هل "الضرب" بمعنى اللطم والألم والأذى الجسدي والنفسي من الوسائل التي تقوي عوامل رغبة المرأة في البقاء في الأسرة والحفاظ عليها؟!  وهل يمكن لهذا  "الضرب" أن يقهر المرأة المسلمة المدركـة لحقوقها وكرامتها الإنسانية كما تشيعها ثقافـة العصر، أو أن يرغمها ذلك على البقاء في أسر الزوج وعسفه وكريه عشرته، وهو لا يتورع أن ينالها بالضرب والمهانـة، أم أن لها في الإسلام  مُخْرِجًا  مُيَسَّرًا  من هذا الأسر، بالخلع والمفارقة.

 فإذا لم يكن "الضرب"  بمعنى الأذى والإيلام الجسدي والمعنوي - والذي يتخذ بعض الرجال الإشارة  اللفظية القرآنية إليه مبرراً  وتعلةً  للجوء إليه في قسوة ضد المرأة استغلالاً للظروف التي قد تجبر بعض النساء على الصبر بسبب الحاجـة المادية أو الخوف على الأبناء - مما يعتبر وسـيلة إيجابية تتسق والدوافع القرآنية  في بناء الأسرة وعلاقاتها الصحيحة، وتؤدي إلى كسب ولاء المرأة ومحبتها وحرصها على البقاء ضمن كيان الأسرة والعلاقـة الأسرية، فهل المعنى المقصود  في القرآن الكريم فعلاً بكلمة "الضرب" هو إعطاء الرجل "حـق" ضرب المرأة بمعنى الإيلام والأذى الجسدي والإهانة لكي تخضع المرأة  للرجل، وتنقاد على كره منها لرغباتـه؟![7]

إذا كان للمرأة حـق "الخلع" فلا شك أنّ "الضرب" و الإيلام والمهانة لا مجال له في العلاقـة الزوجية وقهر المعاشرة بل إنه  يضعف الروابط الأسرية ويدفعها ويسرع بها إلى التفكك والانهيار، ولذلك فإنّه من الضروري النظر في الأمر بعمق وإدراك دلالاته وأبعاده الحقيقية قبل القول بأنّ ذلك هو المقصود من "كلمة الضرب" على أي صورة من الصور.

 فإذا نظرنا إلى طبيعة الترتيبات القرآنية حين تحدثت عن "الضرب"  فإننا  نجدها تهدف إلى أنّ تدفع بجهود الصلح والتقارب بين الزوجين خطوة أخرى لإزالة الشقاق بأفضل السبل التي تعيد أواصر المحبة والود والتواصل الحميم بين الزوجين قبل أن يضطرا  إلى عرض نزاعهما على طرف أجنبي عن العلاقـة الزوجية من الأهل طَلَبًا لإصلاح ذات البين وحل النزاع بالحسنى، إما بالوفاق أو الفراق.

فإذا كان  لا يبدو أن للعنف والأذى والقهر مجالاً في العلاقة الزوجية وحل إشكالاتها، فما هو القصد إذاً من تعبير "الضرب"  في السياق القرآني بصدد إزالة أسباب الشقاق الزوجي وحل خلافاتـه؟!  هل هو معنى حقيقي مباشر بمعنى الإيلام  أم هو معنى مجازي آخر كما هو شأن القران في مواقع عديدة استخدم فيها لفظ "الضرب"  متعديا و غير متعد أي انه استخدم بشكل متعد (مباشر) في مثل قوله تعالى " ضرب الله مثلا" النمل:76 ، أو أضيف إليه حرف من حروف التعدية (غير مباشر) في مثل قوله تعالى "و إذا ضربتم في الأرض" النساء:101 .

