد قبل الإنطفاء - بينما (لا إكراه) أصبحت بنداً عظيمـًا في كل دساتير العالم ، ولا بد أن نتذكر أنه في الحرب العالمية الثانية قتل 54 مليون إنسان ، هذا العذاب الأليم أراهم طريق الاتحاد بدون حرب بعد أن حاول هتلر ونابليون .. إن الإتحاد الأوروبي لم يحصل مثله في التاريخ وهو مختلف عن الإمبراطورية الرومانية التي حصلت في الماضي بالإرغام والقوة . إن هذا يدعونا لتأمل الإنسان عبر التاريخ ، وهي ظاهرة جديدة تستحق الدراسة ، لأن الإنسان لا يعطي إلا الأقل بالإكراه ، وما كان العنف في شيء إلا شأنه ، الأوروبيون الآن لا يحتاجون إلى جيش لضم جيرانهم وإنما الناس تتهافت على الإتحاد معهم وهم يقولون : لا نقبلكم إلا بشروط . ويدرسون الأمور بحيث يربح الجميع ولا يخسر أحد .

    آية اللاإكراه جاءت بعد أعظم آية في تعظيم الله تعالى وهذه آية الكرسي .. وهذا تأتي بعدها في تكريم الإنسان ، هذه الآية العملاقة أسميها آية الرشد فهي مفتاح كل ما يأتي بعدها من فكر (قد تبّين الرشد من الغي) فالرشد هو اللاإكراه ، والعنف هو الفغى فمن يكفر بالطاغوت أي بالعنف والإكراه ويؤمن بالله فهو الذي أمسك بسنة الله (العروة الوثقى) .

    (الله ولي الذين آمنوا) بلا إكراه يخرجهم من الإكراه الذي هو ظلم وظلمات إلى النور إلى العلم والسلم والرفق ، وعلى العكس من ذلك : الذين كفروا بـ (لا إكراه) هم أولياء الطاغوت الذي يؤلّه القوة ثم يضرب مثلاً للطاغوت : الذي حاج إبراهيم في ربه ، وكيف رد إبراهيم بأن سنة الله في الآفاق (يأتي بالشمس من المشرق) هي مثل سنة الله في الحياة وفي الأنفس ، إن قانون الاجتماع ثابت مثل قانون الفلك - وإن الطاغوت (الإكراه) يعاكس سنة الله في الأنفس ولا بد أن يسقط ويزول (وأما الزبد فيذهب جفاء) .

    وإن المجتمع الذي يصنع بالقوة لا يمكن أن يتحول إلى مجتمع راشد ، ونحن منذ 1400 سنة نجرّب القتل والإكراه ، الحكام يقتل بعضهم بعضـًا ، والملك يقتل ابنه ، والابن يقتل أباه ، وإلى يومنا هذا لم نصل إلى الديمقراطية لأنها تحتاج إلى ، علم الرسول كتب للملوك : (تعالوا إلى كلمة سواء) ، وما حصل في مجتمع الرشد من قتال المرتدين كان حالة طوارىء هدد فيها كيان المجتمع كله . إن القرآن يصرّح في سورة الممتحنة : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم..) لكن المسلمين اختلطت عليهم حالة الطوارىء بالحالة السوية .

    هذه الآيات واضحة ، ومن أواخر ما نزل من القرآن ، والمعاملة فيها مع كل الناس ومن كل الملل ، ومن المؤسف أن يصبح آباؤنا حاجزاً بيننا وبين الفهم ، حتى أن العقل يصبح جبانـًا يستبعد الفهم الجديد ، ويقول لو كان فيه خير لذكره السابقون . أنا متعلق بالقرآن وأثق بأن له المستقبل ، والناس يكشفون أنه أرشد إلى الحق والخير ، وأسمي كتبي بآيات من القرآن . كنت أتحدث باستحياء لكنني الآن أرفع صوتي ، فالغيب يدخل كثير منه في الشهادة الآن ، وقد أصبحت الأرض تحدث أخبارها ، وإن كانت في الآخرة تتحدث بأعظم وأكثر ، وكم حدثنا القرآن عن فرعون ليشرح لنا الطاغوت؟‍  إن الطاغوت ينشأ من جهل الناس .. وإن من يعرف لا يقدر أحد أن يضحك عليه : (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ، نريد أن نصنع أولي الألباب فإن الديمقراطية لا تدخل إلى قوم ما عندهم علم وسلم .

