نهر الذكريات

أحدث إصدارات الجماعة الإسلامية في مصر

نشرتها جريدة الشرق الاوسط

2 - 5 اكتوبر 2003

الحلقة الاولى

استعراض وتلخيص عبد اللطيف المناوي
مع اطلاق السلطات المصرية سراح زعيم الجماعة الإسلامية المصرية المحظورة كرم زهدي بعد 22 عاماً قضاها في السجن في قضية اغتيال الرئيس المصري الراحل انور السادات، بدأت الجماعة في اصدار كتب مراجعات جديدة. وقد اطلعت «الشرق الأوسط» على أحدث الاصدارات الذي حمل عنوان «نهر الذكريات»، بعد ان سبق أن انفردت من قبل بنشر حلقات لكتابين من المراجعات هما: «تفجيرات الرياض» الذي ألفه ناجح ابراهيم مفكر الجماعة، وكتاب «استراتيجية القاعدة.. الأخطاء والأخطار»، الذي كتبه عضو مجلس شورى الجماعة عصام دربالة الذي يقضي عقوبة السجن المؤبد في قضية الجهاد الكبرى منذ عام 1981.

والكتاب الأحدث «نهر الذكريات» يتناول زيارات قادة الجماعة للسجون المصرية المختلفة للالتقاء بأعضائها في جولات استغرقت ما يقرب من 10 أشهر. وقد شارك في تأليف واعداد الكتاب 8 من القيادات التاريخية للجماعة، هم كرم زهدي وناجح ابراهيم، وعلي محمد علي الشريف، واسامة ابراهيم حافظ، وحمدي عبدالرحمن، وفؤاد محمد الدواليبي، وعاصم عبد الماجد محمد، ومحمد عصام الدين دربالة.
وكتب مقدمة الكتاب ناجح ابراهيم، وهو من مواليد أسيوط عام 1955 وأقام في بندر ديروط، وحاصل على بكالوريوس الطب، وعمل طبيباً في مستشفى ديروطواستعاد ابراهيم في المقدمة المفاجأة التي أطلقتها الجماعة التي وصفها بأنها «أصابت الجميع بالذهول، عندما وقف محمد أمين في المحكمة العسكرية يوم 5 يوليو (تموز) عام 1997 أثناء نظر القضية العسكرية رقم 235 ليلقي بياناً مذيلاً وموقعا بأسماء ستة من قادة الجماعة الإسلامية، يعلنون فيه إيقاف جميع العمليات العسكرية بالداخل والخارج ضد الدولة، ووقف جميع البيانات المحرضة عليها دون قيد أو شرط ومن جانب واحد.
وقال ابراهيم: «كان هذا البيان من البداية، أو لنقل هو الحجر الذي ألقي في الماء الراكد، وبعده توالت موجات الأحداث، فكان رد الفعل في البداية مشجعاً، وأثنى الكثيرون على هذا التوجه ودارت عجلة التفاعلات، وكادت المبادرة تؤتي ثمارها، وتظهر آثارها منذ ذلك الحين، لولا حادث الأقصر بكل تداعياته المؤلمة، وتفاصيله المفجعة، والذي أعلنا وقتها، وما زلنا نردد، أنه كان طعنة شديدة في ظهورنا.
بدت المبادرة وقتها كوليد صغير فوجئ بضربة قوية على رأسه، ففقد الوعي وكاد يموت لولا لطف الله تعالى، حتى إن الكثيرين، وقته، تشككوا في إمكانية أن يفيق هذا الوليد مرة أخرى، ولو بعد حين، خاصة أن تفعيل المبادرة تعطل مدة ليست بالقصيرة، ولكننا استعنا بالله، ومضينا في طريق مليء بالأشواك، ننحت فيه الصخر بأظافرنا، لأننا على يقين من صدق ما نصبو إليه، فنحن نسعى لحقن الدماء، وإسباغ الأمان، والصلح بين أبناء الوطن الواحد، ولن يخذلنا الله، فهدى الله إخواننا في خارج البلاد إلى اعلان تأييدهم للمبادرة في 28 مارس 1999.
وكان من الضروري أن نلتقي بأبناء الجماعة الإسلامية في السجون المختلفة لنشرح لهم المبادرة، ونبين لهم الدوافع الحقيقية لهذا العمل الذي أصبح يمثل منعطفاً هاماً ومؤثراً في تاريخ الحركة الإسلامية عامة، والجماعة الإسلامية خاصة. وان من الضروري أن نسمع من إخواننا بعد سنوات طوال، حالت الأسوار فيها بيننا وبينهم، نشعر بنبض قلوبهم ويشعرون بنبض قلوبنا، ولقد تفهمت القيادات الأمنية أهمية هذه الخطوة، فكانت جولاتنا إلى السجون المختلفة، والتي استغرقت قرابة العام، والكثير من الجهد والطاقة والصبر.
بدأناها من السجن الذي كان مجرد ذكر اسمه يلقي في القلوب خوفاً وفي النفوس مهابة، وهو سجن الوادي الجديد، ثم الفيوم، ثم العقرب، ثم الاستقبال، ثم أبو زعبل، ثم وادي النطرون، ليكون مسك الختام لهذه الجولة المباركة في سجن دمنهور.
واحتاج اتمام هذه الجولات إلى جهود كبيرة من قيادات الجماعة وكذا من القيادات الأمنية وضباط وجنود الداخلية في كل مكان توجهنا إليه، حتى انتهت هذه المهمة على وجه نحسب أنه يرضي الله تعالى ويحقق الأهداف المرجوة من ورائها.
ولقد سعد الجميع بالحفاوة والحب والترحاب الذي كان الإخوة يلقوننا به في كل مكان ذهبنا إليه، كبيرهم قبل صغيرهم، كانت الابتسامة كمرآة تعكس ما بالصدور من المحبة والقناعة والرضا بالمبادرة، والاستيثار بآثارها ونتائجها الطيبة. وكان التجاوب من جميع أفراد الجماعة يزرع في الصدور إحساساً بالنجاح والتوفيق وأملاً في مستقبل مشرق للعمل الاسلامي ولمصر كلها بإذن الله العزيز الحميد، وللحديث عن هذه الجولات الطيبة، والتي تمكنا فيها بتوفيق الله وعونه من شرح المبادرة شرحاً وافياً شافياً مستفيضاً، وتفاعلنا مع إخواننا تفاعلاً إيجابياً بناء.
كان هذا الكتاب الذي نضعه بين يدي القارئ الكريم، ليعيش معنا مراحل جولاتنا إلى السجون بكل تفاصيلها، والذي استغرق اعداده عدة أشهر، واحتاج إلى مجهود كبير من أبناء الجماعة الإسلامية الذين وضعوا كل امكانياتهم تحت تصرفنا حتى اكتمل إعداد هذا الكتاب.
يضيف ابراهيم: «إننا نتقدم بهذا الكتاب إلى كل من أراد أن يتعرف على مبادرة الجماعة الإسلامية بشكل كافٍ شافٍ وافٍ، ماهيتها، ضرورتها، أهدافها، نتائجها، نتقدم به إلى إخوتنا وأحبائنا من أبناء الجماعة خارج السجون الذين لم تتح لنا ولهم فرصة اللقاء والمناقشة وتبادل الآراء، نتقدم به إلى إخواننا في التيار الاسلامي المهتمين بأمر الاسلام والمسلمين والذين يريدون أن يتعرفوا على حقيقة المبادرة.
وقد كان من أهم الإيجابيات التي حققتها المبادرة بفضل الله تعالى وتوفيقه.
أولا: تحقيق مصلحة الاسلام العظيم ودفع الكثير من المفاسد التي نجمت عن الأحداث، ورفع الكثير من العقبات والعراقيل التي اعترضت سبيل الدعوة إلى الله تعالى، والتي كان من أهمها تجرؤ الكثيرين من خصوم الاسلام عليه حتى أصبح مألوفاً لدى أي مصري أن يواجه في أي مكان أو وسيلة اعلامية بالهجوم الشرس على الاسلام وشريعة الاسلام وهديه الطاهر، بل ومكانة علماء الاسلام والدعاة إليه.
ثانياً: تحقيق مصلحة الوطن، والتي تمثلت في هذا الأمن والأمان، وتوحيد الكلمة ليلتفت الوطن بكل طوائفه وفئاته لمواجهة العدو المشترك للجميع، والذي يتربص بهذا الوطن ويتحين الفرص لينال من حريته وسيادته، فليس هناك مواطن على أرض مصر يجهل أن هناك محاولات اميركية واسرائيلية محمومة لتحجيم دور مصر العربي والاسلامي في جميع المجالات: الديني والسياسي والشعبي، لأنهم يرون في مصر بحجمها وثقلها وتاريخها عائقاً أمام تحقيق أهدافهم، ومطامعهم في المنطقة، وعلى كل مسلم مخلص عاقل محب لوطنه ألا يكون أداة لتحقيق أهداف عدوه في تحجيم دور مصر قلب الاسلام النابض. ثالثاً: معالجة ملف السجون المؤلم، لتشهد السجون في فترة تفعيل المبادرة أطيب وأحسن عهودها منذ فترة طويلة جداً، كما شهدت تطوراً كبيراً واضح المظاهر عظيم الأثر في كل اتجاه، والمعاملة الكريمة، التغذية، العلاج، الدراسة للطلبة الجامعيين، عودة الاستقرار إلى الأسر وتوقف مسلسل الطلاق والذي كان من أهم سمات مرحلة ما قبل تفعيل المبادرة.
وقبل أن نختم هذه المقدمة نقول لكل مهتم بأمر الاسلام والمسلمين، ولكل إخواننا في التيار الاسلامي، ولكل غيور على دينه وعلى دعوته، إن التجاوب مع المبادرة إنما هو دوران مع شرع الله تعالى، وليس مع دنيا زائلة أو عرض عاجل لا يدوم، فهناك فرق كبير وبون شاسع بين الثبات على الحق وبين العناد، فلندر إذن مع الحق حيث دار، وإن لم نربح منه عاجلاً فسوف نربح منه آجلاً، فإن أسهم التعامل في بورصة التجارة مع الله تعالى في ازدياد دائم حسب قانون الله «والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف»، والله يضاعف لمن يشاء، وذلك بعكس التعامل في بورصة الدنيا والتي تتأرجح أسهمها بين الزيادة والنقصان.
وعلينا ألا نستجيب للمزايدين، فإن المزايدة تضيع الممكن في طلب المستحيل، ورحم الله رجلاً أبصر زمانه فاستقامت طريقته، ونحن لا نملك عصا سحرية لحل كل المشكلات، وإنما بذلنا قصارى جهدنا متوكلين في ذلك على الله تعالى، وقد يكون الزمن جزءاً من العلاج، وإننا لم نتعامل مع المبادرة بمنطق وفهم تاجر قصير النظر لا يرى إلا تحت قدميه ولا يحسب إلا ربح يومه العاجل، ولكننا تعاملنا بمنطق وفهم الدعاة إلى الله سبحانه الذين ينظرون إلى مرضاة الله رب العالمين، وإلى مصالح ديننا العظيم، وإلى مصالح المسلمين في الدنيا والآخرة.
فعلى كل مسلم، يُقدم مصلحة دينه وأمته على مصالح ورغبات نفسه، ألا يتعامل مع المبادرة بالحسابات المادية التي تحكمها مقدرة العباد، ولكن عليه أن يتعامل معها بمنطق الشرع والدين، والذي تحكمه قدرة ومشيئة رب العباد تبارك وتعالى.
على كل مسلم يفهم دينه فهماً صحيحاً ألا يتعامل مع مبادرتنا بأسلوب صاحب الدنيا ضيق الأفق الذي لا ينظر إلا إلى الدنيا ولا يرغب إلا في متاعها، ولكن عليه أن يتعامل معها بأسلوب صاحب الدين الذي يتخذ من دنياه مقبراً لآخرته.
ويختتم ناجح ابراهيم مقدمة الكتاب موجهاً حديثه إلى إخوانه في الجماعة الإسلامية: «إن عليكم أن تعلموا أنكم أنتم، بطاعتكم لله تعالى والتزامكم بدينه العظيم وحسن تقديركم للأمور وحفظكم لمصالح الدين والوطن، ستظلون دائماً زهرات هذا المجتمع النقية الطاهرة التي ينبعث عطرها الزكي في كل اتجاه، لتبعث في هذا المجتمع قيم الاسلام العظيم وأخلاقه، ومبادئه السامية التي ترتقي بها الحياة إلى الأفضل في الدين والدنيا، لنعيد حضارة سلفنا الصالح، واعلموا أن المجتمع المصري لن يستغني يوماً عنكم، فأنتم جزء عزيز من قلبه ومن كيانه، ولن تستغنوا أنتم عنه لحظة واحدة، فهو المدرسة التي فيها تعلمتم قيمكم ومبادئكم وأخلاقكم، وهو البيئة التي جعلت منكم رجالاً صالحين.
واعلموا أن المجتمع والوطن في حاجة إلى أياديكم الطاهرة النظيفة المتوضئة، وإلى وجوهكم الساجدة الخاشعة في كل لحظة من تاريخه، وخاصة في هذا الوقت العصيب الذي تعاني فيه أمتنا الإسلامية أصعب أزمة مرت بها عبر تاريخها الطويل، فكونوا أبر أبناء الوطن بالوطن وخير أبناء الاسلام للاسلام، وأكرم عباد الله بعباد الله، فهذا هو دوركم ومقامكم الذي يريده منكم الاسلام.
واذا كان لكل وقت عبادة تميزه عن غيره، فإن خير عبادة في هذا الأوان الصعب هو المحافظة على قوة هذه الأمة وقوة الروابط بين أبنائها، كونوا كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وفي رواية لمسلم: «المسلمون كجسد واحد اذا اشتكى عينه اشتكى كله، واذا اشتكى رأسه اشتكى كله».
ونقول: «إن أكثر شيء نتقرب به إلى الله تعالى، بعد الايمان بالله ورسوله وأداء فرائضه، هو هذه المبادرة التي كانت كشجرة طيبة لم تنتج من الثمار إلا طيباً، وإن أكثر ما نتوسل به إلى رب العالمين سبحانه هو هذه المبادرة التي أرجو الله تعالى أن يتقبلها قبولاً حسناً وأفضل عمل نرجو له القبول عند ربي جل وعلا هو هذه المبادرة التي أدعو الله أن يتقبلها خالصة لوجهه الكريم. بل إننا نقول، إن أفضل سنوات عمرنا وأجلها تلك السنة المباركة التي تم فيها تفعيل المبادرة لتدخل الفرحة بيوتاً وصدوراً طالما سكنتها، وقوضت أركانها بالآلام والأحزان ويعم الخير أرض الكنانة التي أناط الله تعالى بأهلها مهمة القيام بدور القلب النابض بالحياة للأمة الإسلامية.
وإن أفضل قربة إلى الله سبحانه هي قضاء حوائج الناس وتفريج كربهم، وقد يكون هذا العمل في هذا الوقت أفضل من نوافل الطاعات، وقد كانت المبادرة بفضل الله جل شأنه سبباً في قضاء الكثير والكثير من حوائج الناس وتفريج كرب الكثيرين وحقن دماء مسلمة طاهرة وتجفيف دموع وتخفيف آلام مئات الأسر التي طال عناؤها.
وتم تقسيم الكتاب ـ الذي سنعرض له في الأيام التالية ملخصاً وافياً على حلقات، وفقاً لرؤية المؤلفين ـ إلى ثلاثة أبواب، تناول الباب الأول من خلال فصوله الثلاث الكلمات التي قيلت في الندوات والوصايا التي ألقاها قيادات الجماعة على أعضائها في السجون، وتناول الفصل الثالث ردود الفعل المختلفة وأهم الكلمات التي قيلت في حقها من قبل كبار الكتاب والمثقفين، وفيه هجوم شديد على قوى اليسار التي هاجمت مجموعة كتب المراجعات التي صدرت عن الجماعة.
وتم استعراض الأسئلة التي وجهت إلى القادة التاريخيين للجماعة في الفصل الثاني وهو ما اعتبروه مؤشراً صحياً على قبول مبادرة وقف العنف.
أما الباب الثالث والأخير فقد استعرض أحداث 11 سبتمبر (ايلول) عام 2001، وما سبقها من تأسيس الجبهة العالمية لقتال اليهود والأميركان، ثم تفجيرات نيروبي ودار السلام والمدمرة كول، ثم سيناريو ما حدث في 11 سبتمبر وضرب أفغانستان، وموقف الجماعة الإسلامية المصرية منها. واستعرض المؤلفون بالنقد والتحليل ما أسموه بنظرية المؤمرة التي تسيطر على أذهان الكثيرين من أن أحداث سبتمبر لم يقم بها تنظيم القاعدة، وإنما قام بها الموساد. وتبعه في الفصل الثالث أثر الاحداث على الاسلام والمسلمين سواء في فلسطين أو الصورة التي رسمت للاسلام في منظومة الغرب الثقافية والاعلامية، ومدى استغلال أميركا لهذه الأحداث لمزيد من التدخل السياسي والثقافي والعسكري في الدول الإسلامية. واتجه الكتاب بعد ذلك للحديث عن طالبان وسياساتها الغريبة التي أدت إلى نهايتها في نهاية المطاف. وأفرد فصلاً خاصاً عن الملا عمر باعتباره فقيهاً لا قائداً، على اعتبار أنه هو رأس القيادة في أفغانستان.
وقدم المؤلفون في الفصل الأخير نوعاً من التنظير السياسي والفقهي في الفرق بين إمارة الجماعات وقيادة الدول، باعتبار أن ذلك غير واضح لدى الكثيرين من أبناء الحركة الإسلامية. وكانت الجماعة الإسلامية قد سبق أن أصدرت أربعة من الكتب حملت عنواناً عاماً هو «تصحيح المفاهيم»، مع اطلاق السلطات المصرية مفتي الجماعة حمدي عبد الرحمن منذ ما يقرب من عامين، وكانت تفعيلا لمبادرة وقف العنف التي أطلقتها الجماعة الإسلامية في عام 1997.