إذا أخذنا بتأويل ابن عباس رضى الله عنه أنّ القصد "بالضرب غير المبرح" هنا هو المس بـ "السواك" فهذا في الحقيقـة ليس من باب "الضرب"  بمعنى العقاب والأذى أو الإيلام البدني والنفسي، ولكنه يأتي بمعنى التعبير المادي بالحركة و "المس" بالسواك أو ما شابهه تعبيراً  عن الجدية وعـدم الرضا، وعن الغضب والإعراض عن الزوجة وإبعادها عن نفس الزوج الهاجر في الفراش، وهو عكس المس باليد الذي يعني عادة التعبير عن المحبة والتدليل، وهذا الفهم وهذا التأويل الجميل لا بأس بـه، ولا هدم فيه لعلاقات الكرامـة والاحترام الواجب بين الزوجين الذين تربطهم روابط الألفة والعُشرة، كما أن هذا الفهم ليس فيه موضع "للضرب" بمعنى الأذى والألم والإهانة والقهر على عكس ما قال به بعض الفقهاء من الضرب  "بما دون العشرين (ضربة) أو بما دون الأربعين" من الضربات، بغض النظر عن التفاصيل، تفرقت في أجزاء الجسم أو لم تتفرق، وجرحت جسماً أم لم تجرح، وكسرت عظماً أم لم تكسر، ونجت المرأة من الضرب بحياتها أم لم تنج!![8]

ورغم تلطف هذا التأويل إلا أنه يظل يترك ظلالاً وإشارات وتعلات وثغرات سمحت في الماضي - ولن يتورع كثير من الناس مستقبلاً كما في الماضي - من استغلالها وإساءة فهمها واتخاذها ذريعـة إلى الأذى والضرر واللجوء باسم الدين وفتاوى بعض المفتين إلى  "الضرب" واللطم والصفع  والجلد وما شابه ذلك من وسائل الأذى البالغ والإهانة، ولهذا يجب أن يكون الفهم والحل مما  لا يترك مجالاً يساعد على إساءة الحق، ولا يترك الباب موارباً لسوء التصرف وسوء التقدير، فإنّ ذلك   أولى وأجدر بمقاصد الشريعة في بناء الأسرة على قواعد المودة والرحمة والكرامـة.

ولذلك أخذت من جانبي أدقق النظر في الأمر في إطاره المنهجي الذي سبق إن عرضته في صدر هذا البحث من أزلية الرسالة والشريعة، ووجوب فهم السنن الإلهية المتعلقة بها ومراعاة خصوصيات الزمان والمكان، وضرورة شمولية النظرة والتحليل وانضباطهما، ولذلك رأيت أن أنظر في معاني كلمـة "الضرب" ومشتقاتها في القرآن الكريم، فالأولى أن يُفسّـر القرآن بالقرآن وخير تفسير القرآن ما كان تفسيره بالقرآن، وضَبَطتْه مقاصد الشريعة ومبادئها العامـة.

وقد أُحصيت وجوه المعاني التي جاء فيها لفظ "الضرب" ومشتقاته في القرآن الكريم فوجدتها على سبعة عشر وجهاً كما يلي:

 

النمل 76

 وضرب الله مثلاُ )وقد تعدد هذا التعبير في أماكن كثيرة في القرآن الكريم)

النساء 101

وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة

الكهف 11

فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا

الزخرف 5

أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين

الرعد 17

وكذلك يضرب الله الحق والباطل

النور31

وليضربن بخمرهن على جيوبهن

طه 77

إن أسر بعبادي فأضرب لهم طريقاً في البحر

البقرة 61

وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله

الأنفال12

فأضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان

ص 44

وخذ بيدك ضغثا فأضرب به ولا تحنث[9]

محمد 4

فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب

الحديد 13

فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب

البقرة 61

وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله

النور 31

ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن

محمد 27

فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم

البقرة 60

فقلنا اضرب بعصاك الحجر

الصافات93

فراغ عليهم ضرباً باليمين

 

  فإذا أمعنا النظر في كافـة الآيات السابقة نجد جملة معاني فعل ضرب بصيغتة المتعدية المباشرة و غير المتعدية هي استخدامات مجازية فيها معنى العزل والمفارقة والإبعاد والترك، فالشيء يُضْرب مثلاً أي يستخلص ويميز حتى يصبح جلياً واضحاً، والضرب في الأرض هو السفر والمفارقة، والضرب على الأذن هو منعها عن السماع، وضرب الصفح عن الذكر هو الإبعاد والإهمال والترك، وضرب الحق والباطل تمييزهم وتجليتهم مثلاً، وضرب الخُمُرِ على الجيوب هو ستر الصدر ومنعه عن الرؤيـة، وضرب الطريق في البحر شقه ودفع الماء جانباً، والضرب بالسور بينهم عزلهم ومنعهم عن بعضهم البعض، وضرب الذل والمسكنة عليهم نزولها بهم وتخييمها عليهم وصبغهم وتمييزهم  بين الناس بها، وضرب الأعناق والبنان بتره وفصله وإبعاده عن الجسد، أما باقي ما ورد من كلمـة "الضرب"  ومشتقاتها فيما سبق من ضرب الأرجل وضرب الوجوه وضرب الحجر وضرب الضغث  وضرب الأصنام باليمين، فهي بمعنى الدفع بقوة والخبط واللطم ضد جسد الشيء أرضاً أو وجها أو حجراً إو انساناً أو صنماً  لإحداث الأثر بإحداث الصوت أو الإيلام والمهانة أو تفجير الحجر (لإخراج الماء) أو تحطيم (الأصنام).

