مـقـدمـة

 الأسرة الإنسانية هي قاعدة الحياة الإنسانية التي تشكل اساس بنيانها، وتحدد وجهة مسيرتها، وعلى ادائها يعتمد نوعية اداء المجتمع، وتطور بنائه ومؤسساته ومعدن اعضائه.

 والأم هي قاعدة الأسرة التي ينبع منها حياتها ويلتف حولها ويقف على اكتافها ويتناول من يدها كل اعضاء الأسرة روح الحياة ومادتها.

 وإذا ضيعت الامومة بالذل والمهانة أو بالخلاعة والمجون، ضاع معنى الحياة ومذاق طعمها وراحة دفئها وامنها.

 وقد عني الإسلام بالأسرة وبالأمومة والحفاظ عليها وحماية حقوقها وكرامتها، واقام علاقاتها على المودة والرحمة، وعلى البر والعرفان بالجميل.

وهذا البحث يحقق احدى قضايا الأسرة التي تتعلق بكرامة المرأة، ومن ورائها كرامة الإنسان، من منطلق واجب الاجتهاد، لتحقيق مقاصد الشريعة، في بناء الإسرة وعلاقاتها في عالم اليوم ومتغيراته، لبناء اجيال يتحلون بالقوة والأمانة والكرامة اللائقة بالمسلم، لمواجهة تحديات العصر، وحمل رسالة الإسلام، وبالله التوفيق وهو الهادي الى سواء السبيل.        

 

  د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان      

في 5 جمادي الأولى 1422        

 الموافق 23 أغسطس 2001       

تمهيد

  كنت أرى في ظروف الأمـة والعالم من حولها، والهجمة الثقافية والحضارية الضارية عليها، مع تردي أحوال الأمـة وحقوق الإنسان فيها معنى ما يواجهه المنافحون عن الإسلام وحقوق الإنسان في الإسلام من حيرة بشأن قضية "ضرب" المرأة كحق للزوج ووسيلة من وسائل وضع حد لحالة الخلاف بين الزوجين ونشوز المرأة واستعصائها ونفورها من زوجها ولا يصعب أدراك أسباب تلك الحيرة ودواعيها في عالم اليوم.

 ورغم إنني جوبهت بالعديد من الشبهات عن الإسلام حين كنت على مقاعد الدراسة، خاصة في مرحلة الدراسات العليا في البلاد الغربية، وأثناء العمل الإسلامي الشبابي من خلال نشاطات "اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا"، و "الندوة العالمية للشباب الإسلامي"، إلا أنني كنت دائماً، ولأسباب فكرية منهجية، أجد الحل المقنع والفهم المرضي لأي شبهة من تلك الشبهات وذلك أنني أصلاً تيقنت بدءاً صدق الرسالة المحمدية عن الله الخالق وذلك منذ نعومـة أظافري حين كنت على مقاعد المدرسة الثانوية وبرؤيـة وفكر تسـتند  إلى أسس عقلية منهجية مبدئية[1]، و بذلك لم يعد لدي مشكلة شك مما يعني أن الفكر في الموضوع يتميز بالوضوح وبالتالي يتميز بالقدرة على الصبر والمثابرة في البحث لما قد يواجه من مشاكل تحتاج إلى بحث ونظر وحل، أي أنه لا يوجد عند هذا اللون من الفكر "شك" ولكن قد توجد "اشكالات"، و فرق بين "الشك" و "الإشكال" فالشك عائق و مثبط أما الإشكال فمحفز ومنشط وداع إلى الفكر والعمل والبحث والتنقيب والاجتهاد، ولذلك كنت - وما أزال - كلما أثيرت أمامي شبهة عن الإسلام كنت أرى فيها إشكالا لا شكا فانصرف إلى التأمل والبحث معتمداً منهج المعرفة الإسلامية الأصيل في الشمول المنهجي بين تكامل آيات الوحي وآيات الكون ومبادئ العقل، فدون معرفة حال موضوع الإشكال وما ينطوي عليه من سنن وحال لا يمكن فهم دلالات الوحي و هدايته، ولذلك إنّ منهجي في النظر أن أتوجـه أولاً إلى موضوع الخلاف وأتبين طبيعته الموضوعية وما يتعلق به من السنن والطبائع التي أودعها الله فيه، وما تحيط به من الظروف الزمانية والمكانية، وذلك حتى يمكنني فهم دلالة آيات الوحي ومقاصده وأهدافه بشأن موضوع الخلاف أو الشبهة، لأنّ من يبدأ بالنظر في الأحكام أولاً كثيراً ما يكون مقلداً تحول دون رؤيته الشمولية للواقع والطبائع وتعلقها بالشريعة كوابح ثقافة التقليد والمتابعة المصحوبة بعوامل الخوف والرهبة من الخوض في مجالات القدسية، والتي كثيراً ما يصحبها ويعمقها أيضاً الجهل بالدراسات الاجتماعيـة المتعلقة بالواقع والطبائع، ولم يخب ظني قط في جدوى هذا المنهج الشمولي لأنتهي بواسطته إلى فهم مُرْضٍ مُقْنعٍ لا يتنكر لأي مبدأ من مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق والكرامة الإنسانية[2].