الحلقة الثانية

 يواصل القادة التاريخيون للجماعة الاسلامية في كتابهم «نهر الذكريات» الحديث عن لقائهم بأعضاء الجماعة الاسلامية. وقد واجه القادة التاريخيون للجماعة الاسلامية خلال لقاءاتهم بأعضاء الجماعة في سجون مصر العديد من الأسئلة الصعبة والمحرجة يجملها الكتاب في نحو ثلاثين سؤالاً تعلقت بمجمل أوضاع الجماعة، وعلاقاتها بالدولة والمجتمع، وهو الأمر الذي استدعى من قادة الجماعة تخصيص الجزء الأكبر من كتابها «نهر الذكريات» تحت عنوان «أسئلة حرجة وأجوبة صحيحة».
يقول قادة الجماعة: «لم تكن ندواتنا ولقاءاتنا التي التقينا فيها بأبناء الجماعة الاسلامية في السجون، كما ظن البعض وروج، مجرد املاءات لوجهات نظر اقتنعنا بها، ولم يكن اخواننا، كما ظن البعض وروج، مجرد عرائس أو دمى طيعة بأيدينا نحركها على مسرح الاحداث كيف نشاء ووقتما نشاء».
* تعطيل الجهاد السؤال الأول الذي وجهه كوادر الجماعة لقادتها:
* هل نفهم من مبادرة وقف العنف أنكم عطلتم الجهاد، وتركتم اعتباره فرضا من فرائض الدين؟
ـ بداية لا يستطيع مسلم أن ينكر فرضية الجهاد وإلا كان منكرا لمعلوم من الدين بالضرورة، فالشارع الحكيم أوجبه على عموم المسلمين كفرض كفاية لدفع العادية على الدين وعلى البلاد، ولكنه كأي فرض من فرائض الدين لا بد من تحقق مشروعيته حتى يكون واجب الأداء، بمعنى لا بد من توافر شروطه وأسبابه وانتفاء موانعه ومراعاة مقاصد الشرع واستيفاء لمشروعيته يستلزم أمورا عدة، أهمها:

