مقتطفات من مقال كتبه: محمد أمير

قديماً في العراق، ظهر داع شيعي اسمه “حمدان بن الأشعث” والذي كانت شهرته “حمدان قرمط” لأنه كان قصيراً وله حركة مميزة في طريقة مشيته أو “بيقرمط” كما نقول نحن، وكان زاهداً ومتقشفاً وبدأ يحدث الناس عن الدين فأتعبوه، وبعد فترة بدأ يحدثهم عن آل البيت والظلم والفجور إلى أن كوّن قاعدة جماهيرية كبيرة هناك، وحينما بدأت الدعوة تقوى وتزيد، أرسل أحد أعوانه “أبو سعيد الجنابي” للبحرين وقطر حتى يبدأ دعوة جديدة هناك. وفعلاً، اتبعه أغلب أهل البحرين وفتحوا مجالاً جديداً للدعوة في اليمن والمغرب وإيران، وزاد أتباع هذا المذهب الجديد بشكل كبير وباتت لهم قاعدة مركزية في مدينة سلمية بسوريا.

وفي سنة ٨٩٩ م  خرج أحد أتباع الفرقة الإسماعيلية في المغرب اسمه “عبيدالله المهدي” وادعى أنه الإمام الحادي عشر للمسلمين وأنه حفيد محمد بن إسماعيل وأن محمد بن إسماعيل ليس هو المهدي وأنهم نشروا هذا الكلام فقط لإخفائه وحمايته، وأن عبيدالله المهدي هو الإمام الحقيقي، وبدأ ينشر دعوته هناك وأرسل لباقي أعضاء الفرقة الإسماعيلية حتى يعلنوا أن الدعوة لم يعد اسمها الإسماعيلية بل “المهدية” باسمه.

هنا رفض حمدان قرمط وأبو سعيد الجنابي هذا الكلام، وانفصلوا عنه وكونوا دولة منفصلة قاعدتها في البحرين والعراق وخراسان خاصة بالدعوة التي بدأوها وأبقوا على اسمها “دولة القرامطة”، أما عبيدالله المهدي فكون قاعدة أكبر من قاعدة القرامطة وانتشرت دعوته في شمال إفريقيا كلها، ثم انتقلت إلى مصر وباتت هي الدولة الفاطمية، والتي فتحها جوهر الصقلي مع المعز لدين الله الفاطمي.

دولة حمدان قرمط بدأت في الاتساع، واستطاع أن ينشئ دولة اشتراكية كبيرة في البحرين والعراق والجزيرة العربية، ولأن الوضع كان مستتباً بينه وبين الفاطميين والقرامطة فشجع ذلك بعض قبائل القرامطة إلى أن تهاجر وتسكن في مصر، واستطاع حمدان قرمط وأبو سعيد الجنابي أن يضم القبائل العربية المرتحلة لصفوفه سياسياً، وهذا بسبب إهمال الدولة العباسية لهذه القبائل لأن الأمويين قبلهم كانوا معتمدين على العرب في الجيش ولديهم أموال ومناصب، لكن حينما قامت الدولة العباسية، حصلت ثورات قبلية عليهم، فأدى ذلك إلى إهمال متعمد من العباسيين، وجعل قبائل كبيرة تنضم إلى القرامطة حتى أصبحت عصب الجيش نفسه.

دخلت قبائل القرامطة مصر على شكل قبائل مهاجرة، وسكنوا هناك مدينين لدولة القرامطة سياسياً وللفاطميين دينياً، وهذا لأن القرامطة استطاعوا إنشاء دولة اشتراكية ناجحة، وثورية ضد التدخل العباسي والفاطمي، كان أكلهم مما يزرعونه والأموال تتوزع عليهم بالتساوي، وقدروا أن يخلقوا نوعاً من العدالة الاجتماعية بين بعضهم البعض، ويستصلحوا أراض ويزرعوا ويفرضوا ضرائب على العباسيين أنفسهم بعد ضعفهم.