ولذلك لم يكن من الصعب علىّ أن ألحظ تطلع المنافحين عن حقوق الإنسان في الإسلام إلى حل وفهم يرفع الجور والعسف عن المرأة، ويرد شبهة إمكان ظلمها والتنكيل بها باسم الإسلام، خاصة مع ما تعانيه المرأة لموضعها المتدني في كثير من ثقافات بلاد العالم، ولضعفها النسبي أمام الرجل جسدياً، ولارتباط الطفل وحاجاته المادية والعاطفية المباشرة بها، ومع ما تعانيه المجتمعات الإسلامية بشكل عام من فقر وجهل وتخلف، تنال آثارها المرأة أكثر من سواها، مع تدن لممارسات حقوق الإنسان في هذه المجتمعات بسبب تفشي الاستبداد والمظالم الاجتماعية التي تطال الجميع وتهدد حقوقهم وكرامتهم.      

ولانشغالي بمسئوليات  أخرى لم أتمكن من الانصراف إلى كل ما يمر أمامي من الإشكالات ومنها إشكالية "ضرب" المرأة  لذلك لم أتوفر على النظر في هذا الإشكال وحقيقة موقف الإسلام منه في قرية العالم الإسلامي والعالم الإنساني الذي نعيشه اليوم بسبب ما كنت أواجهه من تلك المسئوليات والمشاغل.

 وأخيراً وقد عدت إلى العمل الفكري وانصرف همي من جديد إلى الناحية الفكرية في أسس تخلف الأمة والأسباب الكامنة خلفها، وفي أسباب عجز مشروعها الحضاري حتى اليوم عن أن يحقق أهدافه السامية التي يسعى جاهداً إلى تحقيقها رغم المحاولات الكثيرة المتتالية، ولأكثر من ألف سنة، وذلك منذ أن أطلق الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/ 1111م) صيحته في: "إحياء علوم الدين"، و "تهافت الفلاسفة"، لذلك انصرفت إلى الطفولة في الفكر الإسلامي ومشروعه الحضاري باعتبارها البُعد الغائب في هذا المشروع، ومنطلق التغيير لإعادة صياغة الشخصية الإسلامية معرفياً ووجدانياً شَرْطًا أَسَاسِيًّا  لتصبح الأمـة في مستوى التحديات التي تواجهها.

 وقد قادني البحث والنظر والتفكير في أمر "الطفولة" إلى البحث والنظر في أمر "الأسرة" باعتبارها المحضن الأساسي لتكوين شخصية الطفل و"سيناء" هذا العصر، الذي يتم من خلالها إعادة هذه الصياغـة، اعتماداً على الدافع الفطري لدى الوالدين الذين لا يلحظون إلا مصلحة الطفل حسب رؤيتهم  وقناعتهم،  ولأننا لا يمكننا اليوم إيجاد محضن مادي مستقل منعزل، كما حدث في "سيناء" سيدنا موسى، يمارس فيه الإصلاحيون مهمـة إعادة التربية وتنشئة جيل يتمتع بالصفات اللازمـة في الإقدام والمبادرة، لمواجهة التحديات القائمة كما فعل سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، الذين استعبدوا في مصر، فأخذهم إلى أرض "سيناء" يجوبون بواديها أربعين عاماً لينشأ جيل من المؤمنين الأحرار الشجعان القادرين على إتقان الأداء وبناء الأمـة بدلاً من جيل العبيد الجبناء العاجزين. "... قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتـاه الله الملك والحكمـة وعلمه مما يشـاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" البقرة: 249 - 251.   