س10: وهل العالم الآن أقرب إلى الرشد والتخلي عن العنف ؟‍‍

    ج: أجل … إنه من جانب أقرب إلى الرشد لأنه سلك سبيل الإحصاء وكشف الخطأ ، لكن العلم ما لم يعم الناس فلن يتنازل (عالم الكبار) عن امتيازاتهم ، وانظروا في أول سورة "اقرأ" لأن من يعلم لا يخدع .. (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) فالإنسان لا يُعوَّل عليه إن كان مستكبراً ، اعتذرت أمريكا من إيران بعد عشرين سنة من ثورتها ، وربما سيعتذرون منا بعد خمسين سنة ويقولون : كنا نضحك عليكم أما الآن فقد أصبحتم بشراً تفهمون .

س11: ألن ينقذهم العلم مـن استكبارهم ؟ ألن يكتشفوا أن الاستكبار فيه خسارة ؟

    ج: هؤلاء نشأوا في حضارة وامتيازات لا قدرة لهم على التخلي عنها ، ولا يعيدهم إلى السواء إلا يقظتنا ووعينا ، وحتى محمد أسد وجارودي يحبنا لكن الثورة الفرنسية الممزوجة بالدم مقدسة عندهم ، ولا قدرة لهم على رؤية ما جاء به الأنبياء ، مثقفوهم لا يصلون إلى التنور ولا يهضمون إيماننا .

    ومن المؤسف أن كل الثقافة الإسلامية كتبت بعد أن فقدنا الرشد وأصبح في أعماقنا اتفاق ضمني أن من يأخذ الأمر بالعنف فليفعل ، إن إجماع الناس يضيع عقل الإنسان ويقولون (إن جن ربعك عقلك ما ينفعك) لكن الأنبياء قالوا : لا ينفعك إلا عقلك . (أليس فيكم رجل شديد) ؟ وإن من يقتصر علمه على التراث لن يبصر الحقائق ، إننا مطالبون بتربية الرشد (ابتلوا اليتامى) ، وليتنا نعلّم الأطفال أبجدية القواعد والمفاهيم التي تعينه على حياة سليمة بدلاً من تحفيظ القرآن .

    أقول وأكرر : الطاغوت جاهز في كل وقت (إذا غابت الفكرة بزغ الصنم) كما يقول مالك بن بني وإن الوعي يذيب الأصنام ، ولما يأتي العلم يموت الباطل .. والرشد لا يأتي بالقوة ، وإن صلاح الدين الأيوبي وحّد المسلمين وطرد الصليبيين لكن عندما جاء أولاده مزقوا ملكه من جديد ، في الماضي قال لهم الله : (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) والآن ينبغي أن تروا كيف فعل ربكم باليابان وروسيا والاتحاد الأوروبي والثورة الإيرانية ، كلها آيات تحتاج إلى قراءة وتدبر كي يدخل المسلمون إلى القرآن وإلى العالم .

س12: أنت متفائل … لكن الشباب يرون الطريق طويلاً فتخدر هممهم كيف نذلل العقبة ؟

    ج: هذا الطريق أقصر وأسهل من طريق العنف حيث يتحطم الإنسان بدون جدوى .. إن آية (لا إكراه) هي آية الرشد ورفع الآصار عن الإنسان وتكريمه وتيسير الطريق أمامه .. الأنبياء جاؤوا ليتنافس الناس في فعل الخير ، لكننا نتنافس على الإفساد وننظر في السيئات فقط ، ولا نتقبل الطيب عند الناس.

    إلى الآن لا قدرة لنا على التعبير العلمي وعلى الحب ، لكن الذين وصلوا إلى ذلك مجرد سماعهم يغيّر ، يحيى كان يقول : أنا أعمدكم بالماء ولكن سيأتي من يعمدكم بروح القدس . والقرآن هو روح القدس .