* الشرعية بمعنى التحقق من موافقته للشرع، فالأمر هنا عظيم وهو إراقة الدماء واستحلال الأموال، ويزداد الأمر خطورة أننا في مجتمع من المسلمين الذين عصم الله دماءهم وجعل حرمتهم أعظم وأشد من حرمة الكعبة ـ كما يذكر الحديث الشريف ـ لذلك فإن التحقق من أن الدماء المراقة هدرا شرط أساسي في تلك المشروعية، وينبغي أن تكون قطعية لا شبهة فيها، وأنه لا يوجد أي مانع شرعي من الموانع التي أشرنا إليها من قبل يمنع القتال، ثم ومن المشروعية أيضا عدم الاضرار بما للأمة من مصالح عليا، وخاصة تلك التي تمس حاجات الناس وأقواتها وأرزاقها ومرافقها الحيوية، فهذا الى جانب حرمته شرعا باعتبار ان تلك الأموال والمرافق من أموال المسلمين المعصومة، وان المضيع المباشر لها والمتسبب أيضا وان لم يباشر إنما يقع في محارم الله، فإنها أيضا تثير المجتمع وتستعديه وتفقده الثقة في الدعوة والدعاة، ولا يخفى ما كان من الأحداث السابقة من خلل في تلك المشروعية سواء على صعيد الضبط الشرعي والذي كثيرا ما افتقده المشاركون في هذه الأحداث، أو على صعيد الاستهانة بالدماء والأموال المعصومة والمرافق التي تمس حاجات الناس ولا يخفى أيضا أثر تلك الأحداث في استعداء المجتمع على الاسلام والمسلمين أولا وعلى دعوتهم ودعاته.
* صدق النية فلا يجوز للمسلم أن يتحرك لأي عمل يبتغي به الثواب إلا بنية صادقة وقصد يبتغي به وجه الله تعالى وإعلاء أمره. وأما دخول دعاوى العصبية والقبلية والثأر الشخصي والجماعي وصور الحمية الجاهلية المختلفة الى قصد العاملين، أو مثلا الرغبة في مجاراة الآخرين أو التحرك لنفي أقوال المشككين أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية لا شك أنه محبط للعمل ومفسد له ومضيع لثوابه، بل وقد يكون معصية في ذاته مجلبة لسخط الله من حيث أراد صاحبه أن ينال الثواب.
* غلبة المصلحة وذلك ان الجهاد ليس غاية في ذاته، وإنما شرعه الله لتحقيق غاية عليا هي حماية بيضة الاسلام وبلاد المسلمين وإعلاء راية التوحيد، وهي مصالح عليا تغياها الشارع الحكيم في أمره بالجهاد، فاذا ذهبت هذه المصالح أو كان قصد الانسان غير هذه المقاصد، أو كان هناك من المفاسد المترتبة على هذا الجهاد ما يربو على هذه المصالح، فإن الجهاد هنا لا يكون مشروعا.

وهذه المصالح لها عناصر متعددة، منها المصالح الدينية العامة من اقامة الدين ونشر دعوته ومنها حماية المسلمين ونسائهم وذراريهم وضعفائهم حتى لا يكونوا عرضة للتنكيل والفتنة في الدين، فان المفاسد الناتجة عن تجاهل هذه الحماية قد تربو على كثير من المصالح التي قد تقصد، ومنها توقع القبول العام من الأمة وتجييشها ضد العدو المشترك واشتراكهم في حماية دينهم وبلادهم، ومنها اختيار الزمان والمكان المناسبين للمعركة، وغير ذلك من العناصر التي ينبغي ألا يعدو اعلى تقديرها إلا أهل الخبرة والدراية من القائمين على أمر المسلمين ولا تترك هكذا في أيدي البعض ممن لا يحسنون تقدير الأمور.
ينبغي ألا يوكل النفير العام على أعداء أمة الاسلام ودينهم إلا الى اجماع الأمة من قادتها وأهل الحل والعقد فيها، ولا يكون ذلك للآحاد والأفراد أو حتى للجماعات التي لا ينتمي إليها إلا بعض الأمة قلوا أو كثروا، إذ أن المضار التي ستنتج عن هذا النفير ستقع بعموم المسلمين، والحسبة ممنوعة اذا كان سيترتب عليها الاضرار بالمسلمين، والجهاد نوع من الحسبة، لذا ينبغي ان يكون لممثلي عموم المسلمين والمقدمين والمطاعين فيهم دورهم في هذا الأمر.
والخلاصة.. ان الجهاد فرض يلزم أداؤه على من تعين عليه، ولا يستطيع أحد أن يسقط وجوبه، ولكن لا بد ان تتوافر لهذا الجهاد المشروعية التي تحقق الغاية منه وهي إرضاء الله وتحصيل الثواب، ولا تكون هذه المشروعية ـ بعد النية الصحيحة ـ إلا بتوافر شروطه ودواعيه وانتفاء موانعه التي أشرنا إليها، فليس كل من يحمل السلاح ويقتل أو يقاتل، يكون فعله جهادا يثاب عليه، ولكن الجهاد الذي هو مناط بالثواب هو الذي يوافق مراد الله تعالي من فرضه وإلا سقطت مشروعيته وذهب ثوابه.
* حادث الأقصر

* سؤال آخر: أثار حادث الأقصر كثيرا من التداعيات على مختلف الأصعدة سواء داخل الجماعة أو خارجها وكان لموقفكم الرافض بحسم لهذه الحادثة أثره في تداعي مقاومة الرافضين للمبادرة واحدا تلو الآخر حتى استجابوا جميعا لنداءاتكم المتكررة، بقي أن أسمع تفصيلا، لماذا رفضتم هذا الحادث، وما هو موقفكم الشرعي والواقعي منه؟
ـ نعم، لا شك أن حادثة الأقصر كانت نقطة فاصلة في تاريخ الجماعة وتعديل موقفها فقد كان للصدى المدوي الذي أحدثه هذا الحادث أثر كبير في توقف كثير من أبناء الجماعة ـ الذين عارضوا المبادرة في بدايتها ـ أمام أنفسهم ومراجعة ما سبق ثم كان أن ادركوا خطأ هذا المنحى الذي كانت تسير فيه الجماعة وسرعان ما بادروا الى التراجع عن موقفهم المعارض واحدا وراء الآخر حتى انتهت هذه المعارضة ـ بفضل الله ـ الى غير رجعة من جميع أبناء الجماعة.
لقد كانت بالفعل حادثة غريبة على فكرنا ومنهجنا فضلا عن مخالفتها للأدلة الشرعية التي سوف نسوقها في النهاية، كان غريبا ان يكون الرد على مبادرة شيوخ الجماعة الذين اعتادوا أن يقابل كلامهم ومواقفهم بالاحترام كعلاقة طبيعية بين شباب الجماعة وشيوخها بهذا العنف غير المسبوق بدلا من أن تلقى كلماتهم الاستجابة أو على الأقل التوقف لحين حدوث حوار يسمح بتبادل وجهات النظر للوصول الى الموقف الشرعي السديد من الأحداث ليلتزمه الجميع، وكان غريبا أيضا هذا العنف غير المسبوق الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء بالعدوان على النساء والأطفال والعجائز من السياح المسالمين الذين جاءوا الى بلادنا وهم يأمنون إليها فاذا بهم يتحولون الى ضحايا لنزاع لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وبهذه الطريقة البشعة، واختتمت هذه المأساة بمقتل هؤلاء الشباب.
ولكن لماذا كان قتل هؤلاء السياح حراماً؟ والحديث عن حرمة ذلك من عدة وجوه، أولها: عدم مشروعية قتل النساء والصبيان والعجائز حتى ولو كانوا من ديار تحارب بلاد المسلمين من أهل الكفر «من دار الحرب»، وفيها من النصوص الكثير نسوق منها:
1 ـ قوله تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا»، اتفق أكثر المفسرين على أن من العدوان قتل النساء والصبيان والعجائز «الحسن البصري، سعيد بن جبير، أبو العالية».

2 ـ قال الامام النووي: «أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذ لم يقاتلوا».
3 ـ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان.
4 ـ بل ان النبي صلى الله عليه وسلم أنكر أشد الانكار على خالد بن الوليد، سيف الله المسلول لما أخبر أنه قتل امرأة، وعلل ذلك بقوله: «ما كانت هذه لتقاتل» وأمره أن لا يقتل ذرية ولا عسيفا.

وبهذا المعنى تكلم العلماء من منع قتل النساء والصبيان حتى في الحرب ـ ما لم يقاتلوا ـ وحتى لو كانوا من أهل الكفر المحاربين للاسلام وعللوا ذلك بأن القتال والقتل إنما يكون لمن ينتصب لقتال المسلمين، وهؤلاء ليسوا كذلك حتى من عللوا بغير ذلك من العلل فانهم أكدوا على ذلك المنع.
وهنا ستسمع التساؤل: ولكن هؤلاء السياح إنما جاءوا ليفسدوا في البلاد بنشر الخمور والزنى والتبرج، بل ان منهم من يحمل داء الإيدز لينشره بين أبناء بلدنا، ومنهم من جاء ليتجسس على بلادنا لصالح أعدائها ألا ينبغي ان نتصدى لهم حماية لشبابنا وبلادنا منهم؟
والاجابة أن اصدار الاحكام الكلية شيء مخالف لنهج الشرع الشريف في الحكم على الناس، وان نسبة لا بأس بها من هؤلاء السياح من بلاد اسلامية جاءوا الى بلد الأزهر بين متعلم ومستمتع بمناخها الجميل أو متعرفا على ثقافة البلد وأبنائه، أما من لم يكونوا من بلاد الاسلام فإن اطلاق الحكم العام عليهم أيضا خاطئ، فإن أكثرهم جاء أيضا لأهداف مشروعة لا غبار عليها ولو كان فيهم القليل ممن تصف فإن الجريمة في الشرع والقانون شخصية ولا تعمم، وان الحق يقول: «ولا تزر وازرة وزر أخرى» (الأنعام 164). هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى، فإن انزال العقوبة بالمجرمين من ناشري الفساد والجواسيس ليس من اختصاص الافراد، إذ أن الأمر يتطلب الى جانب سطوة السلطان التي تسعى في حماية البلاد وابنائه، الى تحقيق قضائي يثبت الجرائم بوسائل الإثبات الدقيقة ليكون صاحبها بعد ذلك مستحقا للعقوبة، وهذا لايتأتى إلا للدولة بامكاناتها وسلطانها، أما الافراد فانهم يعجزون عن ذلك، فيضعون الأمر في غير موضعه.

الحلقة الثالثة

في هذه الحلقة من عرض أحدث كتاب أصدرته الجماعة الاسلامية المصرية «نهر الذكريات.. المراجعات الفقهية للجماعة الاسلامية»، يجيب قادة الجماعة عن السؤال الصعب الذي ظل يطاردهم من سجن الى آخر، وهو لماذا تم اطلاق مبادرة وقف العنف، والاسباب التي دعتهم لاطلاق هذه المبادرة؟ وهي خلاصة عشرة أشهر من الحوار
* لماذا مبادرة وقف العنف؟
ـ أطلقنا المبادرة حقنا لدمائكم والدماء عموما في مصر.