وفي النظر في دور الأسرة التربوي لابد أن يقودنا البحث والنظر في بناء الأسرة إلى البحث والنظر في علاقاتها وكافـة الأبعاد المؤثرة على دورها التربوي للطفل والجيل الناشئ ومكوناتهما المعرفية والروحية النفسـية الوجدانيـة.

 وهنا وجدت نفسي وجهاً لوجـه مع قضية "الضرب" في علاقات الحياة الزوجيـة، وعلاقـة الأبوة والأمومـة، وعلاقـة الرجل والمرأة، وعلاقـة الإنسان بالإنسان، والبالغ بالبالغ.

وكمنطلق منهجي في النظر والبحث كان على أن ألتزم شمولية البحث بالنظر في مختلف جوانبه وعلاقاته وصورته الكبرى، كما كان على أن ألتزم الانضباط المنهجي فلا أسمح للجزء أن يطغي على الكل، ولا على ملابسة أو حادثة أن تلغي مبدءاً أو مقصداً عاماً، والعمل على وضع الأمور موضعها الصحيح، كما كان على أيضاً أن أتوخى ـ بمنهج عقلي سليم ـ التكامل المعرفي بين آيات الوحي وآيات الكون وتكامل هداية الوحي مع الطبائع ومع الوقائع في الزمان والمكان.

ولذلك كان لزاماً على أنْ أنطلق إلى البحث إسلامياً من منطلق كرامـة الإنسان واستخلافه ومسئوليته وحقـه في تقرير مصيره، وأي ترتيب للعلاقات الإنسانية لا ينسجم في الزمان والمكان مع هذه المبادئ والمنطلقات الإسلامية فهو لا يمثل روح الإسلام ولا غاياته  ولا مقاصده، ويجب تدقيق النظر لمعرفـة موضع الخلل في هذه الترتيبات التي تنافي أو تفتات على حقوق الإنسان ومسئولياته الأساسية في امتحان الحياة وابتلائها.

 كذلك فإنّ منطلق البحث في ترتيبات العلاقـات الأسرية الإسلامية لابد أن يحكمـه مفهوم "المودة والرحمـة"، وأي ترتيبات تمس هذا المفهوم وهذا الأساس في بناء "العلاقة الأسرية" يجب تدقيق النظر فيها لمعرفة وجه الخلل أيضاً.

ومن الناحيـة المنهجية العامـة فإننا نعلم أنّ الرسالة الإسلامية جاءت هدياً وَتَوْجِيهًا لما فيه مصلحة الإنسان في كل زمان ومكان، ولذلك فإنّ عناصر الزمان والمكان لابد أن تؤثر في تفاصيل الترتيبات الزمانية والمكانية في التطبيقات لتحقيق المصالح التي تتوخاها الرسالة، والنظر إلى الترتيبات الزمانية والمكانية، خاصة في السنة النبوية وفي التراث الشرعي فيما قصد به توجيه المجتمع في زمان ومكان بعينـه، في ظل ظروفه وإمكاناته وعاداته وتقاليده، فدون فهم هذه الظروف ودلالات الترتيبات المعينة الخاصة بها يكون النَظَر خَاطِئًا إذا ظننا أنه بني على  تجريد وإطلاق، أو أن نمد تطبيقات تلك الأزمنة بمحاكاة وتقليد خاطئ إلى ظروف زمانية ومكانية مغايرة لتلك الأزمنـة وظروفها.