وهكذا فإنّ عامـة معاني كلمة "الضرب" في السياق القرآني هي بمعنى العزل والمفارقة والإبعاد والدفع[10] فما هو المعنى المناسب لكلمـة "الضرب" في سياق فض النزاع بين الزوجين واستعادة روح المودة والتواصل بين الزوجين في قول الله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وأهجروهن في المضاجع وأضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليّاً كبيراً، و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا  حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا صلحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً) النساء: 34-35.

إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة السياق وطبيعـة الحال والغاية من الترتيبات في الإصلاح والتوفيق، وإذا أخذنا في الاعتبار قيم الإسلام في تكريم الإنسان وحفظ كرامته وحقه في تقرير مصيره، وإذا أخذنا في الاعتبار طبيعة العلاقة الزوجية الاختيارية، وإمكان طرفي العلاقة الزوجية في إنهائها إذا لم يقتنعا بها، ولم يرع أحد منهما حقوق الآخر فيها، وأنه لا مجال لإرغام أي طرف منهما أو قهره عليها، أدركنا أن المعنى المقصود من "الضرب" لا يمكن أن يكون الإيلام والمهانة، وأن الأولى هو المعنى الأعم الذي انتظم عامة معاني كلمـة "الضرب" في السياق القرآني هو البعد والترك والمفارقة، وذلك أن بُعد الزوج عن الزوجة وهجرها، وهجر دارها كلية  من طبيعة الترتيبات المطلوبة لترشيد العلاقة الزوجية، ولأنّ ذلك هو خطوة أبعد من مجرد الهجر في المضجع لأنّ  مفارقـة الزوج وترك منزل الزوجية، والبُعد الكامل عنها وعن دارها، يضع المرأة وبشكل مجسد محسوس أمام آثار التمرد والعصيان والصراع مع الزوج وهو الفراق و"الطلاق"، وهذه الخطوة المحسوسة الملموسة تعطي المرأة الفرصة الكاملة أن ترى وتحس وتتمعن في آثار نشوزها ونتائج  سلوكها وعصيانها وهو الفراق و"الطلاق"، وهل ذلك ما تقصده بالفعل من سلوكها وهل حسبت كامل آثاره ونتائجه، أم أنها نزوة جهالة وعناد، عليها أن تعود عنها إلى رشدها وتعيد زوجها إلى دارها قبل فوات الأوان.

فـ "ضرب" المرأة في بيتها معناه الأولي والأجدر في سياق ترشيد العلاقة الزوجية - ووضع أطرافها أمام مسئولياتهم، والعودة عن الشقاق والنزاع غير المقصود - هو "الترك والمفارقة والاعتزال"، أي ترك منزل الزوجية ومفارقة دار المرأة واعتزالها، وذلك كخطوة أبعد، ودرس للمرأة أعمق وأبلغ، كآخر خطوة ممكنة في أي جهد ذاتي يبذل بين الأزواج، لرأب الصدع، ولم الشمل، تتبين فيه أطراف العلاقة، الآثار الخطيرة، المترتبة على العصيان  والتمرد والشقاق، في انفراط عقد الأسرة وانهيارها، ولا يكون بعد خطوة ترك منزل الزوجية، إن بقي للود موضع، إلا التحكيم ومساعدة طرف ثالث من أهل الزوجة والزوج، على إدارة الحوار وامتحان أسباب النفرة والنزاع، واقتراح الحلول وترشيد الأطراف، لوضع حد لتلك النفرة، فلا يتطور الأمر إلى صراع وشقاق وتظالم، ولينهي الشقاق بين الزوجين، إما بالإصلاح أو الفراق والطلاق (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) البقرة: 229.