ـ أطلقناها حفاظا على الأنفس أن تهلك في غير ميدان، أو أن تقتل من دون مصلحة شرعية صحيحة، أو أن تزهق دونما هدف شرعي.
ـ أطلقنا المبادرة خدمة للاسلام والمسلمين وخدمة للوطن وليس خدمة لأغراض شخصية أو أهداف ذاتية، فنحن في السجن منذ عشرين عاما، ولو مكثنا مثلها مرة أخرى ـ ونسأل الله العافية ـ لتمسكنا بهذه المبادرة.
ـ أطلقنا المبادرة صونا لحرمات البيوت أن تنتهك، وحماية للبيوت والأسر المسلمة من أن تهدم، ولوقف مسلسل اليتم والترمل والطلاق، فالمبادرة جاءت من أجل مئات اليتامى من الفريقين، ومن أجل مئات الأرامل من الفريقين ومن أجل مئات الثكالى من الفريقين.
ـ أطلقنا المبادرة لأننا رأينا أنها هي الأقرب الى الحق، وهي الأهدى سبيلا، وان استمرار القتال لم يكن صوابا، ولم يكن الأهدى سبيلا.
قرار المبادرة قرار استراتيجي ناتج عن قناعة شرعية وبأدلة شرعية صحيحة لا تلتبس على كل ذي عقل سديد، وهي ناتجة أيضا عن رؤية مستبصرة للواقع من حولنا، وهذا عهد قطعناه على أنفسنا وألزمنا به أنفسنا قبل أن يلزمنا به أحد، وكلنا في ذلك نعيش مع قوله سبحانه وتعالى: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا» (الاسراء 34)، فالله لم يوجب الوفاء على عباده مرحليا أو وقتيا، ولكن الله ألزم عباده بالوفاء الدائم والكامل.
ـ أطلقنا المبادرة من أجل وقف ومنع عنف أدى الى أحقاد ونزاعات وثارات تولدت وكبرت بيننا وبين قومنا وأبناء وطننا وكادت تنسى الفريقين انهما من ملة واحدة ومن دين واحد ويصلون الى قبلة واحدة ويعبدون ربا واحدا.

ـ ان المبادرة التي أطلقناها ليست مقايضة بين دين وعرض زائل من الدنيا ولكن لوقف ومنع اقتتال منعته الشريعة الغراء لمفاسده العظيمة، وواجب شرعي تصدينا له بكل شجاعة.
المراقب لأحداث ما يقع من صراع بين الجماعات الاسلامية والشرطة يجد ان مسلمي هذا البلد من الشرطة والجماعات هم أكثر المتضررين من الصراع وآخر المستفيدين، فهذه الدماء والطاقات والأموال تصب فائدتها في خزانة أعداء الدين والبلد.
ـ والمبادرة ولدت في سنة 1997، ولكنها بعد ولادتها مباشرة تلقت لطمة عنيفة وصدمة شديدة أفقدتها الوعي أربع سنوات، ونحن حولها نعطيها الاوكسجين والمحاليل ونرعاها ويرعاها معنا الشرفاء من أبناء الوطن حتى أفاقت أخيرا ثم كبرت وترعرعت سريعا حتى أصبحت الآن في طور الشباب وتستعصي على الموت والهلاك، ولايضرها ـ إن شاء الله ـ شيء بعد ذلك، أما اللطمة العنيفة التي تلقتها وهي وليدة، فهي حادث الاقصر الذي كاد يودي بحياتها بل بحياة كل أمل لوقف نزيف الدماء، ولذلك لايسأل أحد عن ناتج المبادرة إلا منذ تفعيلها مع بداية الرحلة الى السجون من شهر اكتوبر (تشرين الاول) سنة 2001، فمنذ ذلك الوقت بدأت نتائج المبادرة الحقيقية في الظهور.
ـ من يُمن الطالع أن المبادرة أتت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) بخمس سنوات كاملة، ولو أن المبادرة تأخرت حتى حدثت هذه الأحداث لما كانت لنا أدنى مصداقية، والحمد لله ان المبادرة كانت استشرافا جيدا للمستقبل، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حوصرت الحركات الاسلامية في كل مكان، وضربت في كل مكان، وسجنت في كل مكان، ولكن هنا في مصر كانت تباشير الفرج والعافية، وفتحت الزيارات وبدأ خروج الناس من السجون رويدا رويدا.

الحمد لله ان المبادرة ووقف ومنع القتال جاء قبل الأحداث في فلسطين وقبل اجتياح شارون للأراضي الفلسطينية، ولو أن المبادرة تأخرت حتى حدثت هذه المجازر لمسلمي فلسطين لقال الناس جميعا في مصر وغيرها: هل من الشرع أن يقتل المسلم أخاه في مصر، ويترك اليهود يقتلون الفلسطينيين في كل مكان؟، لولا المبادرة لاتهمنا الناس إما بعدم فهم الشرع نصه وروحه أو بعدم فهم ابجديات السياسة في المنطقة أو بكليهما معا.
ـ الشباب المسلم سمع كثيرا عن الحث على الجهاد، ولم يسمع في مقابل ذلك الكثير عن ضوابطه، ولم يسمع كذلك الكثير عن موانعه، ولم يسمع كذلك متى يجب وقف القتال ومنعه، ولم يسمع كذلك كيف يكون الامتناع عن القتال أحب الى الله وأقرب للدين وأفضل للمسلمين، ومتى يكون الامتناع عن القتال موافقا للشرع نصه وروحه، وموافقا لصحيح الدين.
ـ القتال الذي حدث في التسعينات كان لرفع بعض المظالم التي حدثت، وللافراج عن المعتقلين من الجماعة الاسلامية، ولوقف بعض الممارسات العنيفة في السجون والمعتقلات، واطلاق حرية الدعوة الى الله، فماذا كانت النتيجة؟، زاد عدد المعتقلين من ألفين الى عشرين ألفا وحكم على العشرات بالاعدام ونفذ فيهم وحكم على مئات بأحكام مختلفة وتحولت المحاكم من مدنية الى عسكرية وضاعت دعوة الجماعة الاسلامية بالكلية بل كادت تضيع الدعوة الى الله بالكلية.
وفي إطار النقد الذاتي للجماعة يقول قادتها: نحن لن نستطيع أن نحيا حياتين أو نعيش أعمارنا مرتين، عمر نجرب فيه ونخطئ، وعمر نتعلم فيه من أخطائنا، فما الحل في هذه المعضلة؟ الحل ان نستعير خبرات الآخرين ودروس حياتهم.
من مبادئ الجماعة الاسلامية التي لم تنل حقها من الرعاية والعناية «وتستوعب ما سبقتها من تجارب» فقد قصرنا في العمل بهذه الفكرة العظيمة.
وقد يكون سبب التقصير هو:

1 ـ عدم انفتاحنا على الآخرين من الحركات الاسلامية في سياق التنافس الشريف على العمل للدين.
2 ـ أو الانشغال اليومي بالعمل الدائب الذي يحرم القائمين عليه من الراحة الذهنية والتفكير المتأني.
3 ـ أو تلك المواجهات المسلحة وغير المسلحة التي كانت مستعرة بدرجات متفاوتة.
* تكفير الشرطة:
وحول سؤال عن أن الجماعة تكفر رجال الشرطة لأنهم يحاربون الاسلام في شخص شباب الجماعات الاسلامية، يجيب القادة التاريخيون بقولهم ان الكفر والإيمان لايوجه للأجهزة والحوائط والأبواب، وانما هو حكم شرعي يوجه للافراد المكلفين دون غيرهم، اذا توافرت فيهم مواصفات معينة، وبالتالي فجهاز الشرطة كجهاز لايوصف بكفر ولا إيمان ثانيا: لم يقل ـ فيما نعلم ـ أحد من الفقهاء إن هناك وظيفة يكفر صاحبها بمجرد وجوده فيها، وإنما يوصف الانسان بالكفر اذا عمل عملا كفريا، أو اعتقد اعتقادا كفريا توافرت شروطه وأسبابه وانتفت موانعه، ولايحكم بكفره إلا بعد إقامة الحجة عليه التي يكفر تاركها، والتي لايردها إلا معاند، وعليه فرجال الشرطة مثل أي شريحة من شرائح المجتمع، لا يحكم على أحدهم بالكفر إلا اذا تحققت فيه المواصفات السابقة.

ولا ينبغي أن يفوتنا ونحن نتعرض لهذه القضية أن نلفت الى أثر هذه الدعوى الخطيرة في تمزيق شمل الأمة وتشتيت جهود أبنائها في تكفير بعضهم البعض واشاعة التباغض والاحتراب بينهم، ورجل الشرطة هو أخي وأخوك وابني وابنك، وكثيرا ما تجمعنا صلاة الجماعة في المسجد وأداء الحج والعمرة.
فحبذا لو توجهت الجهود ـ وبدلا من تضييعها في الحكم على الناس بالكفر والإيمان ـ الى العمل على نشر الدين والدعوة إليه وترك الحكم بالكفر والإيمان في مثل هذه المسائل الشائكة الى أهله من أهل العلم والاجتهاد، فنحن دعاة لا ولاة.
مدى المصداقية:
وحول تشكك بعض المثقفين في هذا التحول السريع للقواعد، والذي تصوروا أنه علامة على ان الجماعة إنما تبنت هذه المبادرة للخروج من المأزق الذي وجدت فيه نفسها، ولالتقاط الأنفاس واستجماع القوى ثم العودة بعد ذلك الى ما كانت عليه من قبل، بمعنى هل هذه المبادرة تكتيكية مرحلية أم انها استراتيجية بعيدة المدى، وماهي الضمانات لعدم العودة مرة أخرى لما سبق؟
يجيب قادة الجماعة من خلال ردودهم على الأسئلة بقولهم: هذه الفكرة لدى هؤلاء المثقفين إنما نشأت لعدم معايشتهم لأفراد الجماعة وعدم الاحتكاك المباشر بهم، والاكتفاء في تكوين فكرتهم عنهم من خلال حكايات الآخرين، أو من خلال التقارير والأوراق، ولذلك فنحن نسوق إليه الدلائل الآتية:

أولا: لقد استغرق التفكير في هذه المراجعات سنوات طوالا، استعنا فيها بعشرات الكتب والمراجع، وكانت قناعتنا بهذا التوجه ثمرة لجهد علمي كبير، وتراكم خبرات لسنوات طويلة.
ثانيا: إن المبادرة كانت منذ سنوات خمس: ثمرة لمحاولات سابقة كثيرة لانهاء تلك المواجهات، ولكنها جميعا لم تنجح لظروف مختلفة، تم نشر بعضها مثل لجنة الوساطة التي تكونت من مجموعة كبيرة من العلماء والمفكرين للسعي في إنهاء الأحداث والتي أعلنا الموافقة على ما تقوله دون تحفظ، ومنها ما لم ينشر لأسباب مختلفة.
ثالثا: لقد أدرجنا هذه القناعات التي لخصتها المبادرة في كتب واصدارات قمنا بطبعها وتوزيعها لتكون ميثاقا وعهدا بيننا وبين اخواننا وبين الآخرين، يجعل من مسألة التراجع عنها طعنا في مصداقيتنا ودعوتنا، ولم تكن دعوتنا مجرد كلمات قيلت في أحد المكاتب أو تداولناها بيننا سرا يسهل التنصل منها.
رابعا: لقد قمنا بشرح هذا الكلام بأنفسنا لاخواننا في السجون، ولم نتحرج من مواجهتهم بهذه الآراء، وصرحنا بموقفنا الصريح من الأحداث السابقة وما تم من تصويب وتصحيح، ولم نبال بما يمكن ان يحدثه ذلك من مشاكل داخل أبناء الجماعة، من منطلق أن توجهنا «لصحيح الشرع فوق كل اعتبار آخر.
خامسا: إن أكبر وأهم ضمان هو حصاد التجربة المريرة التي امتدت لسنوات وعاش فيها المجتمع المصري بكل طوائفه ـ ونحن بضعة منه ـ أياما شديدة أريقت فيها الدماء وتشتت فيها الجهود وتمزقت وحدة الأمة في مواجهة قضاياها العظمى وخاصة عدوها المشترك في فلسطين.