ومما يعين فهمنا لهذه المبادئ المنهجية أننا نجد في تدرج الوحي من ناحية، وفي تنوع الخطاب النبوي في الزمان والمكان بحسب حال المخاطبين زماناً ومكاناً من ناحية أخرى، وفي اختلاف الأحكام والفتاوى وتعدد المذاهب بين أصحاب العلم والفتوى، استجابة لظروف الزمان والمكان، دليل واضح على مراعاة المنهج الإسلامي لهذه الأبعاد التشريعية الاجتماعيـة. ومن تلك الحالات التي تتعلق بما نحن بصدده  اختلاف مذاهب علماء السلف وفتاواهم وأحكامهم في شئون الأسرة، بسبب اختلاف الظروف والامكانات والتقاليد في الزمان الواحد كاختلاف المذهب المالكي في المدينة المنورة والجزيرة العربية - التي تشتد فيها الحساسيات القبلية والاعتداد بالأحساب والأنساب - عن المذهب الحنفي في العراق، مهد الحضارات الغابرة من بابل حتى فارس، والتي تركت آثارها الحضرية على مفاهيم العلاقات الاجتماعية وتنميـة القدرات الفردية لتنعكس هذه الفروقات والتقاليد الزمانية والمكانية على مفهوم المذهبين في شروط عقود النكاح في أمر الولاية والكفاءة. بل إن آثار الزمان والمكان على الأحكام والفتاوى لم تقف عند حدود المذاهب بل عكست ذاتها على المذهب الواحد ما بين بلد وآخر على ما هو معروف عن مذهب الإمام أحمد ابن إدريس الشافعي (ت 204هـ) في العراق وفي مصر.

بل إنّ بعض آيات القرآن الكريم نفسه يتأثر فهمها وإدراك معانيها بتغير الزمان والمكان وتوسع معارف الإنسان فيهتدي الإنسان إلى معان جديدة لم يكن له أن يعلمها أو تخطر له على بال قبل ذلك الأوان وحصول تلك المعارف، مما يؤيد قدسية الكتاب الكريم ليحتوي هديه الزمان والمكان[3] "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد". فصلت: 53 .

ومن ذلك ما كُشِفَ وما يزال يُكْشَف عنه العلم من إعجاز القرآن ودقـة تعبيراته وخفايا هذه التعبيرات لتؤدي مهمتها في الهداية دون أن تجانف حقائق الخلق والسنن التي تتكشف بتوسع مدارك الإنسان وتغير الزمان والمكان كقضية تكوير الليل والنهار ودحى الأرض وما يستتبع ذلك من حقيقة كروية الأرض، شأنها شأن بقية النجوم والكواكب  وسواه لمن يحب تتبع قضايا إعجاز القرآن وتأويله على مر العصور ليتسع أداؤه وهديه لتوسع مدارك الإنسان، وليلبي حاجة الإنسان في كل زمان ومكان.

ولذلك فإنّ من الخطأ، الاكتفاء عند النظر في أمر تشريعات الأسرة  وترتيباتها  أو سواها من أمور التشريع، أن نقتصر على التفسيرات والترتيبات التاريخية، لنستفتيها دون أن نلقي بالاً أو اِهْتِمَامًا  لما طرأ من التغيرات الزمانية والمكانية الهامـة التي  تنعكس  آثارها على الإمكانات والمفاهيم والأدوار في الحياة والمجتمع، وهذا لا يعني إهمال النظر في التراث وما سبق في تاريخ الاجتماع الإسلامي، من تشريعات وترتيبات وتطبيقات، ولكن المقصود هنا هو النظر في كل ذلك وفهمه جَيِّدًا في سياقه الزماني والمكاني لإدراك معاني تلك التجربة التاريخية، ولأخذ العظـة والعبرة منها، والعمل من جديد على تحقيق ذات الأهداف والغايات التي يقصد إليها هدى الوحي والرسالة.

وعلينا ونحن ننظر علمياً في واقعنا وظروفنا الزمانية والمكانية، وما طرأ على أحوال الأمـة من تغيرات، وما توفر لها من إمكانات، أن نتحلى بالنظرة العلمية الناقدة في أحوال الأمـة، وما تردت فيه وانتهت إليه، مما أخمد فيها مكامن الطاقـة، وقدرة المبادرة،وروح العزة والكرامـة، وأسلمها إلى الاستبداد والعسف والعجز والفقر والجهل والتخلف.