إذن متى بدأت الأحداث؟

في سنة ٩٠٨م، أخذت دولة القرامطة منحنى ثورياً في عهد ابن أبو سعيد الجنابي “أبو طاهر الجنابي”، المنحنى الذي يسمونه الهدم من أجل البناء كما يسمونه في أوروبا.

بمعنى أن المقاومة ضد العباسيين والفاطميين جعلت أبو سعيد الجنابي في البحرين يقتنع بمبدأ هدم كل شيء حتى نبني كل شيء من جديد بشكل صحيح، فردد هو ومن معه في خطب كثيرة بضرورة تدمير الكعبة حتى يدفع الزمن ليُظهر المهدي المنتظر “محمد بن إسماعيل” وحينها تقوى دولتهم وينتصر الإسلام، وعليه بدأ يضع الخطة، والخطة كانت الهجوم على مكة في موسم الحج.

وفي عام ٩٠٨م، جمع أبو طاهر الجنابي جيشه من البحرين وقطر من القبائل الموالية له، وتحرك ناحية مكة من الأحساء على أنه واحد من الحجاج حتى يسمحوا بدخوله كمسلم يود إقامة شعيرة الحج، بدلاً من احتلالها عسكرياً، وفي طريقهم لمكة قاموا باقتحام القرى وقتل الرجال واغتصاب النساء ونهب الأموال ثم إشعال النيران بأطفالها ونسائها وشيوخها قبل أن يرحلوا من القرية، وأكبر ضرر كان الذي حصل للبصرة في العراق لمدة ١٧ يوماً من انتهاك وتعذيب وقتل واغتصاب، إلى أن وصلوا بالفعل إلى مكة.

وحينما دخلوا مكة بدأت المصيبة..

أولاً: دخلوا ومعهم أعلام كُتب عليها “وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” الآية ٥ من سورة القصص، وكان شعارهم، وكان قصدهم من سياق الآية إظهار إيمانهم المطلق بالإمامة.

وحينما وصلوا للكعبة، بدأوا بشتم الأنبياء جهاراً بألفاظ قبيحة، ثم أخرجوا سيوفهم وهم يصرخون وهجموا على الحجاج وبدأوا يقتلون الحجاج جميعاً من يصلي منهم ومن هو واقف ومن هو نائم ومن هو مستيقظ، حتى إن الدم غرّق صحن الكعبة كأنه السيل.

 المؤرخون ذكروا أن عدد القتلى وصل إلى 30 ألف قتيل من الحجاج في هذا اليوم تخيلوا الرقم!! كانت إبادة جماعية بالمعنى الحرفي، وقتل دموي في أقدس مكان أمام الكعبة، والمشكلة أنه كان قتل واستهزاء، وكان قتل بالترصد لدرجة أن من كان يهرب من الحجاج في الجبال والوديان والأحراش كانوا يطاردونه ويقتلونه حتى لو خرج من مكة نفسها.

من كثرة الجثث كانوا يلقونها فوق بعضها البعض، حتى تكومت جبال من الجثث أمام الكعبة، حتى إن أبو سعيد الجنابي أمرهم برمي الجثث في بئر زمزم وبالفعل فعلوا ذلك حتى امتلأ البير عن آخره بالجثث والأشلاء، وفي وسط هذا القتل والهرج والمرج، وقف أبو طاهر على باب الكعبة ونادى بأعلى صوته “لمن الملك اليوم”؟ فلم يرد أحد فضحك وقال “أنا الله، أنا أخلق الخلق، وأفنيهم أنا”، ومسك سيفه وبدأ يقتل في الحجاج وهو يضحك ويسخر ويقول “وآمنهم من خوف” ويضحك، ثم يردد بعدها “ما آمنهم من خوفنا” ثم يكمل ضحكه وسط القتل والذبح.

صوت الصراخ في صحن الكعبة كان يخرق الآذان، آلاف الحجاج يتم قتلهم وسفك دماءهم في يوم وليلة، أبو طاهر نظر بوجهه إلى الكعبة وقام بتنجيسها، أي تبوّل عليها وهو يقول لجنوده “أين طير الأبابيل، أين أبرهة، أين الفيل” ثم يضحك والجنود يضحكون.