سادسا: الوعود والعهود التي قطعناها على أنفسنا، والتي يوجب الشارع الحكيم الوفاء بها وإلا كنا متلاعبين بالشرع واقعين في محارم الله.
ولا يفوتنا أن نشير الى أننا قلنا ما اعتقدنا من قبل أنه صواب وبمنتهى الوضوح والشجاعة وحبال المشانق معلقة فوق رؤوسنا، وكنا نعلم أن كلماتنا هذه قد تقودنا الى حتفنا، ولكننا قلناها دون أن نبالي، متحملين ما يترتب على ذلك ثابتين على حق اعتقدناه، وثقة في الله وتجاهلا واستهانة بكل النتائج المترتبة على ذلك.
ونحن اليوم نكرر ما سبق منذ عشرين سنة، ولكن في موقف آخر فنقول ما نعتقده حقا، ونتحمل نتائج ذلك ونعلم ما يمكن أن يقوله البعض علينا، ونحن نقوله أيضا لا ننظر الى النتائج، فقد أعلنا مبادرتنا من طرف واحد ولم ننتظر على ذلك جزاء من أحد، وواجهنا به اخواننا في السجون وفي الخارج، بل وواجهنا به المجتمع كله ونحن نعلم ما يترتب على ذلك، بل ونقولها ونحن ما زلنا في السجون، ولو بقينا في السجون ما بقينا ما تغير قولنا لأننا نعلم أنه الحق فلا ننظر لما يترتب على كلمة الحق من مخاطر ويتوجه أحد أعضاء الجماعة بسؤال الى القيادة: ذكرتم أنكم أنهيتم العنف وبدأتم عهدا جديدا من الدعوة الخالية منه، ماذا لو علمتم أن بعض أبناء الجماعة رافضون لهذه الدعوة، وأنهم مصرون على اقامة خلايا لإعادة دورة العنف السابقة وإفساد جهودكم السابقة في وقفه، وماذا سيكون موقفكم منهم؟

بداية، هذا الفرض لم يحدث ـ بحمد الله ـ ولن يحدث إن شاء الله تعالى، ومن شاهد الحفاوة التي استقبلت بها دعوتنا ومبادرتنا من اخواننا في السجون واستجابتهم الحاشدة لها، يدرك تماما أنهم جميعا كانوا يحملون الفكرة في قلوبهم ووجدوا في مبادرتنا أصدق تعبير عنها، بل ولقد استجاب لها كل اخواننا في كل مكان كان للجماعة فيه وجود، وجاءنا تأييدهم ودعمهم لهذا التوجه وكأنهم كانوا في داخلهم ينتظرون هذا التوجه. حتى من كره منهم هذا الأمر في نفسه لسبب أو لآخر فإنه التزاما بالعهود التي قطعناها على أنفسنا وحفاظا على ذمة اخوانه ومشايخه وثقة في عهودهم، فإننا نعلم أنه لايمكن أن يغدر بعد عهد أو يخالف اخوانه الكبار فيما تعهدوا به.
هذا هو نهجنا في علاقة أفراد جماعتنا بشيوخهم وحرصهم على الوفاء لهم، ولكن لو تصورنا جدلا حدوث ذلك ـ وأحسبه لن يكون ـ فإن مواجهته تكون على أصعدة أربعة:
الأول: هو نشر فكرة المبادرة بين الناس، وطرح أدلتها الشرعية والواقعية.
الثاني: اذا وجد من لم تستقر في نفسه هذه المعاني فينبغي أولا أن نسعى للحوار معه واقناعه بالنصوص الشرعية والرؤية الواقعية القائمة على التجربة الطويلة.
الثالث: وهي ولو فشلت كل تلك الجهود في اقناعه، وهذا احتمال بعيد وهو أكثر بعدا من سابقه، ووجدناه مصرا علي موقفه ولم يستجب لكل هذه المحاولات فإننا في هذه الحالة سنكون أمام منكر ينبغي التصدي له بضوابط الحسبة الشرعية التي أشرنا إليها، وينبغي أن يمنع بكل السبل من هدم المعبد على رؤوس أصحابه والعودة بنا الى دائرة العنف السالفة. نعم ينبغي التصدي له بكل السبل الممكنة، بل ويتصدى له بكل ما من شأنه أن يوقفه عند حده ويمنعه من التفريط في حق نفسه وفي حق اخوانه وفي حق مجتمعه فضلا عن تفريطه في حق دينه.
أما الرابع: فينبغي أن يعلن وبوضوح التبرؤ من أعماله، فإنه لاينبغي أن يكون في صفوفنا من يفكر في إعادة عجلة العنف مرة أخرى وإعادة المطاردة والسجون والاعتقال وإعادة الدماء المهراقة بغير حق والترمل واليتم ومحاربة الدعوة والتضييق على الدعاة، ولاينبغي أن يكون بين صفوفنا من يتجاهل تلك التجربة الطويلة والدروس المستفادة منها ويعود ليبدأ من حيث بدأنا ويعيد الكرة من جديد.. ولا ينبغي أن يكون بين صفوفنا قبل كل شيء من يتجاهل الأمر الشرعي المانع من هذا الاقتتال بين أبناء البلد الواحد الذي لايستفيد منه إلا العدو.

نعم ينبغي أن نتبرأ منه ونبصر المجتمع بخطورة دعواه لكي يشاركونا في التصدي له حماية للمجتمع منه وحماية له هو نفسه من نفسه.
ورداً على سؤال عن الموانع الشرعية التي دعت القادة لاطلاق هذه المبادرة والسعي لايقاف هذا الاقتتال، قال القادة التاريخيون: الحق ان هذه المبادرة حصاد رؤية ذات أبعاد متعددة، وثمرة لتجربة عريضة وواسعة، بل ومؤلمة في كثير من أحوالها، وثمرة أيضا لحوار واسع وطويل مع أطراف متعددة ودراسات جادة في أمهات الكتب، ونستطيع أن نوجز هذه الأبعاد في الآتي: تصدت المبادرة لايقاف الصدام الدامي الذي عانينا منه جميعا أبناء هذا البلد منذ صيف سنة 1992، والذي مزق أوصاله وأشاع حالة من الفوضى والتناحر، وذلك لتحقيق الهدوء تمهيدا لحل المشكلات القائمة بين الدولة وبعض من أبنائها، وتحديد سبل العلاج التي تحمي المجتمع من تكرار ما حدث لتفوت الفرصة على أولئك الذين يذكون نار الفتن ليصعدوا على جماجمنا جميعا لتحقيق مصالح شخصية وآنية محدودة متجاهلين مصالح البلاد.

كما أثمرت المبادرة فرصة لتحقيق واجب شرعي هام شغلتنا الأحداث المتلاحقة عن تحقيقه وهو واجب المراجعة الشرعية ومحاسبة النفس حول مسار الجماعة في العقود السابقة بالبحث عن مواقع الاصابة ـ وهي كثيرة ـ لدعمها وتطويرها وكذا البحث عن نقاط الخلل لاصلاحها وعلاجها، فقد كان هناك من الخير الكثير في الدعوة والطاعات والسعي للأخذ بهذا الدين بالصدق والاخلاص، وكان هناك أيضا بعض الخلل هو الذي أثمر تلك المبادرة سعيا لاصلاحه من خلال الكتب الاربعة، وما تلاها من جولة في السجون وحوارات وبيانات وغيرها.
وطرحت المبادرة كثيرا من القضايا والمواقف وناقشت شرعيتها، فوجدت أشياء تحتاج لتوضيح لما ألصق بنا فيها من اتهامات نتيجة أخطاء حدثت من بعض أفراد الجماعة كانت تحتاج الى تصويب وتصحيح.
والمبادرة كانت استجابة لرؤية تستبصر الواقع من حولنا على الصعيد الداخلي في مصر وعلى الصعيد الخارجي في العالم، وما نلقاه جميعا من تحديات تواجه العالم العربي والاسلامي افرادا وحكومات، وكان إنهاء العنف هو الاستجابة الوحيدة اللازمة لمواجهة هذه التحديات.