وإذا كنا بصدد النظر في موضوع "الضرب" وما يستتبعه من مشاعر المهانة والأذى البدني، فإننا بادئ ذي بدء، نعلم كقاعدة أساسية نفسية عامـة، أن الأذى والخوف والإرهاب النفسي أمور تورث السلبية والكره والانصراف، وأنّ الحب والتكريم والثقة أمور تولد الإيجابية والإقبال والبذل.  كما أننا نعلم أيضاً، أن الأمـة قد عانت وما تزال تعاني من ممارسات العسف والإذلال وثقافـة الوصاية والاستبداد، بحيث أنه في كثير من مجتمعاتنا لا يقتصر العسف والتسلط والاستبداد على زبانية السادة والحكام، بل أصبح ذلك جُزْءاً  من  ثقافـة الأمـة العامـة، نراه بين "المعلم" و "صبي المعلم" و "المدرس" و "التلميذ" و "الكبير"  و "الصغير" و "الرئيس" و "المرؤوس" و "الرجل" و "المرأة"  لتشمل في مجملها ودلالاتها الاجتماعية  "القوي" و "الضعيف"، كل قوي وضعيف في المجتمع، وذلك على عكس مفاهيم الإسلام في "الإخاء" والتضامن "كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، و "كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر البدن بالسهر والحمى". حيث أن "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمـه وعرضه". "ومن لا يرحم الناس لا يرحمـه الله". "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". وكيف كان على من ضرب "عبده" أو من ضرب "أمته" أن يعتق من ضرب. و "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء". "وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم". وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً يخاطب من ضرب زوجته "يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحي". و "لقد طاف بآل محمد نساء كثيرون يشتكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم".  وكان خلق "القدوة" عليه أفضل الصلاة والسلام اليسر والرفق والرحمة "وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط ولا خادماً ولا ضرب شيئاً إلا أن يجاهـد في سبيل الله".

بهذه المفاهيم العامـة ننظر إلى موضوع "الضرب" وموضعه من العلاقات الأسرية في "الزوجية" و "الأبوة" حتى نرى ما هو المفهوم الصحيح لهذا "الضرب"، وما هي الترتيبات الأسرية الإسلامية الصحيحة التي يقوم عليها بناء الأسرة الإسلامية بشكل عام وفي هذا العصر بوجه خاص والتي تحقق علاقات "المودة والرحمة" لكي تصبح الأسرة قوية متماسكة ولتكون المحضن الروحي والنفسي والوجداني الآمن للطفل المسلم لينشأ قوياً أميناً قادراً على الأداء المتميز ومواجهة تحديات العصر.

وتثور قضية "الضرب" في ترتيبات العلاقـة الأسرية والإنسانية بشكل حاد، وتأخذ مَوْقِعًا خَاصًّا حيث أنه وردت الإشارة إليها في نص قرآني، ولأن تأويلاتها التاريخية والتراثية انصرفت وانصرفت أفهام الناس وممارساتهم فيها إلى معاني اللطم  والصفع والصفق والجلد وما شابهه وما يستتبع ذلك من مشاعر الألم والمهانة، بغض النظر عن قدر المهانة ومدى هذا الألم أو الأذى البدني، الذي قد تتراوح الفتاوى فيه بين الضرب "بالسواك" وما شابهه، "كفرشاة الأسنان" و "قلم الرصاص"،  وذلك فيما روى عن عطاء عن ابن عباس رضى الله عنه حين سأله عن معنى "الضرب غير المبرح"،  فيكون "الضرب" هنا أقرب إلى التأنيب والتعبير عن عدم الرضا والغضب بين الأزواج، أكثر منه تَعْبِيرًا  عن معاني المهانة والأذى وفي الجانب الآخر نجد من  بعض الفتاوى ما يقول بالضرب بحد أقصى بما "دون الأربعين"، ولا قصاص بين الرجل وامرأته" إلا في الجرح والقتل".[4]

 والنص القرآني الذي يتعرض لموضوع "الضرب"  هو الآية الرابعة والثلاثون من سورة النساء في قول الله سبحانه وتعالى: "الرجال قوامون[5] على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً ". النساء: 34-35 .