وهذا الفهم لمعنى "الضرب" بمعنى المفارقة والترك والاعتزال  تؤكده السنة النبوية الفعلية حين فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت زوجاته حين نشب بينه وبينهن الخلاف ولم يتعظن  وأصررن على عصيانهن وتمردهن رغبة في شيء من رغد العيش، فلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى "المشربة" شهراً كاملاً تاركاً ومفارقاً لزوجاته ومنازلهن، مخيراً إياهن بعدها بين طاعته والرضى بالعيش معه على ما يرتضيه من العيش وإلا انصرف عنهن وطلقهن في إحسان ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) التحريم: 5.[11] وهو عليه أفضل الصلاة والسلام لم  يتعرض لأي واحدة منهن خلال ذلك بأي لون من ألوان الأذى الجسدي أو اللطم أو المهانة بأي صورة من الصور، ولو كان الضرب بمعنى الأذى الجسدي والنفسي أمراً  إلهياً، ودواء ناجعاً  لكان عليه السلام أول من يبادر إليه ويفعل ويطيع. و لكنه عليه الصلاة و السلام لم يضرب ولم يامر بالضرب ولم ياذن و لم يسمح بالضرب و قد اراد أبوبكر و عمر رضى الله عنهما ضرب بناتهم اللاتى اغضبن رسول الله الله صلى الله عليه وسلم و نازعنه. و نحن نعلم أن سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم و سنته الفعلية هي الفهم و البيان الاولى في فهم القران الكريم، و قد اثمر السلوك النبوى اثره فعلاً في توضيح الاثار المترتبة على استمرار النزاع و وضع حداً له، وهكذا حين رأت الزوجات جد الأمر وغضب أهليهن وقد افتقدن العشرة النبوية الرضية، كان ذلك كافياً  ليعدن إلى صوابهن و يرجعن عن نشوزهن، ويدخلن في طاعتـه والقناعة بالعيش إلى جانبه على ما يحب ويرضى.[12]

وهكذا فقد لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصّرت  زوجاته على عصيانه إلى مفارقة منازلهن واعتزالهن لمدة شهر ليدركن النتائج المترتبة على العصيان والتمرد دون أن يلجأ إلى  أي شيء من اللطم أو الإهانة، فهجر منازل زوجاته واعتزلهن لمدة  شهر  قبل أن يعلم أهليهن بالأمر، وأن يخيرن في الأمر بين الطاعـة وبين الفراق، فأدركن جد الأمر، وخبرن آثار الفراق، فعدن إلى صوابهن، فيكون معنى "الضرب" في السنة الفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم هو المفارقة والترك والاعتزال، وهو ما يتسق وطبيعة الأمر النفسـية من ناحية ومع الروح العامـة لاستعمال اللفظ "ضرب" ومشتقاته مجازا  في القرآن الكريم ، ولا يتعارض مع تأويل ابن عباس رضي الله عنه في نصح الزوج أن لا يتعدى تعبيره عن عدم الرضاء والغضب على اى حال من الاحوال أكثر من اللمس بالسواك وما شابهه لما قد يكون فيه من معنى الغضب ولكن ليس من الواضح كيف يكون مثل هذا اللمس  في هذه المرحلة المتقدمـة من النزاع كاف لإظهار مزيد من جدية الموقف وآثاره الوخيمـة، ونقله إلى مرحلة أبعد وأكثر فعالية مما سبق من خطوة "هجر المضجع" باتجاه الحل بالوفاق أو الفراق.