الحلقة الرابعة

 و في الحلقة الأخيرة من أحدث كتب الجماعة الاسلامية في مصر عن المراجعات الفقهية الفكرية «نهر الذكريات» يعلن القادة التاريخيون للجماعة رفضهم لنظرية المؤامرة التي سيطرت على أذهان الكثيرين بأن هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 لم يقم بها تنظيم «القاعدة» وانما قام بها جهاز الموساد الاسرائيلي، وينتقدون سياسة الملا عمر في قيادة حركة طالبان، ورغم اعلان احترامهم له كفقيه، الا انهم لا يعتبرونه رجل دولة، ويستندون في ذلك الى موقف الدول من حكم طالبان حيث لم يكن لها علاقات دبلوماسية سوى بثلاثة دول فقط. ويصف المؤلفون أحداث 11 سبتمبر في اميركا بأنها علامة فارقة في التاريخ المعاصر، وكانت بمثابة ميلاد جديد لعالم متغير جاء من رحم الأحداث «لقد بدا هذا الحادث الجلل وكأن كائنات فضائية هي التي ارتطمت ـ ليس ببرجي مركز التجارة العالمي ـ بل بكوكب الأرض كله فزلزلته وهزته هزا عنيفا، لقد بدأ الحادث وكأنه خارج سياق التاريخ الا انه في الواقع حادث فارق في التاريخ».
وحادث الحادي عشر من سبتمبر لم يكتسب هذا الوصف لبشاعته أو لكثرة عدد ضحاياه، ففي غروزني وحدها قتل الجيش الروسي عشرين ألف شيشاني مسلم، كما قتل سبعة آلاف وفقد خمسة آلاف من المسلمين في سربرينتشا على يد ميلوسوفيتش، والحوادث كثيرة وضخمة في عدد ضحاياها وبشاعتها، ولكن يبقى تميز حادث الحادي عشر من سبتمبر انه أصاب القوة العظمى الأولى والوحيدة في العالم، وأكبر قوة عسكرية في التاريخ وانه أصابها ليس في أبراجها، ولكن أصابها في كبريائها وكرامتها وكأن هذا الحادث قد أطلق قذيفة على عقال هذه القوة العظمى فأفلت هذا الثور الهائج يمينا ويسارا.
لم يصدم هذا الحادث الأميركيين وحدهم بل صدمنا نحن أيضا وانهار برجان عاليان عندنا في أفغانستان هما «طالبان» و«القاعدة»، واللذان ظن البعض انهما بعيدا المنال.
لقد دهمنا الحادث أكثر من ذلك بتداعيات خطيرة حيث وضع العالم العربي والاسلامي في مأزق المواجهة وجها لوجه مع المارد الأميركي بجبروته وسلاحه، لقد وجدت الدول الاسلامية والعربية نفسها ـ وكذلك الحركات الاسلامية ـ في ساحة معركة لم ترد دخولها ولم تحسب لها ولم تستعد، بل هي أضعف من ان تفكر في الدخول فيها.
لم يكن عام 2001 عاما عاديا ـ لا عربيا ولا اسلاميا ولا عالميا ـ وما ذلك الا بسبب تلك اللحظات «الفارقة» صبيحة يوم الحادي عشر من سبتمبر من ذلك العام والتي قسمت تاريخ الولايات المتحدة والنظام الدولي بأسره الى عالم «ما قبل» وعالم «ما بعد» تلك الدقائق الفاصلة التي ميزت بين مرحلة ذهبت الى حالها ومرحلة جديدة من مراحل المواجهة التاريخية في طور جديد ومختلف بما أثارته تلك الدقائق من اشكاليات فكرية وسياسية وتاريخية ودينية وحضارية وثقافية على نحو واسع.

فالتغيير الذي أصاب النظام الدولي بعد الحادث عشر من سبتمبر أصاب في العمق نظام التفاعلات الدولي وكذلك قائمة الأولويات الدولية. ولعل أبرز ما يعنينا في هذه الأولويات هو تدني مرتبة «القضية الفلسطينية» والأمر الثابت من تأمل مجريات الأحداث عقب الحادي عشر من سبتمبر ان العالم الاسلامي والعربي أضحى هو الهدف الأول والأكبر، بل هو الهدف الوحيد للسياسة الاميركية الجديدة والمدعومة بالشرعية الدولية «القسرية».
واستعرض المؤلفون في كتاب «نهر الذكريات» ارهاصات الحادث، وتطرقوا الى اعلان تأسيس الجبهة الاسلامية العالمية لقتال الاميركيين واليهود عام 1998، وقالوا: فوجئنا ـ نحن مجلس شورى الجماعة بالداخل ـ ان «الجماعة» هي احدى الفصائل المؤسسة لهذه الجبهة العالمية بتوقيعها على «وثيقة» اعلان الجبهة، تعجبنا وتحيرنا.
ولم نلبث قليلا حتى تبين لنا ان الشيخ رفاعي احمد طه ـ تسلمته مصر فيما بعد عن طريق سورية ـ قد بادر «من تلقاء نفسه ومن دون الرجوع الى مجلس شورى الجماعة سواء بالداخل أو الخارج أو حتى استشارة ذوي الخبرة والنهي من قيادات أو أفراد الجماعة» بادر باعلان موافقته «باسم الجماعة» على الانضمام للجبهة فكان هذا قرارا فرديا بحتا يخالف ـ جملة وتفصيلا ـ أبجديات اتخاذ القرارات داخل الجماعة.
وبمجرد علمنا بذلك أرسلنا الى الشيخ رفاعي بموقفنا الواضح بالرفض التام للانضمام الى «الجبهة العالمية» وتداركا منا لقراره الفردي الغريب أرسلنا اليه بضرورة اعلان «انسحاب» الجماعة الاسلامية من الجبهة العالمية فورا والا سيتم ابعاده تماما عن الجماعة.

وقد كان، فقد أعلن الشيخ رفاعي انسحاب الجماعة من الجبهة وعدم وجود أي رابطة تنظيمية بها بالمرة وكان ذلك قبل حادث تفجير سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي ببضعة أيام.
فكان هذا القرار توفيقا من الله تعالى واستشرافا واعيا للمستقبل برهنت على صحته الأيام والأحداث التالية له.
وهنا قد يتساءل البعض.. لماذا حرصت الجماعة ـ وبقوة ـ على عدم الانضمام الى «الجبهة الاسلامية العالمية لقتال الاميركيين واليهود»، وهذا ما سنجيب عليه في الصفحات التالية بعنوان «هل تعتبر جنسية المرء مسوغا لقتله» و«حكم قتل المدنيين».
* قتل المدنيين
* يتعرض القادة التاريخيون للجماعة الاسلامية في خلفية اعتراضهم على تلك الأحداث لمبدأ فقهي في «حكم قتل المدنيين». «فالاسلام يحرم قتل المدنيين، والسيوف الاسلامية لها اخلاق والجيوش الاسلامية لها قيم والدستور الاسلامي في القتال ليس فيه ظلم ولا طغيان، وتاريخ الاسلام حافل بالفتوحات العظيمة في مشارق الارض ومغاربها، فما سمعنا يوما ان جيشا قتل شعبا، فالجيوش الاسلامية ـ وفق دستورها الحنيف ـ لا تقاتل الا من ينتصب لقتالها ويشهر السيف في وجهها.
فالاسلام دين الرحمة، والقتل محرم أصلا في ديننا الحنيف، وانما أبيح لمصلحة كبرى هي الدفاع عن هذا الدين ورد العدوان وكذلك فما ان يتحقق النصر حتى تغمد السيوف وتبدأ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولعل أبرز قيم دستور الاسلام في القتال هو: «تحريم قتل النساء والأطفال والشيوخ والفلاحين والتجار والرهبان والعميان وسائر من لم ينتصب لقتال المسلمين».
ويضيف الكتاب: نقول بايجاز، ان هذا الحرص انما ينبع من اعتراضنا «الشرعي» على ذلك « الهدف» الغامض الذي يعكسه بوضوح اسم: «الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والأميركيين» والذي تتناوله «وثيقة» اعلان الجبهة وتحديدا «استهداف الاميركي» لمجرد كونه يحمل هذه الجنسية بغض النظر عن كونه رجلا أو امرأة، مدنيا أو عسكريا، مسالما أو محاربا وأما عن التكييف «الشرعي» لهذه الرؤية ـ وفق تحليل الوثيقة ـ فيعتمد على الآتي:

ـ بما ان الولايات المتحدة «تحتل» أراضي المسلمين «المقصود بذلك هو الوجود العسكري المكثف منذ عاصفة الصحراء».
ـ وبما ان كل «أميركي» ـ من خلال عمله بمؤسسات دولته وكذلك سداده للضرائب لحكومته ـ يدعم هذا الاحتلال اذن: فهو «محارب» للاسلام والمسلمين يجوز قتله وقتاله في كل زمان ومكان.
ونحن نختلف مع أصحاب هذه الرؤية لأننا نؤمن بأنه لا يجوز قتل المدنيين ولا النساء ولا الأطفال، ولا التجار ولا الفلاحين ولا حتى الرهبان المنقطعين في أديرتهم حتى مع اعتقادنا بكفرهم، فالاسلام يحرم قتل الكفار الا اذا انتصبوا لقتالنا. وفي هذا المعنى هناك العديد من النقول الصحيحة سنوردها في موضعها لاحقا ان شاء الله تعالى. وفي ضوء هذه الرؤية وهذا الضابط الشرعي الجلي كان حرصنا على عدم الانضمام لهذه الجبهة.
أضف الى ذلك ان طبيعة العلاقات الدولية وآليات الصراع في المجتمع الدولي المعاصر تفرض وجوب دراسة متعمقة متأنية لكافة أبعاد ومعطيات الموقف وحساب دقيق ومحكم لكافة تداعيات وآثار كل خطوة من هذا القبيل قبل الشروع فيها، ولهذا كان الانسحاب ضرورة شرعية وواقعية.
* بيان الجماعة حول الأحداث

* وبعد تأمل عميق للحدث واستشراف أعمق للمستقبل بادرت الجماعة ـ في غضون بضعة أيام فقط ـ الى اصدار بيان دقيق محدد يتناول موقف الجماعة من الحدث في ضوء النقاط الهامة التالية:
1ـ عدم مسؤولية الجماعة عن الأحداث لا من قريب ولا من بعيد «وتلك حقيقة كان لا بد من ابرازها».
2ـ تقييمنا للحدث من زاوية عدم مشروعية قتل المدنيين «سواء من العاملين بمركز التجارة العالمي أو ركاب الطائرات»، بالاضافة الى مخاوفنا ـ والتي تحققت فيما بعد ـ من آثار وتداعيات الأحداث على الاسلام والمسلمين وحكوماتهم ودولهم وثرواتهم ومقدراتهم ولقد كان هذا البيان الواضح في هذا الوقت الحرج استشرافا واعيا من الجماعة لمستقبل الأمور، ولعل من أهم ثماره أنه جنب الجماعة ووقاها من غضبة خصم غشوم لا يرعى للمسلمين حرمة ولا يرقب فيهم ذمة.
وبعد استعراض تاريخي لحركة «طالبان» الافغانية وموقف القوى القائمة منها فند المؤلفون ما أطلقوا عليه نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث.

