بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

الاستخبارات الأميركية تشتري معلومات


بيشاور: رون تيمبست وبوب دروجين *
كان الرجلان يجلسان على النجيل في فناء احد المنازل السرية بمدينة بيشاور الباكستانية،حينما سأل عميل وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي. آي. إيه) احدهما، ويدعى الحاج محمد زمان: «هل انت على استعداد لقتل اعضاء منظمة القاعدة من العرب؟». اومأ امير الحرب الافغاني القوي، من شرق افغانستان، برأسه موافقا . عندها سلمه عميل «سي. آي. ايه» مبلغ 10 آلاف دولار نقدا وهاتفا جوالا من ماركة ثريا متصلا بالأقمار الصناعية.
قال دبلوماسي غربي شهد ذلك اللقاء الذي جرى في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عندما كانت قوات طالبان توشك على الانهيار، ان الحاج زمان تساءل غاضبا: «هل هذا كل ما هناك؟ هل هذا كل ما يمكن ان تعطيه لشخص يعرف اين يجد اسامة بن لادن؟». الاجابة الواضحة هي النفي. إذ لم يتمكن احد بعد من الفوز بجائزة الـ25 مليون دولار التي خصصتها ادارة الرئيس بوش لمن يقبض على اسامة بن لادن «حيا او ميتا». لكن احد كبار مسؤولي الاستخبارات يقول ان الاجهزة الاستخبارية وزعت «عشرات الملايين من الدولارات» في شكل مبالغ نقدية، منذ الخريف الماضي في محاولاتها لالقاء القبض على بن لادن وللصرف على عمليات سرية أخرى. ولم يكن موظفو «سي. آي. إيه» يعملون كما يعمل جيمس بوند، بل كانوا حملة اكياس من النقود يوزعون حزما تصل الى 100 الف دولار بارقام متسلسلة في الغالب لشراء المعلومات الاستخبارية وكسب التأييد.
لكن هذه الاموال لم تكن تجلب في بعض الاحيان التاييد المساوي لقيمتها. وكثيرا ما يدفع الاميركيون ثمن معلومات لم تكن سوى أكاذيب، كما أن بعض المسؤولين يثيرون الاسئلة حول ما إذا كانت هذه الممارسة ضارة وعكسية النتائج على المدى البعيد. وقال مسؤول في الكونغرس «كل ما تستطيع ان تحصل عليه من خلال النقود هو المعلومات، ولكن هذه المعلومات لا تكون بالضرورة من النوع الذي يمكن الاعتماد عليه». غير أن مسؤولين اخرين يقولون ان المدفوعات التي قدمتها «سي آي إيه» لعبت دورا هاما في اقناع بعض قادة التحالف الشمالي وغيرهم من المجموعات المحاربة بتقديم مقاتلين ساعدوا كثيرا في اسقاط طالبان وفي البحث عن مقاتلي القاعدة. وقال مسؤول «في بعض الاحيان يمكن لمبلغ 100 ألف دولار ان يؤدي دورا أهم بكثير مما يفعله الرصاص، واذا كان بمستطاعنا استئجار عناصر تمد يد المساعدة فلا باس في ذلك بالطبع».