ولذلك فإنني أرى أن المعنى المقصود بـ "الضرب"  في السياق القرآني بشأن ترتيبات إصلاح العلاقـة الزوجية إذا أصابها عطب ونفرة وعصيان هو مفارقة الزوج زوجته وترك دار الزوجية، والبعد الكامل عن الدار كوسيلة أخيرة لتمكين الزوجـة من إدراك مآل سلوك النفرة والنشوز والتقصير في حقوق الزوجية ليوضح لها أن ذلك  لابد أن ينتهي إلى الفراق  و "الطلاق"  وكل ما يترتب عليه من آثار خطيرة خاصة لو كان هناك بينهما أطفال.  إنّ معنى الترك والمفارقة أولى هنا من معنى "الضرب" بمعنى الإيلام والأذى الجسدي والقهر والإذلال النفسي لأن ذلك ليس من طبيعـة العلاقـة الزوجية الكريمة ولا من طبيعة علاقـة الكرامة الإنسانية، وليس  سبيلاً مفهوماً إلى تحقيق المودة والرحمة والولاء بين الأزواج خاصة في هذا العصر وثقافته ومداركه وإمكاناته ومداخل نفوس شبابه، ولأنّ هذا المعنى كما رأينا  تؤيده السنة النبوية الفعلية كوسـيلة نفسـية فعّالـة لتحقيق أهداف الإسلام ومقاصده في بناء الأسرة على المودة والرحمة والعفة والأمن،  ومحضناً أميناً على تربية النشء روحياً ونفسياً ووجدانياً ومعرفياً على أفضل الوجوه لتحقيق السعادة وحمل الرسالة.

 لا شك أن كثيراً من مفاهيم الأمة اليوم قد جانبها الصواب بسبب ما علق بفكر الأمة من غابر موروثات ثقافاتها وفلسفاتها وتقاليدها وبسبب ما نشب بين فرقها وعصبياتها من صراعات، غامت بها الرؤية، وبلغت بالأمة الى ما هي عليه اليوم من حال.

 وإذا علمنا ايضاً أن الرؤية الفكرية ومفاهيمها تتأثر بالسقف المعرفي المتاح زماناً ومكاناً في عملية ادراكها لمعاني الوحي وغاياته ومدلولاته في شئون الحياة، لذلك فان على طلبة العلم والمعرفة مواصلة النظر والاجتهاد في شئون الشريعة في سعيٍ دؤوبٍ مستمرٍ لتحرير المفاهيم وتوضيح الرؤية لكشف اسرارها وادراك دلالاتها المعرفية المتجددة في واقع متغيرات الحياة والكون، وذلك حتى يتحقق بشكل حى متجدد، جوهر غايات الرسالة ومقاصد الشريعة.

إن ما ذهبنا اليه في هذا البحث، وكثير من القضايا مثله، هو – في حسباننا - مما يتسع له جهد  التفكير والاجتهاد، بل انه مما يجب على طلبة العلم والمعرفة – في ضوء السقف المعرفي المتاح وفي ضوء الظروف والأحوال والمتغيرات المستجدة – ان يواصلوا البحث والدرس والاجتهاد في مثل هذه القضايا حتى يتحقق في عالم العصر غايات الوحى ومقاصد الشريعة. 

 أسأل الله السداد والرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح.  وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين.

 


[1] ارجع إلى: عبد الحميد أبو سليمان: "ظاهرية ابن حزم وإعجاز الرسالة المحمدية: مجلة  "التجديد" تصدر عن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا،  السنة الثانية، العدد الثالث، فبراير 1998م.

[2] أنظر كتاب: "النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية. وترجمه إلى العربية الأستاذ الدكتور ناصر البريك - الرياض - المملكة العربية السعودية 1993م.

[3] أنظر للمؤلف كتاب: "النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية"، مرجع سابق في تفسير قوله تعالى: "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون.." ص161-169 أو الأصل باللغة الإنجليزية ص 69 - 75. .

[4]  أنظر : "جامع البيان في تفسير القرآن"  لأبي جعفر محمد حرير الطبري (ت 310هـ) وبهامشه "تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان" لنظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري في تفسير قوله تعالى: "وأضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً". طبعه دار لبنان - بيروت - المجلد 4 الجزء 5، الصفحة 40-44 .

[5] قام الرجل على المرأة أي "مانها" بمعنى احتمل مؤونتها (تهذيب لسان العرب لابن منظور) "قوام أهل بيته" أي الذي يقيم شأنهم (مختار الصحاح). "القيم سائس الأمر" (المعجم الوسيط). القوام ج قوامون أي المتكفل بالأمر، والقوي على القيام بالأمر (المنحد في اللغة والإعلام 1997م).  