* نظرية المؤامرة.. تحليل ونقد
* تضاربت الآراء حول من قام بالحدث؟ أهو اسامة بن لادن أم غيره؟ وتوالت النظريات التي تفسر الحادث ودواعيه وفاعليه، وكان أظهرها نظرية «المؤامرة»، ووفق هذه النظرية وأصحابها فان أحداث الحادي عشر من سبتمبر دبرها الاميركيون أنفسهم واتخذوا منها ذريعة للدخول الى افغانستان واحتلالها.
أو ان الأحداث دبرها ونفذها الموساد لكي يورط العرب والمسلمين في حرب غير متكافئة مع اميركا والغرب، ويستدل أصحاب هذه النظرية باستدلالات واهية لا يقبلها كل ذي عقل سديد، فيستدلون بأشياء قدرية وقعت يوم الحادث ويغفلون عن آلاف الأدلة والقرائن الأخرى التي تدل على ان تنظيم «القاعدة» هو الذي خطط ونفذ هذه العملية ولعل أبرزها ما صرح به قادة وشيوخ هذا التنظيم صراحة.
ومن أشهر من تبنى «نظرية المؤامرة» تلك: الكاتب الفرنسي «ميسان» في كتابيه: «الخديعة» و«بنتاجيت»، حيث ادعى ان الاميركيين أنفسهم هم الذين صنعوا الحدث وان كان هذا الكاتب «الغربي» لا يهمنا في شيء.
ولكن ما يحزن حقا هو ان كثيرا من العرب والمسلمين ممن كتبوا عن الحادث أخذوا بنظرية المؤامرة بشكل أو بآخر في تفسير الحدث، فبعضهم نسب الحدث الى المتطرفين الاميركيين ـ كما حدث في تفجيرات أوكلاهوما ـ وبعضهم قال فعلته المخابرات الاميركية وبعضهم قال فعله الموساد، الى آخر هذه التفسيرات السقيمة.
وللأسف فان أكثر المقتنعين بنظرية المؤامرة تجدهم في الوطن العربي والاسلامي، ومما يدعو للدهشة ان بعض المفكرين الاسلاميين والعرب يعتنقون هذه الفكرة ويجعلونها محورا دائما لتفسير الأحداث التي تمر بنا، بل ويعلمونها للناشئة الصغار ويربونهم عليها وهذا هو الأدهى والأمر.

ان نظرية المؤامرة هي أسوأ نظرية تعوق العقل العربي والاسلامي عن الانطلاق، وتحد من قدرته على حل المشكلات لأنها لن تجعله يحلل المشكلات تحليلا سليما، وبالتالي فلن يعرف حدودها وأسبابها بدقة.
فمثلا: اجتياح العراق للكويت عام 1990 مؤامرة اميركية دبرتها اميركا للعراق، مع ان الجميع يعلم غير ذلك، وقتل الشيخ الذهبي على يد جماعة التكفير مؤامرة دبرتها الحكومة ونفذتها للتخلص منهما معا، مع ان القاصي والداني يعلم غير ذلك، وحرب اكتوبر «تمثيلية» بين السادات واسرائيل واميركا لتحريك الموقف، مع ان كل ذي عقل سديد يعلم انها من أعظم حروب المسلمين في العصر الحديث والتي رفعت رأس العرب والمسلمين عاليا.
وكذا أحداث الحادي عشر من سبتمبر دبرها الموساد لكي يسلط اميركا على العالم الاسلامي، والحقيقة طبعا غير ذلك، وقتل السادات بتدبير المخابرات الاميركية وبمؤامرة اميركية، وهذا أيضا مخالف لأبسط الحقائق في هذا الحادث.
وما دام بعض العرب والاسلاميين يتبنون «نظرية المؤامرة» واننا مبرأون من كل خطأ وان كل ما يدور حولنا هو نتيجة مؤامرة امبريالية صهيونية غربية وما دمنا كذلك فلن نتقدم أبدا.

ان المعنى الحقيقي لـ«نظرية المؤامرة» هو إلغاء ارادتنا وارادة كل أحد سوى أعداء الاسلام، وتعليق كل أخطائنا وسلبياتنا على شماعة المؤامرة الاميركية الصهيونية، وكأننا لا دور لنا في أي حدث يحدث في العالم.
وأنصار نظرية المؤامرة يرون في العلاقات الدولية مجرد تآمر وليس تلاق وتعارض مصالح تتطلب التخطيط لتحقيقها، ويعولون على العامل الخارجي «الاميركي» في تفسير كل مآسينا، وتجاهل أخطائنا الاستراتيجية.
ومن أبرز وأسوأ الكتب التي شكلت العقل العربي المهيأ أساسا لنظرية المؤامرة وجعله يتقبل ويعجب بهذه النظرية هو كتاب انتشر بين شباب الحركة الاسلامية في الستينات والسبعينات وهو كتاب «أحجار على رقعة الشطرنج»، وقد أتى هذا الكتاب بسلبيات كثيرة شوهت العقل العربي والاسلامي وشوشت فكره وكانت سلبياته أكثر من ايجابياته.
ذلك كله فضلا عن اشعار المسلمين انهم لا ارادة لهم ولا فائدة من ان تكون لهم ارادة للتغيير الايجابي.
* الملا عمر.. ثقافته وخبرته
* ليس تحقيراً من شأنه ولا انتقاصا من قدره، نقول انه ـ رحمه الله حياً وميتاً ـ تخصص منذ وعيه وادراكه في تلقي الفقه الاسلامي الشرعي من أمهات كتب السلف وعلى يد معلميه الشرعيين، ولم تتح له فرصة دراسة أو معايشة الواقع لا الاقليمي ولا الدولي، ولم يدرس ذلك لا أكاديميا ولا عمليا ولا حتى وراثيا.
وحتى تلك الفترة العصيبة التي عاشها في افغانستان ابان الاحتلال السوفياتي لها كان آنذاك في مقتبل عمره وكان هناك في مدارس ومعاهد العلم الشرعي في باكستان بمنأى عن معترك السياسة وخضم القيادة.
وقد أهلته ملكته العلمية وفصاحته الخطابية ـ فضلا عن صدق نيته واخلاصه ـ لأن يتبوأ موقع الصدارة بين رفقائه من طلاب العلم الشرعي فأصبح أميرا على جماعته، وفارق كبير جدا بين امارة جماعة ورئاسة دولة.
وقيض الله لحركة طالبان أن تسيطر على 95 في المائة من أرض أفغانستان، ويبدو ان مكانة الملا عمر الروحية بين افراد حركته جعلت له موقع الصدارة كذلك في أجهزة الدولة الناشئة، الا أن التجربة العملية والسنوات القلائل التي تولت فيها طالبان رئاسة البلاد وعلى سدة حكمها الملا عمر برهنت انه ـ رحمه الله ـ فقيه لا قائد.
ستظل افعانستان ـ ربما لحقب طويلة ـ تمثل المعادل المكافئ لكلمة «المأساة»، فلقد تحولت افغانستان من حلم جميل يراود ملايين المسلمين، ومن مشروع جهادي نضالي عظيم الى أعظم مأساة في تاريخ المسلمين، الحديث والمعاصر، وربما لا نبالغ اذ نقول: انها من كبريات النكبات التي دهمتنا بعد سقوط الخلافة وضياع فلسطين.

لقد صنعت مأساة افغانستان وتشكلت على يد أبنائها وبسبب رواسب ثقافية وعرقية عتيدة ومصالح شخصية ونزعات حزبية لم تستطع السنوات الطوال محوها، وطالما أبكانا المشهد الافغاني بتداعياته المختلفة، بكينا ونحن نشاهد جموع المجاهدين وهي تدخل كابول وظننا وقتها ان الحلم قد تحقق وقد آن للشعب الافغاني ان يتنسم عبير الحرية ويضمد جراحه ويكفكف دموعه، ولكننا كنا واهمين، فما ثم قليل الا ودوي المدافع يبدد الأحلام ويقضي على الآمال، ووقف مجاهدو الأمس يتصارعون ويتقاتلون والشعب الافغاني لم تندمل جراحه بعد، فدفع الثمن من دمه وماله، وبدا المشهد قاتما بل سوداويا.
ولاحت بوارق الأمل من ظلمة المحنة عام 1997 وطلاب المدارس الشرعية المعروفون باسم «طالبان» يتدخلون بقوة لحسم الأمر وفض النزاع واعادة الأمور الى جادة الصواب، وتحقق لهم ما يصبون اليه وسيطروا على ما يقرب من 90 في المائة من اراضي افغانستان، والحق يقال فقد بدا المشهد الافغاني أكثر صفاء ونقاء، فقد تحقق الأمن للشعب الافغاني بعد غياب سنوات طويلة، واختفى قطاع الطريق ونقاط تحصيل الاتاوات ودمرت مزارع الخشخاش وحوصرت تجارة الأفيون وظل المشهد الافغاني يبدو ظاهريا كأفضل ما يكون، الا من بعض المنغصات من جانب تحالف الشمال ورئيسه شاه مسعود.
وحاولنا ـ للأسف الشديد ـ ان نغض الطرف عن بعض ممارسات طالبان طيلة السنوات الماضية قانعين أنفسنا ان الأمر قد يكون مغاليا فيه، أو غير صحيح بالمرة، ولكن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما استتبعها من أحداث لتنازعنا عن موقف المشاهد المتفرج وتضعنا في موقف المحلل المدقق استنهاضا لمسؤوليتنا تجاه أمتنا، فلقد كان المشهد مروعا في جاجي وتورابورا وقندهار وجلال آباد وغيرها، وما زلنا حتى الآن نقف على أطلال هذه المشاهد نذرف عندها الدمع على أرواح أزهقت وحرمات انتهكت، ولكننا أبينا الوقوف طويلا، فالمأساة جد خطيرة، وما جاجي وتورابورا وغيرهما، الا انعكاسات أليمة لهذه المأساة المتشعبة الجذور في التربة الأفغانية، والمقام لن يتسع لشرح وتحليل وتفنيد المأساة بالصورة كاملة، ولكننا سنحاول إلقاء الضوء على أحد جوانب المأساة.. ألا وهو شخصية الملا عمر.