والمبالغ التي تدفع «حسب سعر السوق» هي 100 ألف دولار للقادة من امراء الحرب واقل من ذلك للقادة الاقل مرتبة وكبار زعماء القرى وغير ذلك. وقد ساعدت المبالغ الكبيرة التي دفعت لبعض قادة طالبان على تحول هؤلاء ضد حركتهم او الانسحاب من ميادين القتال والذهاب الى قراهم ومناطقهم. وقال أحد ضباط «سي. آي. إيه» من ذوي الصلة بالعملية «انتصرت طالبان واستولت على البلاد عن طريق الرشوة والمساومات وهذه هي تقريبا نفس الطريقة التي انتصرنا بها عليها، مع مساعدة القوات الجوية». لكن الناطق باسم الوكالة، بيل هارلو، رفض التعليق على استخدام الاموال في افغانستان. ومع ان معظم القادة الافغان ينفون تسلم مبالغ مالية الا ان البينات تشير الى عكس ذلك. ففي العاصمة كابل على سبيل المثال، قال ثلاثة من سماسرة السيارات انهم باعوا «عشرات وعشرات وعشرات» السيارات، بما فيها سيارات جديدة من اخر طراز ، من ضمنها سيارات تويوتا رباعية الدفع يصل سعر الواحدة منها حوالي 60 ألف دولار، الى أمراء حرب اغنياء من قادة التحالف الشمالي ومساعديهم وذلك خلال اشهر نوفمبر وديسمبر (كانون الاول) ويناير (كانون الثاني)، أي بعد ان غادرت حركة طالبان المدينة على جناح السرعة. وقال احد هؤلاء السماسرة «كان هؤلاء القادة يحاربون بعضهم بعضا للحصول على هذه السيارات. ولم نكن قادرين على مدهم جميعا بما كانوا يريدون». وقال السماسرة ان اسعار هذه السيارات كانت تدفع نقدا وغالبا ما تكون الاموال المدفوعة من الاوراق الجديدة من فئة 100 دولار، والتي صدرت عام 1999، وغالبا ما تكون ارقامها متتالية. ومن عادة التجار الافغان فحص تواريخ الاصدار باهتمام شديد لانهم يعتقدون ان الدولارات التي يرجع اصدارها الى اعوام 1988 و1990 و1993 مزورة ويرفضون التعامل بها.
ونجد الظواهر نفسها في باكستان. ففي بداية الخريف الماضي، وعندما استطاع امير الحرب الافغاني، جول اغا شيرزاي تجميع قواته بالقرب من مدينة كويتا الحدودية الباكستانية، اسقطت له القوات الجوية الاميركية رشاشات هجومية وذخائر واجهزة لاسلكي، وغير ذلك من المعدات للقتال ضد طالبان. لكن مساعدي شيرزاي يقولون ان زعيمهم تلقى صناديق من الدولارات الاميركية والروبيات الباكستانية. والجدير بالذكر ان شيرزاي هو الآن حاكم اقليم قندهار. ويقول شهود العيان ان حزما من الدولارات والروبيات والهواتف الجوالة المتصلة بالاقمار الصناعية، سلمت الى عناصر من البشتون في منازل سرية بمدينة بيشاور يوم 13 نوفمبر لضمان ولائهم. وكان التحالف الشمالي المكون اساسا من التاجيك والاوزبك والهزارا قد استولى لتوه على كابل، بينما سقطت الحكومات الاقليمية لطالبان عبر الاقاليم الشرقية لأفغانستان.
وحصلت العناصر الباكستانية المستعدة لتوصيل السيارات والشاحنات والأسلحة وغير ذلك من المعدات الى القوات المناصرة للقوات الاميركية على مبالغ نقدية ايضا. ونسبة لأن المبالغ التي دفعت كانت ضخمة بحق، فقد نزلت قيمة الدولار بالمقارنة مع الروبية الباكستانية كما ارتفعت الاسعار المحلية ارتفاعا هائلا.
ونتيجة لكل هذه العمليات فقد كانت «سي. آي. إيه» ضحية لعمليات خداع كبيرة. وقال مسؤول بالاستخبارات الباكستانية ان احد اصحاب الحوانيت حصل هو ومساعده على مبلغ 50 الف دولار من «سي. آي. إيه» لتقديم معلومات عن بن لادن، لكنهما اختفيا عن الانظار. وقال المسؤول الذي لم يشأ الكشف عن هويته ان المسألة لم تكن أكثر «من عملية احتيال». والأهم من ذلك كما يقول المسؤولون ان امراء الحرب استطاعوا تضليل الاستخبارات الاميركية أثناء معركة تورا بورا في ديسمبر. فبالرغم من القصف المكثف للكهوف والقواعد والمعسكرات التي كان يشتبه في وجود القاعدة داخلها، الا ان مئات المقاتلين، ربما كان بن لادن نفسه من بينهم، استطاعوا ان يهربوا بالتواطؤ مع القادة الافغان المفترض انهم كانوا يساعدون القوات الاميركية وذلك بعد ان قدم مقاتلو القاعدة رشاوى ضخمة لهؤلاء القادة.