فاذا كانت القوامة هي احتمال المؤونة، واصلاح الشأن والقيام على الأمر والتكفل به، فان من المهم إدراك أن قيام الرجل بشأن اهله وولده واسرته هو دور هام واساسي لكفالة شأن الأسرة وعون المرأة الأم على أداء دورها وتنشأة أبنائها فكان ذلك )مساعدة المرأة الأم وطفلها( من اهم اسباب منح الخالق سبحانه وتعالى الرجل القدرة على العمل والتفرغ له، ولذلك أسند دور القيادة للرجل والزم به، وقد نظمت الأسرة ودور الرجل (الأب الذكر) والمرأة (الأم الأنثى) فيها بما يضمن ولاء الرجل للأسرة والأم والطفل وانتمائهم اليه بما يضمن فطريا قيام الرجل بالدور في حماس واخلاص وتضحية، والبديل هو تحطيم مؤسسة الأسرة وانحلالها وما يعنى ذلك من مشقة بالغة على الأمومة والطفل، وما تلقاه المرأة والطفل من معاناة نفسية ومادية تهدد رفاهيتهم وامنهم، وتمزق هوية الطفل وانتمائه الانساني، على ما نشاهده في المجتمعات التي تفككت فيها الأسرة  وشاع فيها أمر الأسر التى تفتقد الأباء وادوارهم، واصبح أبناء هذه الأسر في قاع السلم الاجتماعي وباتوا مرتعا للانحراف والجريمة والفساد، ولكن من الخطأ الشائع سحب أدوار الذكورة والانوثة في مؤسسة الأسرة آليا على سواها من الأدوار في وجوه الحياة والمؤسسات الأخرى التى تحدد الأدوار فيها القدرات الفردية لكل رجل وكل امرأة بعينيهما، وما تتطلبه تلك الأدوار من القدرات والمهارات والقدرة على أداء الدور بكفاءة بغض النظر  عن جنس القائم بالدور ذكرا كان أو أنثى، ولكن من المهم ايضا ملاحظة أن أداء المرأة لاي ادوار أخرى الى جانب دور الأمومة الذي هو الأصل الانساني في كيانها الذي لا تستغني عنه ولا غنى عنه عاطفيا وحيويا لبقاء المجتمع، يجب أن ينسجم مع حاجات أمومة المرأة ودورها ولا يضحي به ولا بأولويته في حياة المجتمع الذي يجب أن يوفر له كل أسباب التمكين والازدهار.   

[6]  من المهم  ملاحظة أنه و ان لم تتعرض آية الخلع "فلا جناح عليهما فيما افتدت به" لمقدار الفدية إلا أن الحكم النبوي قد قرر حدها الأعلى لحكمة بالغة بمقدار المهر  الذي قدمه الزوج أو ما يكافئه "أتردين عليه حديقته..." لا زيادة، لأن السماح بالزيادة قد يؤدي هو أيضا أن يكون المال دافع تفكك الأسرة بأن يعمل الزوج على مضايقة زوجته و اذاها ليبتزها و يدفعها إلى طلب الخلع طمعاً لما عندها  لتفتدي نفسها و لذلك كانت حكمة الفدية في حدود المهر حتى لا يكون المال سببا لدى  الزوجة أو الزوج لتفكك الأسرة  سوا ءً بسواء. و اي حكم باي تعويض مالي للزوج اكثر مما دفعه مهرا يجب أن يكون له أسبابه المحددة المبررة غير عدم رغبة الزوجة في عشرة الزوج مما يحق للزوج التعويض عنه، يستوى في ذلك الزوج و الزوجة في كل الأحوال.