ولفهم هذه الآيـة لابد لنا من وضعها في إطارها العام من نظام الأسرة حتى يمكننا حسن فهم دلالتها بما يوفق الله إليه في إطار مقاصد الدين والشريعة، فالله سبحانه وتعالى يقول أيضاً في كتابه العزيز: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا  ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيباً". النساء: 1.  "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". الروم: 21. "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا إن الله بكل شيء عليم". البقرة: 231. "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً" الأحزاب: 49. "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون". البقرة: 229.

فإذا نظرنا إلى مجمل هذه الآيات وفي ضوء مجمل الشريعة وفي ضوء القدوة النبوية نجد أن جوهر العلاقـة الزوجيـة هو مشاعر "المودة" ورفق  "الرحمة" وواجب  "الرعاية"، ويظل حاكم العلاقـة الزوجية دائماً هو "المودة والرحمة والإحسان".

لذلك يصبح من المفهوم لدينا  لماذا  يثور  التساؤل عن معنى "الضرب" بمعنى الإيلام والمهانة وعن موقع ذلك من مفهوم العلاقـة الإسلامية  الزوجيـة وبالذات في ترتيبات تمكين الألفة والمحبة بين الأزواج وحل خلافاتهم، خاصة حين يؤخذ في الحسبان واقع العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم المعاصر وما يتعرض له بعض النساء من ممارسات التسلط والقسوة المادية والمعنوية،  وبسبب بعض ما يردد اعتسافاً  من منطوق  الفتاوى التراثية التي تبالغ في إطلاق سلطة الرجل في إدارة شئون أسرته باعتباره رأس الأسرة متجاهلين أنّ  مؤسسة الأسرة يجب أن تقوم على التواد والتكامل والتعاون والتكافل، ولا يصح أن يساء فهم دلالات النصوص وأن تستغل لكي تصبح المرأة والأسرة أشبه بالقطيع المملوك.

  وإذا كانت آفاق العصور السالفة وإمكاناتها قد حدت من إمكانات المرأة ومن دورها فيما وراء محيط الأسرة، وألقت على عاتق الرجل كثيراً من المسئوليات وأوكلت إليه، خاصة في الحضر، قدراً كبيراً من السلطات في إدارة شئون الأسرة لأن الطاقـة العضلية كانت العامل الأهم في توفير سبل الرزق وتوفير الأمن والحماية لأفراد الأسرة، ولأن حاجات المنزل والأسرة كانت تستغرق جل طاقـة المرأة في خدمـة دارها وزوجها وأبنائها، فتضعف حيلتها وتحد من إدراكها وتقعد بها عما وراء عالم أسرتها، فلم يستوحش المجتمع كثيراً سلطوية الرجل في علاقات الأسرة، إلا أنّ الأمر في عالم اليوم يختلف وذلك بما توفر من الوسائل والقدرات واتساع آفاق المعارف مما أفسح للمرأة مجالاً إنتاجياً واسعاً، وإمكانات اقتصادية استقلالية، وقدرة معرفية وتقنية كبيرة فيما وراء عالم أسرتها الصغيرة، مما لم تعد معه الصور التاريخية قادرة على احتواء أدوار أفراد الأسرة والتعبير عن واقعهم وإمكاناتهم، ولذلك لابد من إعادة النظر في فهم واقع العلاقات الأسرية في ظروف العصر حتى لا يستمر التوتر والتدهور، وحتى يمكّن في نفوس أعضاء الأسرة المفاهيم التي تعين كل عضو من أعضاء الأسرة على أداء دوره البناء المتكامل مع بقية أعضاء الأسرة.

