حديث الشيخ محمد تقي باقر(ممثل الامام الشيرازي في لبنان ) خص به مجلة «الرواد اليونانية» لمناسبة الذكرى الأولى لتحرير جنوب لبنان وبقاعه الغربي الذي استهله بالقول:

مسألة تحرير جنوب لبنان بحاجة إلى دقة أكثر، وتأمل في نقاط مهمة حدثت من ضمن برنامج التحرير.

لو نظرنا إلى الكيان الصهيوني واستعرضنا حروبه المتتالية ضد الدول العربية، وكيفية مواجهة تلك الدول لهذا الكيان، فإننا لن نرى سوى بعض النقاط المضيئة في تاريخية هذه المواجهة، التي خاضتها الجيوش العربية وهي تحمل في خلفية تحركاتها نبض الشارع العربي المنطلقة منه، بتحركها بين سندان الأنظمة ومطرقة الهمجية والعنف المتأتي من العدوان الصهيوني، فعند تسليط الضوء على الأماكن المظلمة في هذه المراحل، تتوجه إشارات الاستفهام إلى الممارسات المشبوهة لتلك الأنظمة التي قيدت شعوبها بمعاهدات هدنة وما إلى ذلك مع الكيان الصهيوني بعيد نكبة 1948، وأمرت فصائلها المتقدمة في الضفة الغربية والجليل وقطاع غزة بالتراجع تاركة فلسطين وشعبها لمواجهة مصيرهم..

أضف إلى ذلك التباين في إستراتيجيات الدول العربية فيما بعد، فعندما خاض الجيشان السوري والمصري حرب تشرين، فالسادات خاضها بنية «التحريك» كما يثبت محمد حسنين هيكل والفريق الشاذلي فيما الرئيس حافظ الأسد خاضها من أجل التحرير، فكانت النتيجة توقف الزحف المصري عند كيلو مترات معدودة في سيناء وتعرض بعض القوات المصرية للحصار تلاه خرق إسرائيلي تعدي قناة السويس غرباً، وانتقل ثقل الضغط العسكري الإسرائيلي الأمريكي إلى جبهة الجولان بعد أن أوقف السادات الحرب، وأبقى سورة تواجه بمفردها مدة ثلاثة شهور من حروب الاستنزاف، وما عقب ذلك من مؤامرة كامب ديفيد، وإشعال الحرب الأهلية في لبنان، واستفراد سورية داخلياً وخارجياً في تلك المرحلة، ومواجهتها لاجتياح 1982 الصهيوني للبنان دون الدول العربية الأخرى، وبقائها في ساحة المواجهة محتضنة المقاومة اللبنانية بأنواعها التي انتقلت من نصر إلى نصر حتى تسنى لها دحر الاحتلال في 25 أيار 2000 عن معظم الأراضي اللبنانية.

ولو شئنا مقاربة النصر الذي أحرزته تلك المقاومة فحري بنا أن ندرس الميزات التي تمتعت بها إيديولوجيتها، والنظر إلى الواقع الموضوعي الذي احتضنها، وجعلها تحقق انتصاراتها تلك من خلال ما امتلكته من صمود، وليس من خلال ما كان بحوزتها من أسلحة، فانزعاج إسرائيل، واضطرابها لم يكن من صواريخ الكاتيوشا، إنما كان من صمود ذلك المقاتل الذي وقف وراء رمايتها بالكاتيوشا!!

فالعسكري الإسرائيلي كان عند أية مواجهة ينهزم، بينما نظيره المجاهد الذي تربى على إيديولوجية معينة كان يصمد ويستشهد!!

هذه النقطة يجب الوقوف عندها ودراستها ملياً، فعقيدة هؤلاء المجاهدين تكرم الشهيد، وتضعه بمصاف العالم العامل في حد سواء، كما أنها تكرم ذرية الشهيد وذويه، فالإسلام لا يعتبر الشهيد ميتاً، يعتبره حياً.

فهذا المقاوم الذي يقاتل من أجل هدفه، ويقاوم من أجل منطقة معينة، وفكر معين، يرى في استشهاده، انتقالاً من منطقة صغيرة اسمها الدنيا، إلى عالم كبير ووسيع، وفيه إمكانيات هائلة اسمها الآخرة.