[7] روى ابن كثير في تفسير "آية القوامة" من سورة النساء عن الحسن البصري أنّ سبب نزولها أنّه "جاءت امرأة  إلى النبي صلى الله عليه و سلم تشكو أنّ زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القصاص"، فأنزل الله عز وجلّ (الرجال قوامون على النساء) فرجعت بغير قصاص. وفي رواية أخرى "أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خيراً". ولو صحّ الحديث - لأنه يظن به الضعف ولم يتم العثور عليه في بحثنا لا في النسائي ولا في المعاجم ولا في المسانيد - ومع ذلك فإنّه لا يعطي مشروعية "اللطم" والضرب ولكنه يعني أنه إذا حدث "اللطم" والاعتداء البدني فإنّ العلاج في حالة الأسرة والزوجية ليس هو "القصاص"، لأنّ القصاص وما يتعلق به من شأنه التشهير وعلانية المهانة وليس ذلك هو العلاج ولا السبيل إلى إصلاح ما بين الأزواج ورعاية حق الأبناء، لأنّ مثل هذا العلاج في أغلب الأحوال قد يكون السبيل المؤكد إلى الفراق والطلاق. فالآية على كل الوجوه لا تعني إعطاء مشروعية "للطم" والأذى والألم والمهانة، فذلك أمر آخرً، وقد كان حس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر واضح الرفض والإنكار، وكل ما يمكن أن يفهم من الآية بالضرورة أنّه إذا حدث اعتداء من الزوج على الزوجة بشيء من "اللطم" فإنّ إصلاح ذات البين لا يكون بـ "القصاص"، لأنّ القصاص من الزوج مدعاة للفراق لا للوفاق. وما لم يبلغ الضرر الحد الإجرامي فالأولى أنه إذا أصبح استمرار الحياة الزوجية غير ممكن،  وأن يكون  الفراق - بتدخل من القضاء، ت إن اقتضى الأمر أو بدونه - أن يتم ذلك بروح الإحسان وتواصل المودة ورعاية مصالح الأطراف المستقبلية، خاصة مصالح الأبناء.

[8]  أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن وهامشه تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن ابن محمد بن حسين القمى النيسابوري، مجلد 4، جزء 5، ص 40 -44. والحقيقة أنّ كلمة "الضرب غير المبرح" لم تأت كما جاء في سياق تفسير الطبري بصدد النشوز والنزاع بين الزوجين، ولكنها جاءت في سياق آخر يتعلق بـ "الفاحشة"  والكناية عنها "وطىء الفراش بمن تكرهونه" وهو موضوع آخر يتعلق بالامانة والكرامة الزوجية مما يصيب العلاقات الزوجية في صميمها بالعطب، خاصة أنه من الصعب على الأزواج  والأباء والأبناء الإعلان عن مثل هذه الأمور لما ينتج عنها من آثار اجتماعية مدمرة لا تقف عند حد الأزواج بل تتعداهم إلى أبائهم وأبنائهم وأهليهم، ولذلك فهي تستحق من علماء الاجتماع الشرعي النظر في وجوهها المختلفة  والوجوه الشرعية للتعامل معها في حالاتها المختلفة، ومن قبل الأطراف المعنية المختلفة، من الأقرباء ومن جهات السلطة العامة، وتحريرها بشكل شمولي يعين على الحفاظ على الأسرة وروابطها المقدسة ومصالح أطرافها وقيم العفاف والشرف فيها، ويوضح المقصود بالخطاب والمخاطب واساليب التأديب والتقويم في احوالها وظروفها المختلفة.

كما يجب ان نلاحظ ان ذكر  "الضرب غير المبرح" جاء في أحاديث حجة الوداع هذه، ومن المهم في فهم السياق وما قصد اليه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أن تتكامل روايات هذا الحديث وتستقيم على ضوء القرآن لاستدراك ما قد يكون أصاب الروايات من سقط أو خلل أو غفلة أو وهم.

والمهم في الأمر هو ما نلاحظه على جميع هذه الأحاديث التي وردت في مسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد، وتحدثت عن "الضرب غير المبرح" أنها تحدثت عنه إما في سياق صريح عن إتيان النساء بـ "فاحشة مبينة" أو بالكناية عن ذلك في "يوطئن فرشكم من تكرهونه" أو بالجمع بينهما.