 استمر الجنود في ذبح الحجاج ثم سحب أجسادهم ورميها في بئر زمزم حتى سُد البئر عن آخره، وبعدها هدم البئر بالفأس، وألقى فوقه عشرات الجثث إلى أن كون جبلاً من الجثث.

بعد ذلك اتجه للكعبة ومعه عدد من جنوده، وأمرهم بتعريتها وأخذ كسوتها، وبدأوا بتنفيذ أوامره بسيوفهم واستمروا في تقطع الكعبة وضربها حتى سحبوها كلها وعروا الكعبة بشكل كامل ونهبوا الكسوة لأنفسهم، بعدها بدأ أبو طاهر بالدق بالقوة على باب الكعبة ويسأل أين رب هذا البيت؟ وبعدها أمر جنوده بخلع باب الكعبة، وفعلاً ضرب الجنود الباب وفككوه وأخذوه معهم، أما عن أبو طاهر فدخل الكعبة ودنسها وهو يقرأ آيات من القرآن، وكان بداخل الكعبة كنوز ومجوهرات وهدايا من ملوك العالم للكعبة، فجمعها وسرقها.

أما جنوده فحملوا باب الكعبة ليضعوه على خيولهم وهم يغنون بصوت عال: أين حجارة سجيل؟ أين الطير الأبابيل ثم يضحكون ويدهسون على الجثث. أبو طاهر لم يتوقف عند هذا الحد من الإجرام، بل جمع النساء الحجاج اللواتي كن عند بيت الله عند حجر إسماعيل بجانب الكعبة، وأمر الجنود باغتصابهن علناً بوحشية، وحينما انتهوا أمر بقطع رقابهن ورميها في بئر زمزم.

أبو طاهر نظر بعدها للحجر الأسود وقال إنه حجر أصم وصنم، ورفع فأسه وضرب الحجر فانقسم الحجر نصفين، ولكنه جمعها وسرقها وهو يقول “أين  الطير الأبابيل” ولهذا السبب الحجر الأسود حالياً هو عبارة عن حجرين صغيرين مطعمين بالفضة بعكس الماضي حينما كان حجراً  كبيراً واحداً.

أبو طاهر بحث عن مقام إبراهيم حتى يسرقه، لكن أهل مكة قدروا أن يخبئوه فلما سألهم عن مكان المقام ورفضوا إخباره ارتكب فيهم مجزرة بشعة في شعاب مكة وقتل آلافاً منهم مرة واحدة، ثم نهبوا الحجر الأسود، والكسوة، وبنوا كعبة لأنفسهم في الجش بالأحساء، وخصصوا إحدى الأماكن وأسموه عرفات، ومكاناً آخر أسموه منى، وقطعوا طريق الحجاج وأمروهم هم وسكان القطيف بالحج لكعبة القرامطة، ولما رفض المسلمون ذبحوهم وأمر الجنود بقطع طريق الحجاج وحماية من يأتي لكعبته، وذبح من يذهب لكعبة الله.

أما أهل القطيف فتم ذبحهم هم أيضاً حتى علماء الدين، فقتلوا الحافظ أبوالفضل بن حسين الجارودي، وقتلوا شيخ الحنفية في بغداد أبوسعيد أحمد بن حسين البردعي وأبوبكر بن عبدالله الرهاوي وعلي بن بابويه الصوفي وأبوجعفر محمّد بن خالد البردعي وغيرهم من مشاهير الدعاة.

واستمروا على هذا القتل والإجرام  ١٧ يوماً كاملاً بعد أول يوم في المذبحة، وزاد عدد القتلى داخل الكعبة وفي مكة بشكل عام لرقم صعب تخيله، إلى أن  رجعوا إلى البحرين مرة ثانية ومعهم الحجر الأسود، وبقي الحجر الأسود معهم  لمدة  22 سنة كاملة، ولكن وهم في طريقهم للبحرين لحقهم  أمير مكة ومعه أهل بيته وجنوده ولحق بهم في نصف الطريق، ورجوه أن يتركهم وعرض عليهم إرجاع الحجر مكانه في مقابل الأموال التي يملكها هو وأهل بيته، لكن أبو طاهر لم يوافق، واشتبك مع أمير مكة حتى تدخل جنوده وقتل القرامطة أمير مكة وأهل بيته وجنوده، وأكملوا طريقهم.