ويوجه المسؤولون الأميركيون اتهامات للحاج زمان، الذي استهجن مبلغ الـ10 آلاف دولار الذي قدم اليه، بأنه كان يحصل على الاموال والدعم عن طريق بيع المعلومات الكاذبة عن بن لادن وتقديم تقارير مبالغ فيها عن مقاتلي القاعدة. وكانت «سي. آي. إيه» قد دعمت قوات زمان البالغة 4000 مقاتل في الثمانينات ايام الحرب ضد السوفيات ولكن هذا الرجل فقد اتباعه في الحرب الاهلية التي اعقبت طرد السوفيات وصار لاجئا سياسيا في فرنسا. وقد عاد من هناك في نوفمبر بعد ان غادرت طالبان معقله السياسي، أي مدينة جلال اباد، وسرعان ما تلقى المعدات والامدادات والمال والسيارات حتى يشارك في القتال في معركة تورا بورا. ولكن زمان رفض ارسال المؤن والبطانيات والذخائر الى قواته مما اضطرها الى الانسحاب، كما توصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار مع قوات طالبان وكان ذلك مثار استهجان من قبل القوات الاميركية. واليوم يشغل زمان موقع رئيس الاستخبارات بجلال اباد وهو موقع بالغ الاهمية في مدينة ظلت تعتمد منذ زمن على التهريب والمخدرات.
ولم يكن الحليف الاخر للقوات الاميركية بتورا بورا، هزرات علي، ممن يعتمد عليهم هو الآخر. ويقول المسؤولون الأميركيون ان هزرات علي كان يسير في معية مقاتلي القاعدة عبر الحدود الباكتسانية كمرشد لهم أثناء المعارك. وهو اليوم من المسؤولين الاقوياء في ولاية نانغارهار التي تضم مدينة جلال اباد. وهو يقود سيارة لاندكروز جديدة ويملك عددا من السيارات. ويقوم مسؤولون آخرون ممن تلقوا مساعدات «سي. آي. إيه» المالية بادارة شؤون وزارات الدفاع والعدل والخارجية في الحكومة الانتقالية التي اعقبت سقوط طالبان. ويتساءل مسؤول أوروبي كبير في مجال الاغاثة عما اذا كان ذلك من الحكمة في شيء؟ قال المسؤول الذي لم يشأ الكشف عن اسمه «انهم يحولون هؤلاء الناس الى مرتزقة، ثم يضعونهم في موضع المسؤولية ويتوقعون بروز حكومة ديمقراطية. انك لا تستطيع اقامة نظام ديمقراطي على الرشوة».
لكن خبراء الاستخبارات يدافعون عن هذه الممارسات. وقال أحد كبار مسؤولي «سي. آي. إيه»: «هناك تقاليد مرعية في افغانستان تشير الى انك يمكن ان تشتري تقريبا كل شيء. انك تنتصر في المعارك بالوصول الى صفقات ومساومات لأن الولاء الذي يجده أمير حرب ما من أتباعه يعتمد بصورة أساسية على حقيقة انه يرعاهم ماديا. انه يقدم لهم المال والغذاء والمأوى. وهذا جزء كبير جدا من المعادلة». وقال جين جحولين، العضو السري السابق بقوات الكوماندوز التابعة لـ«سي. آي إيه» انه وضباط آخرين دفعوا مبالغ تصل في بعض الاحيان الى 25 الفا من الدولارات لشراء معلومات من المخبرين اثناء المهمة الاميركية الانسانية والعسكرية في الصومال أوائل التسعينات. والمعروف ان تلك الحملة تحولت إلى كارثة عندما قتل 18 جنديا من القوات الاميركية ومئات من الصوماليين في الهجوم على طائرة الهليكوبتر «بلاك هوك» عام .1993 ولكن كالين يقول ان «سي. آي. إيه» ترى في المال أفضل أسلحتها وقال «دعونا نتحدث بصراحة، ان الشيء الوحيد الذي نملك منه الكثير هو المال».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»