ومن الإشكالات التي برزت أمامي في هذا البحث حين اصرف معنى كلمـة: "الضرب" في السياق القرآني إلى معنى الإيلام والأذى الجسماني  والمهانة النفسية، بغض النظر عن مدى هذا الأذى والإيلام، وذلك كوسيلة من وسائل التعامل بين البالغين، وكوسيلة من وسائل إخضاع المرأة لرغبات زوجها، وحملها على طاعته ومعاشرته، أجد أنّ ذلك أمر لا يكون ممكناً إلا إذا كانت المرأة المسلمة، كما كان في بعض الديانات والثقافات، لا مخرج لها من العلاقـة الزوجية، ولا سبيل لها إلى الفكاك والطلاق على غير رغبة زوجها، ولذلك يمكن قهرها وإخضاعها لرغبات زوجها وعشرته على غير رضاها ورغبتها،  وفي هذه الحالة فقط يمكن أن يكون "الضرب"  والألم والأذى الجسدي أو المعنوي وسيلة من الوسائل الممكن اللجوء إليها لتحقيق تلك الغايـة.

 ولكننا نعلم علم اليقين أنّ هذا ليس هو الحال في الشريعة الإسلامية التي بنت الأسرة على "المودة" و "الرحمة" وحرصت على توفير كافـة الأسباب المؤدية إلى تماسك الأسرة وتضامنها وحفظ هويتها وهوية أفرادها وأنسابهم  وانتسابهم وانتمائهم، ولذلك  كانت عضوية مؤسسة الأسرة في الإسلام عضوية اختيارية، لا مجال فيها للقهر والتسلط والعسف، وكان فيها لكل من الزوجين حق مغادرة الأسرة وإنهاء العلاقـة الزوجية إذا لم يعد أي واحد منهما يرغب في البقاء فيها، ولا يحتمل أعباءها، لأن ذلك ولا شك أولى لكافة أفراد الأسرة من علاقة تقوم على البغض والكراهية والشقاق، فالزوج إذا كره العشرة له حق "الطلاق"  في الإسلام، والمرأة إذا كرهت العشرة لها حق "الخلع"  في الإسلام وذلك برد ما أخذت من المهر أو دونه بالتراضي بين الزوجين، وذلك حتى لا يكون المال من قبل المرأة أو قرابتها والطمع فيه سبب في تفكك الأسرة.[6]

  وهكذا فلا يمكن  أن يكون القهر و "الضرب" وسيلة  مقصودة  لإرغام المرأة على غير إرادتها ورغبتها على المعاشرة، كما أن "الضرب" على أي حال من الأحوال ليس وسيلة مناسبة لإشاعة روح المودة بين الزوجين، وليس وسيلة مناسبة لكسب ولاء أطراف العلاقـات الحميمة وثقتها.

وإذا نظرنا إلى الترتيبات التي وردت في الآية الكريمـة من سورة النساء السابق ذكرها، والتي هدفت لإصلاح ذات البين بين الزوجين حين تطل من الزوجة  روح النشوز والتمرد والعصيان، ورفض العشرة الزوجية، نجد هذه الترتيبات على شقين:

 الشق الأول: يتعلق بحل إشكال النشوز والخلاف بين الزوجين، ودون تدخل من طرف ثالث ويتم ذلك على ثلاث خطوات هي:

 عظوهن

أهجروهن في المضاجع

اضربوهن

 والشق الثاني: حين يفشل الزوج داخل نطاق الأسرة ودون تدخل طرف أجنبي في حل الخلاف واستعادة روح الوئام وعودة الزوجـة إلى كنف زوجها وطاعته فيما هو من خاصة علاقاتهم الزوجية، فإنّ على الزوجين أن يلجئا إلى خاصة أهلهم للنظر فيما بينهم من شقاق وأسباب ذلك الشقاق ودواعيه للحكم في الأمر ونصحهم وإرشادهم وعونهم على لم شملهم وإصلاح ذات بينهم (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إِصْلاحًا يوفق الله بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً). النساء: 35.