فالمقاوم لا يرى نفسه ميتاً «بل هم أحياء عند ربهم يرزقون» فالصمود الذي كان في جنوب لبنان لم يكن في مكان الآخرة.

لذا نحن بحاجة إلى تربية هذا الصمود في كل مكان تتحتم فيه مواجهة العنصرية الإسرائيلية في منطقتنا العربية.. قال تعالى «والذين جاهدوا فينا، لنهدينهم سبلنا».

علينا بعث روحية الصمود في كل مكان تتحتم فيه مواجهة العنصرية الإسرائيلية

علينا أن نشعر جنودنا أن الخندق هو بيتهم ليس مكاناً للوظيفة؟

بين الانتصار والاندحار

فعلينا أن نعزز إرادة الصمود في شعبنا، برفع الروح العقائدية لدى جنودنا، وتوفير كافة المستلزمات لهم حتى يشعر أياً منهم أن الخندق ومكان العمل كبيته بالذات، وليس مكاناً لتأدية عمله الوظيفي فحسب، ينتظر من خلاله قبض الراتب الشهري، أو نيل الإجازة، والتطلع إلى «روزنامة» العطل والأعياد وما إلى ذلك، فالمطلوب من المتطوع لخدمة الوطن وللجهاد من أجل عزته وكرامته، أن يكون معبأ نفسياً وعقائدياً ليسمو إلى مستوى المهمة التي نذر نفسه من أجلها.

وعبر هذه الرؤيا نستطيع تلمس نجاح المقاومة البطلة، وإمكانية الصبر والمصابرة، والجلد والتصميم الذي كان عليه مقاتلوها، إذا أدركنا حركية عملهم التي تعتمد على ملاقاة العدو، ومفاجأته داخل تحصيناته، بعد مراحل من الرصد الطويل لتحركاته ولسكناته، وعبر هذه الرؤيا نلمس الفرق بين المقاتل الذي انتصر وبين الجندي الإسرائيلي الذي اندحر، بين من يدافع عن أرضه وعرضه، وبين من يؤتى به كمرتزق طامع بالتقديمات المادية وما إليها، وبين من وهب نفسه للجهاد ولبس كفنه للقاء وجه ربه ولتعود له أرضه وكرامته.

إن المعايير والمقاييس مختلفة بين هذا وذاك، فعند صمود إنساننا، انهزم إنسانهم وآلاته الجهنمية.

وأعود للقول أنه في مرحلة اختلال موازين القوى كما كان حاصلاً في لبنان، وما هو حاصل في فلسطين تكون استراتيجيته حرب التحرير الشعبية هي الأنجح في تحقيق الانتصارات على العدو، وخلخلة أمنه، وإلحاق الهزيمة فيه.

وأعود للتذكير أيضاً أن التربية الوطنية النضالية أو الإيديولوجيا التي يتربى عليها الإنسان في سورية جعلت منها قلعة للصمود، والتصدي، وحاضنة للأحرار وللحرية العربية، وقائدة لانتصاراتها، فالانتصار الذي تحقق هو انتصار لسورية الأسد، أهدي لها من المقاومة ورأسها، عبر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وكان ذلك اعتراف بالجميل على رؤوس الأشهاد، دون مغالاة أو مواربة، في لحظات الحسم الرئيسية، وكان ذلك مؤشر واضح على صدق هذه المقاومة وصدقيتها، وعلى أنها سائرة في مشوارها الجهادي إلى نهايته، وهذه النقطة بالذات ستبقى تزعزع الكيان الإسرائيلي الذي بدأ عده التنازلي بالتسارع.

ما ينقص الانتفاضة

ورداً على سؤال قال: أنا في تصوري أنه في مسألة الانتفاضة هناك نقص في جانبين، الجانب الأول في موضوع الإعلام والثاني في موضوع التحرك الديبلوماسي، أما في الجانب الإعلامي فهو محصور في دول عربية ضيقة، فعندما تخرج إلى الدول الأوروبية وتطلع على وسائل الإعلام من صحف وغيرها ترى الغرب بأكمله يقول بأن الفلسطينيين هم الذين استعملوا العنف، لذلك فالانتفاضة الفلسطينية بحاجة لإيصال صوتها المظلوم إلى الجانب الغربي، لكي تخلق جواً مضاداً للصهيونية.