ماذا حدث بعد هذه المذبحة؟

حالة الخوف التي سببها القرامطة للمسلمين في هذه الفترة وقطع طريق الحجاج جعل بلاداً كالعراق والشام تمنع إرسال الحجاج لمكة، والحج نفسه توقف لمدة ١٠ سنين كاملة، تخيل عقداً كاملاً من غير فريضة الحج وصحن الكعبة فارغ تماماً حتى من عابر السبيل، وحتى لو كان الحج قد عاد فعلاً بعد ١٠ سنين، فالحجر الأسود لم يكن معهم والمناسك لم تكن تكتمل فكيف تحج الناس؟

حاول خلفاء كثر جداً أن يرجعوا الحجر الأسود، منهم الحاكم بأمر الله الذي هددهم بالقتل، وخليفة العراق الذي عرض عليهم ٥٠ ألف دينار، هذا غير محاولات الحرب والغزو التي فشلت كلها لاستعادة الحجر، وفي كل مرة كان يُعرض عليهم أموال ولكنهم كانوا يرفضونها بحجة أنهم اقتلعوه لأن هذا مزاجهم وسيقومون بإرجاعه حينما تهوى أنفسهم.

بعد ٢٢ سنة، وحتى يستميلوا الناس، أخذوا الحجر وعلقوه في الأسطوانة السابعة من مسجد الكوفة الخاص بسعد بن أبي وقاص، إلى أن استطاع الخليفة المقتدر في النهاية أن يقنعهم بعودة الحجر مقابل ٣٠ ألف دينار وحتى يتمموا للناس حجتهم، ووقتها كان حاكم القرامطة هو أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابي، ابن أبو سعيد، فوافق على هذا المطلب وأمر أحد القرامطة أن يقوم بإرجاعه بنفسه ويأمن روحه عنهم وكان اسمه “محمد بن سنبر القرمطي”، وفعلاً قام بإرجاعه وفرح المسلمون وقتها بهذا الإنجاز، ورجع الحج بعدما كان بيت الله الحرام مهجوراً تماماً طوال هذه السنين.

أما عن أبو طاهر فقد هلك وكبر عمره وأصبح كهلاً، وأصيب بالجدري وتعذب قبل موته من المرض حتى مات.

أما عن القرامطة، فقد أنجب أبو طاهر طفلاً فارسياً حتى يبسط نفوذه أكثر وقال إنه المهدي المنتظر، لكن هذا الطفل أصيب بالنرجسية وبدأ يسب النبي والصحابة وأعدم أعيان الدولة حتى أمر أبو طاهر بإعدام ابنه هذا واعترف أنه خُدع فيه، تأثر القرامطة بهذا الحدث وتخلت عنهم القبائل وتورطوا في حرب مع المعز لدين الله وانهزموا، وتقلص نفوذهم حتى بات في البحرين فقط لكن البحرينيين استولوا على أملاكهم وأكمل عليهم آل بهلول ومات أكثرهم بالغرق في البحر، أما أعيان قبيلة ربيعة بن نزار قضي عليهم تماماً بقيادة عبدالله بن علي العيوني، وتفرق شمل الباقين، بعضهم عاش في سوهاج في مصر، وتفرق الباقون.

————

المصادر :

البداية والنهاية – ابن كثير

ابن خلدون – تاريخ ابن خلدون.

رمزي – القاموس الجغرافي.

محمد كامل حسين – طائفة الدروز.

خرافات الحشاشين وأساطير الإسماعيليين – فرهاد دفتري

تاريخ الخليج وشرق الجزيرة العربية المسمى: إقليم بلاد البحرين في ظل حكم الدويلات العربية – محمد محمود خليل.

تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد – أبو بكر الجراعي