وهكذا فإنّ من الواضح أنّ الترتيبات القرآنية هدفت في كل الأحوال إلى إصلاح ذات البين بين الزوجين وإعانتهما على الإصلاح على أسس نفسية وبخطوات وغايات إيجابية، ولذلك أمر القرآن الزوج حين تبدي الزوجـة النفور والعصيان أن يجلس إليها ويوضح لها ويعظها ويعاتبها وفي ذلك إقبال من الزوج وحرص منه على العلاقة وإصلاح ذات البين، وتوضيحاً  للأمر وما يجده في نفسه وما هو من شأن اختلاف طبعـه عن طبعها، وما يرتب ذلك من حقوق له عليها مما قد لا تكون المرأة على علم به، ولا تدرك أبعاده.

 وهكذا يكون الحديث والحوار والتذكير هو الخطوة الأولى في حل ما قد يثور من خلاف بين الأزواج قد تسئ المرأة فيه استعمال سلاحها الأنثوي ضد الرجل وضعفه الجنسي تجاهها. فإذا لم تصغ الزوجـة إلى حديث زوجها وتبصيره ووعظه جهالة أو دلالاً فيصبح من الضروري أن يلجأ الزوج إلى مرحلة ابعد وأن ينتقل إلى الفعل بعد النصح والقول وذلك "بالهجر في المضجع"، ذلك أن المرأة تعلم ضعف الرجل في حاجته إليها وقلة صبره على إعراضها، فإذا رأت منه عزوفاً عن فراشها، وهجراً لمضجعه، أدركت بغريزتها خطورة الأمر وجديته، وكثيراً ما تعود المرأة عن لعبة "الإعراض" و "المغايظة" وتدرك أن علاقتهما في خطر حقيقي قد تحطمها "المغايظة" و "العناد"، فترجع وتؤوب إلى رشدها، وتعود بين الزوجين روابط المودة والتراحم.  أما إذا بقيت الزوجـة على حالها من الإعراض والنفور فإنّ الأمر ولاشك  قد أصبح في مرحلة حرجـة، ينذر بالخطر الذي قد يدمر الحياة الزوجية ويقضي عليها بقصد أو بدون قصد، ولا يمكن أن تستمر الحياة الزوجية على تلك الحال، وعلى كلا الطرفين  أن يدركا عواقب الحال التي بلغته حياتهم الأسرية وما ستنتهي إليه من الانهيار.

ويأتي السؤال هنا ما الذي يمكن فعله مما يؤدي بالزوجين إلى إدراك خطورة الأمر وتدبر العواقب قبل أن يخرج النزاع بين الزوجين عن نطاق  الزوجية وخصوصية علاقتها، ليطرح النزاع والشقاق أمام طرف ثالث: "حكم من أهله وحكم من أهلها"  لكي ينظر طرف الأهل الثالث فيما شجر من الأمر بين الزوجين، وينصح لهما بما يصلح الحال إن شاءآ، أو يكون بينهما فراق  بالمعروف والإحسان.

 وهكذا فإنّ الخطوة التالية في خطوات حل النزاع والشقاق بين الزوجين داخل نطاق الأسـرة هو "الضرب": ( واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا). النساء: 34. وهو ما يعنينا هنا فهمـه ودلالاته ضمن إطار إصلاح ذات البين بين الزوجين حين يدب النزاع والشقاق بينهما وترفض الزوجـة عشرة زوجها وتعصيه رغم "الوعظ" وإبداء الغضب من قبل الزوج "بهجر المضجع".

 والسؤال ما معنى "الضرب" هنا؟!  هل هو اللطم أو الصفع أو الجلد أو سوى ذلك  من ألوان الضرب المؤدي إلى الألم والأذى الجسدي والمهانة النفسـية والذي يهدف إلى قهر المرأة، وإخضاعها للمعاشرة كرهاً منها، وعلى غير رغبتها؟!  وإذا كان الأمر كذلك فما هي الغايـة من ذلك الإخضاع؟!  وهل مثل هذا القهر والإخضاع بوسائل الألم والمهانة يعين نفسياً  على توليد مشاعر المحبة والرحمة بين الأزواج، ويحكم صلات الولاء والانتماء بينهما، ويقوي دوافع العفة وحفظ الغيب، ويحمي كيان الأسرة من الانهيار والتفكك؟!

<<<<

 

الصفحة الرئيسية

المسلم الحر