واذا جمعنا كل هذه الروايات فان من اليسير ايضا ملاحظة أن بعض الاضافات في بعض روايات هذا الحديث (حديث حجة الوداع) تبدو وكانها اضافات توضيحية من قبل الرواة اختلطت بالاصل أو حلت محله، ومثل ذلك يجب التنبيه اليه بشأن الروايات السماعية وذلك حين تظهر مؤشرات توحي باختلاط الأصل بالشرح والتوضيح، ولعل هذا أوضح ما يكون في رواية الإمام أحمد (19774) حين زادت وتفردت عما اورده بقية الرواة الفاظاً وجملاً تبدو وكأنها شرح وربط بقضايا توهمها وتواردت الفاظها القرانية على خاطر أحد رواة سلسلة الحديث خاصة قوله "فان خفتم نشوزهن" فمن أشد دواعي الاستغراب ورود مثل تلك الألفاظ والجمل في خطاب عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ذلك في أي رواية أخرى من روايات هذا الحديث، ومع ذلك فأنه يجب ملاحظة أن هذه الرواية، مثل كل باقي روايات "حديث حجة الوداع" والتي تتحدث جميعها عن "وطىء الفراش"، لا تكرر الخطوات القرانية لنشوز الخلاف والعصيان المذكور في "اية القوامة" وهي "الوعظ والهجر في المضجع والضرب" بل انها تتحدث عن قضية اخرى لها بعد "تأديبي" وهو فيما اشارت اليه الروايات الأخرى "الفاحشة المبينة"، وذكرته هذه الرواية بالكناية، وهو "وطىء الفراش"، واقتصرت على البعد التأديبي وهو "الضرب" والذي وصف وحددت طبيعته في الحديث واجمعت عليه كل الروايات وهو "غير المبرح"،  اي تأديبي غير إنتقامي.   

[9]   "الضغث" هو  "الحزمة" و يذكر المفسرون أن المقصود به هو شمروخ النخل و ما به من الأغصان الرهيفة الكثيرة، أي أن الله الذي كرم بني ادم وجه نبيه أيوب الذي غضب من زوجته و هو يعاني صابراً من المرض أن يبر قسمه في ضرب زوجته مئة ضربة بأن "يهشها باغصان الشمروخ" المئة كناية عن "الضرب". فابر قسم نبيه أيوب دون أن يرتكب أيوب خطئاً أو جرماً بان  يضرب زوجته لما إعتبره قد صدر عنها من تصرف خاطىء دون أن ينال الزوجة بالاذي و المهانة، كما نجى المؤمن المسلم اسماعيل إبن المؤمن المسلم ابراهيم من الذبح فصدّق رؤية ابراهيم دون أن يذبح ابنه بان فداه "بِذِبْحٍ عظيم". الصافات:107.

[10]  يلاحظ أن القرآن الكريم لم يعبر بلفظ "الضرب" و لكن بلفظ "الجلد" (بفتح الجيم) حين قصد إلى "الضرب" بمعنى الأذى الجسدي بقصد العقاب و التأديب و ذلك في قوله تعالى "الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدة ...". النور:2  و ذلك من الجِلد (بكسر الجيم) لانه هو موضع الإحساس بالاذى و الألم و هو المقصود "بالضرب".

[11]   لم يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم الى تحكيم طرف  ثالث في النزاع بينه وبين نسائه، ولا يمكن أن يفهم ذلك على أنه تجاهل من النبي صلى الله عليه وسلم للتوجيه القراني بالتحكيم إذا لم تتراجع الزوجة او الزوجات عن نشوزهن بعد استنفاذ كافة الخطوات التي وجه القران الكريم الأزواج الى الأخذ بها، بل ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلجأ اليه لانه لا يناسب مقام الرسالة.

فوعظ النساء وهجر مضاجعهن وترك دورهن مما يعينهن على مراجعة مواقفهن، اما التحكيم بين الأزواج، فان الغاية منه هو نظر طرف ثالث في النزاع وتحرير قضاياه والحكم فيه بتحديد وجوه الخطأ والصواب في موقف كل زوج من الأزواج وترشيدهم فيما شجر بينهم من نزاع، ومثل هذا لا يصح في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرسول الذي ينزل يز عليه الوحي، وهو اعلم الناس بالحق ومؤيد في ذلك بالوحي، وقد جاء الوحي بالفعل مؤيدا لموقفه صلى الله عليه وسلم ومخيرا نساءه بين طاعته والرضى بعيشه او طلاقهن، وإذا جاء حكم الله فليس لإنسان ان يرده او ان يجادل فيه (عسى ربكم ان طلقكن ان يبدله ازواجا خيرا منكن) التحريم 5.

[12]  أنظر صحيح البخاري الحديث 5395 وصحيح مسلم الحديث رقم 2704 وسنن الترمذي الحديث 3240 ومسند أحمد الحديث رقم 24588 .

 

>>>>

 

الصفحة الرئيسية

المسلم الحر