هذا التركيز على الجانب الإعلامي غير موجود أولاً!!

والتركيز على الجانب الدبلوماسي أيضاً غير موجود!!

فإذا نظرنا للعاملين في الانتفاضة سواء – سلطة الحكم الذاتي أو فصائل المقاومة الموجودة في الداخل – لا تمتلك حركة ديبلوماسية تواكب تطورات هذه الانتفاضة، وتفتقد للحركة والتواصل مع بقية الدول والأنظمة، ومع الحركات والأحزاب الموجودة في الخارج.

فالانتفاضة في الداخل بحاجة إلى أفراد يكونون سفراء متجولين، يعكسوا التفاصيل الدقيقة للقضايا بحذافيرها (يعكسوها في الإعلام الغربي، يعكسوها للسفراء، يعكسوها للمنظمات والأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية)، المهم أن الانتفاضة يجب أن يكون لها نشاطها في الخارج للإيضاح وإعطاء التفاصيل.

على سبيل المثال: استشهاد الصبي الصغير «محمد الدرة» والوهج الإعلامي الذي استحوذت عليه عالمياً، كان بفضل وكالة إعلام غربية نشرت الصورة، أي أن شبكة غربية واحدة خدمت القضية الفلسطينية أفضل مما خدمها أبناؤها!! ولا أقول كلا في هذا تأييداً للشبكة الأجنبية، إنما أورد ذلك للتدليل على الضعف الحاصل في الجانبين الإعلامي والديبلوماسي.

هاتان المسألتان إذا تمكنا بالنهوض فيهما، نتمكن أن ننتصر داخل الأرض المحتلة أكثر بكثير مما هو عليه الآن، وقد تساهم في تقصير المدة الزمنية لكف يد تلك الممارسات الصهيونية، بل لقطعها، إن هذا الجهاد القائم الآن مشكور، لكنه ناقص!!

في مسألة غزوات الرسول (ص) عندما رجع المسلمون من غزواتهم قال لهم «انتصرتم في الجهاد الأصغر» الجهاد الأصغر هو (ميدان الحرب) هناك جهاد أكبر: قسم منه في النفس (تربية الكوادر) وقسم منه العمل في محيط (تربية الكوادر) وقسم منه العمل في محيط الجانب الجهادي وهو العمل الإعلامي في عصرنا الحاضر والجانب الديبلوماسي.. والجانب الاقتصادي يذلل إذا نشط الجانبان السابقان.. فمن خلال الانترنت، نجد أن شخصاً واحداً ينادي لقضية جزئية، ويجني منها المرابح، بينما الانتفاضة بعظمتها ترى أنها تعاني في المسألة الاقتصادية!!

فإذا تحرك جناحا الانتفاضة الديبلوماسي والإعلامي، بالوقت المناسب إلى الشعوب من أجل إقناعها والوقوف مع قضيتنا العادلة فإن ضائقتها الاقتصادية ستنفرج، لأن الشعوب لا تمد عونها ودعمها إلا بعد أن تقتنع وتجلى ضلالالتها، فالدول تدفع من أجل مصالح معينة، بينما الشعب يدفع نتيجة تعاطفه مع القضية!!

ودائما عطاء الشعب أكبر من عطاء الدول..

هناك محاولات من بعض الجهات لكبت جذوة انتصارات المقاومة وتبديدها، بسبب رهانات هذا البعض وخياراته التي لا تخفى على أحد..

تربية الإنسان نضالياً وإيديولوجياً في سورية جعلها قلعة للصمود والتصدي

\الانتفاضة تنقصها المواكبة الإعلامية والدبلوماسية

مقاييس الصمود

والسؤال، ما هي ماهية الخطاب الذي من خلاله يمكن استغلال هذا الانتصار بطاقته القصوى؟

استغلالنا للانتصار الذي حصل – الذين عملوا في هذا الحقل – خففوا من عملهم الإعلامي عندما أصبح الانتصار!!

الطفل دائماً يحتاج إلى الغذاء بكى أو لم يبكِ، المقاوم دائماً يبقى بحاجة إلى دعم، جاهد أو بقي منتظراً لوقت معين كي يجاهد مرة أخرى.