فبادئ ذي بدء، يعلم الله اننا نكن الحب والاحترام لكل مسلم صادق مع ربه، والملا عمر نحسب انه من أولئك الرجال الذين أرادوا وجه ربهم وصدقوا معه، فالرجل رضي لنفسه ان يحيا حياة الزاهد المتقشف وهو رئيس للدولة، وحاول جهد طاقته ان يطبق الاسلام في حياة الناس، وكان الرجل عازفا عن الشهرة والأضواء، ويكفي انه استطاع بقيادته لطالبان تحقيق الأمن للمواطن الافغاني، واضفاء نوع من الهدوء على أفغانستان لم تشهده البلاد منذ سنوت طويلة، لقد اجتهد الملا عمر ـ بحسب طاقته وقدر جهده ـ ولكنه ـ شزن البشر ـ كان معرضا ان يقع في اخطاء، ولكنها في حالته كانت من الأخطاء القاتلة التي عجلت بانهيار دولة طالبان، ووقوع افغانستان فريسة الأسر الأميركي وهي التي ما انفكت تضمد جراح الأسر السوفياتي.
لذا كانت الأسطر التالية محاولة للاستفادة وليست ـ يعلم الله ـ للتشهير أو الشماتة، وكيف ذاك والجرح جرحنا، والمأساة جزء من تفكيرنا، ليس عيبا ان ننقد ذاتنا طالما انه في صالح انارة طريقنا، لقد أحببنا الملا عمر وتعاطفنا معه، ولكن حبنا للحق أقوى وأشد، ولقد عاتب الله صحابة نبيه رضي الله عنهم بعد أحد: «منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة» (آل عمران: 152)، وما نقص هذا من قدرهم شيئا.
لقد كانت أولى أخطاء الملا عمر انه قاد دولة افغانستان بنفس العقلية التي كان يقود بها جماعة طالبان، ففرق كبير وبون شاسع بين قيادة الدول وقيادة الجماعات، وهذا أمر لم تبد له انعكاسات على تصرفات الملا عمر، لقد كان ينبغي عليه ان يتعامل مع افغانستان صاحبة التركيبة السكانية المعقدة بعقلية رجل الدولة الحصيف الذي يتعامل مع الواقع، كما هو لا كما ينبغي فمن المعروف ان افغانستان تضم العديد من العرقيات المتناحرة، فالباشتون يمثلون 40 في المائة والطاجيك 25 في المائة والاوزبك 15 في المائة والشيعة 20 في المائة.
أمشاج ونطف مختلفة كان ينبغي على الملا عمر توسيع دائرة المشاركة السياسية لصهرها في بوتقة واحدة تخدم أمن أفغانستان في نهاية المطاف، ولكن الملا عمر تعامل معهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وأعلى من قيمة العرق الباشتوني، فكانت النتيجة ان ارتمت هذه العرقيات في أحضان مسعود ودوستم وفهيم وغيرهم وبعد ذلك في أحضان الأميركان، وكانوا بمثابة مخلب القط الذي نهش ومزق أوصال دولة افغانستان.
لقد كان ينبغي عليه ان يتبع سياسة الاحتواء تجاه العرقيات الأخرى ويحاول ان يبحث عن وسيلة أخرى غير الحرب والسلاح لادماجهم في الحياة الافغانية وان يعاملهم بمبدأ «القبول والاعتراف» لا «الرفض والاستبعاد»، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر الى المدينة اتبع سياسة الاحتواء تجاه العناصر المناوئة له، لذا كان ينبغي على الملا عمر ان يوطن نفسه انه رئيس لدولة تضم أعراقا شتى ورعايا أخر وبعض الديانات وعليه ان يتعامل مع كل هؤلاء كما تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الآخرين في مجتمع المدينة.

ثم انه قد يكون طبيعيا ان تعيش جماعة «طالبان» في جزيرة منفصلة عن العالم ولكن هذا الوضع لا يصلح لدولة مثل افغانستان فوجدنا الملا عمر يهمل ادماج افغانستان في الحياة الدولية، ولم يقم علاقات دبلوماسية سوى مع ثلاث دول فقط وخسر ايران جارته القوية عندما قتل بعض الدبلوماسيين الايرانيين وهو أمر مخالف لكافة الأعراف الدولية حتى في حالة ثبوت تجسسهم، وهكذا عاشت افغانستان وحيدة حبيسة الجبال العتيدة، تجرجر أذيال الفقر والتخلف التي عمت البلاد.
ثم كان الخطأ الثاني الذي وقع فيه الملا عمر عندما أهمل الاهتمام بالشعب الافغاني صحيا وتعليميا واجتماعيا واقتصاديا، ولم يهتم برفع معدلات التنمية ـ المنعدمة أصلا ـ لشعب يصنف في خانة أشد دول العالم فقرا، واتخذت السلطات الافغانية موقفا متشددا من المرأة فألغت وجودها وضيعت حقوقها التي كفلها الاسلام، كل هذه عوامل أدت الى انهيار المجتمع الافغاني تحت وطأة الدولار والهامبورغر الاميركي.
بل ان الملا عمر لم يهتم بتحقيق التواصل بينه وبين الشعب الافغاني، بل لعله اعتبر هذا أمرا تافها لا يستحق الذكر، مع ان قادة الدول رؤوس العمل السياسي ينفقون الأموال الطائلة لتحقيق هذا التواصل الجماهيري، ولكن الملا عمر ألغى وسائل الاتصال الاعلامي مثل التلفاز والانترنت ولم يهتم بالاستفادة من هذه التقنيات لخدمة الاسلام في بلد كأفغانستان ترتفع فيه نسبة الأمية ويصبح للكلمة المسموعة دور ايجابي عظيم.
من الطريف ان أكثرية الشعب الافغاني لا يعرف صورة الملا عمر ولم يره الا القليل من أبناء الشعب الافغاني.
قد يكون الشعب الافغاني أحب طالبان ولكنه لم يرتبط وجدانيا بالفكرة التي حملتها طالبان، فلم يسع الملا عمر وقادة طالبان الى تربية الشعب الافغاني تربية ناضجة راشدة تخرجهم من مرحلة البداوة الحضارية التي يرسفون في اغلالها الى مرحلة التحضر الفكري والتقني.
ما كان الشعب الافغاني يستحق المعاناة من حكامه وقادته، فله حق في الحياة مثل بقية الشعوب والأمم وما قدر عليه ان يعيش بين الاطلال والخرائب يبحث عن لقمة تسد رمقه، وتكون أغلى أمنية تتمناها المرأة الافغانية أن توفر لها الحكومة قابلة لأن النساء يمتن أثناء عملية الوضع.

هذا الحصار الفكري الذي فرضه الملا عمر على الشعب الافغاني قد يكون مقبولا ان يفرضه قائد جماعة على أفراد جماعته ولكنه ليس مقبولا بالمرة من حاكم دولة على شعبه، فالانفتاح على الآخرين ليس معناه الذوبان وتمييع الشخصية المسلمة وهذه مهمة القادة والمربين، فالمسلمون في حركة الفتوح الأولى اصطدموا بحضارات تمتلك رصيدا ماديا ضخما وأيضا فكريا لا يستهان به فلم يضربوا حول ذواتهم عزلة تقيهم من هذه الشرور، بل وقفوا أمام هذه الموروثات الفكرية والمادية الضخمة وقاموا بعملية تنقية ضخمة في استعلاء ايماني عظيم فقبلوا كل ما وافق الاسلام، واستبعدوا كل مضاد ومخالف له، ولكن الملا عمر آثر الحل السهل، وقد يكون سهلا في قيادته لجماعته المتوحدة فكريا بل وتقريبا عرقيا، أما في شأن قيادة الشعوب فلا مناص من الاعتراف بالفشل.
أما ثالثة الأثافي والخطأ الاستراتيجي القاتل الذي أودى بالدولة وبطالبان فهو ما قام به الملا عمر بربط مصيره ومصير الدولة بل ومصير شعب بأسره بمصير تنظيم «القاعدة» وقائده اسامة بن لادن، فقد يكون مقبولا ان تتحالف جماعة مع نظيرتها أو دولة مع مثيلتها، أما أن تتحالف دولة ذات سيادة مع تنظيم فهذا هو الجديد في حالتنا، اننا قد نتفهم ان يوفر الملا عمر مكانا آمنا لكل من شارك الشعب الافغاني جهاده ضد السوفيات وهذا أقل ما يقدم لهم، ولكن ما كان ينبغي ان يسمح الملا عمر لتنظيم «القاعدة» ان يستخدم أراضي افغانستان كقاعدة للانطلاق لشن هجمات على المصالح الاميركية والغربية، فالحكم على الرعية منوط بالمصلحة كما تقول القاعدة الفقهية، والمصلحة هنا تقتضي وقف كل هذه الانشطة ومنع تنظيم القاعدة من جر البلاد الى مواجهات لا طاقة لها بها، والشأن هنا لا تحكمه العواطف الجياشة بل التفكير المتزن الذي يقدر عواقب الأمور ويحسبها.
* تجربة السودان
* لقد كادت دولة السودان أن تضيع من قبل عندما سمحت النخبة الحاكمة فيها بوجود وضع مشابه لما حدث في افغانستان بعد ذلك، ولكن الله سلم، واستدركت القيادة السودانية الأمر وصححت أوضاعها، وهي تجربة على ما يبدو لم يستفد منها الملا عمر وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتضع افغانستان وجها لوجه أمام أميركا بصلفها وجبروتها وقوتها العسكرية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا، ولقد كان القصف الصاروخي الاميركي عام 1999 بمثابة الانذار وناقوس الخطر الذي دوى للجميع، وكان ينبغي على الملا عمر ان يحجم تنظيم «القاعدة» رحمة بشعبه وبدولته ولكنه غض الطرف عن كل هذا حتى وقع ما وقع ولم يبق لنا سوى احصاء موتانا.
وهكذا تمضي تجربة الملا عمر مليئة بالدموع والأوجاع، وفي الوقت ذاته بالعبر والعظات التي ينبغي على كل محب لدينه أن يقف أمامها معتبرا، كذا ينبغي على جميع ابناء الحركة الاسلامية ان يعوا هذا الدرس جيدا فهذا رجل أحب دينه وأخلص له ـ نحسبه كذلك ـ ولكنه لم يمتلك الحس السياسي والعقلية الاستراتيجية اللتين تمكناه من قيادة الدولة، فالصلاح وحده ليس مقوما لقيادة الدول وسياسة الشعوب، فها هو أبو ذر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر انك ضعيف، وانها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة الا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، قال العلماء: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف وهو من دخل فيها بغير أهلية، والضعف هنا ليس ضعف الايمان كما يتصور البعض فلم يكن أبو ذر ضعيف الايمان أبدا بل كان معروفا بقوة الايمان واليقين، ولكنه ضعف عن القيام بأعباء مسؤولية الدولة بما تتطلبه هذه المسؤولية الضخمة من استعدادات ذهنية وسياسية وعسكرية واقتصادية وخبرات انسانية وتاريخية وأمنية وجغرافية، وهذا الحديث بالذات من دلالات النبوة وعبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في فهمه لمتطلبات الولاية العامة، وقد يوجد من يصلح لقيادة جماعة ما، ولكن هذا لا يعطيه مسوغا وصكا لقيادة الدول والشعوب ما لم يمتلك الادوات المؤهلة لذلك حتى لايعود الأمر وبالا على الاسلام والمسلمين.

وفي النهاية يبقى شعب افغانستان شاهدا على حجم وعمق المأساة، يبقى شعب تقاذفته محن وأعاصير، وتلاعبت به الاهواء تارة والاطماع تارة، وانعدام الخبرة تارة ثالثة، شعب صنعت مأساته على يد أبنائه، وقدر له أن يكون معبرا لجيوش المحتل ومأوى لهم ولو لفترة، فهل سيأتي يوم نضحك فيه مع هذا الشعب الذي أبكانا؟.. سؤال حائر قد لا نملك اجابته الآن.