فإذا قلنا للمجاهد أنه بالأمس كان وجودك مطلوباً، أما اليوم فلا لأنك لا تعمل فهل هذا من المنطق؟

إذاً فالمقاوم علينا أن نبقيه في جهوزية تامة، كي يعود إلى نشاطه متى يطلب منه ذلك.

بالطبع هناك جهات وأفراد لها مصالح دولية ومحلية أيضاً.

وهناك ما يشار إليه من وراء الكواليس، بأن الدول المانحة، التي أعلنت يوماً أنها ستقدم مساعدات مالية إلى لبنان اشترطت دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب، وهذا يعني تضييق الخناق على المقاومة.

فهذه المقاومة لو اشتغلت على الدول المانحة، وشرحت الوضع الموجود، وعملت العمل الإعلامي والدبلوماسي وأعطت النماذج والتصورات، فإن هذه الدول ستتأثر ولو بنسبة معينة.

ومن ناحية ثانية: لا يمكن أن تكون كل الأطراف والقوى وجهة نظرها مطابقة لوجهة نظرنا، ومنهم من يرفض المقاومة هذا شيء طبيعي، فللمقاومة أعداؤها في الخارج وغيره فلا يمكن إلغاء وجود الأعداء، فمع وجود الأعداء إذا استمريت وبقيت فأنت صامد،والصمود يقاس بمدى فعالية الخصم وليس العكس.

ثمرة التاريخ

* في هذه الأيام نعيش ذكرى جلاء الاستعمار الفرنسي عن سورية، وذكرى تحرير الجنوب من المحتل الصهيوني فما هي الكلمة التي توجهها سماحتكم في هاتين المناسبتين؟

– أعتقد أن الشعب الذي موجود في سورية، وكل إنسان يرى نفسه منفتحاً ومثقفاً عليه أن يدرس تاريخ سورية وتاريخ المسؤولين الذين كانوا في سورية.. فمثلاً الراحل الكبير حافظ الأسد يمتلك تاريخاً ومواقف كبيرة سواء نشر بعضها أم لم ينشر هذا التاريخ يحتاج إلى دراسة.

* لماذا أصبحت سورية دولة الصمود والتصدي.. لماذا واجهت إسرائيل بمفردها فيما بقية الدول العربية لم تدعمها تقريباً؟

– هناك تاريخ وآثار لمواقف لماذا أخذت.. من أجل استراتيجية معنية وفكر معين، وتاريخ الرئيس الخالد حافظ الأسد يحتاج إلى دراسة، وهناك مفاصل هامة في البنية الاجتماعية في سورية تحتاج إلى دراسة أيضاً.

فمواقف الرئيس الدكتور بشار الأسد المتتالية، في غير قمة ومؤتمر – والتي لاقت استحساناً عند الجماهير العربية، ونقل نبض الشارع العربي – هي ثمرة هذا التاريخ الطويل لسورية.

فعبر هذه الإشارات نرى أن سورية تتعامل مع القضية الفلسطينية والحالة المقاومة والمناهضة لهذا المشروع على أساس فكري وعقائدي وليس من باب المصالح، إنها تتعاطى مع ذلك الصراع على أنه صراع وجود وليس صراع حدود.

فالعقيدة الراسخة في الحكم والمبدأ هي التي تبقي المقاوم والعسكري في خندقه، ويعتبر خندقه بيته، فإذا لم يكن هناك من إيديولوجية لن يتحقق الإنتصار بالشكل المرغوب والمطلوب، فنحن كمقاومة وإنتفاضة فلسطينية، إذا التزمنا بمبادئنا وفتشنا عن نقاط الخلل وعالجناها، سنتمكن من إعطاء المجاهد على أرض الواقع أكثر، فتضافر العوامل المشكلة للمقاومة على الصعيد المباشر في المواجهة وعلى صعيدي الإعلام والديبلوماسية، فإذا استغلينا الظرف الموجود الآن والتغيرات الدولية الحاصلة وعلى رأسها تبدل الإدارة الأمريكية، فعلينا أن نغزو الأطراف كافة ديبلوماسيا وإعلاميا وثقافيا على حد قول الإمام علي سلام الله عليه «ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا» فلماذا نحن ننتظر جولات المبعوثين الأمريكيين والأوروبيين مثلاً!!

فعلى الانتفاضة أن تستعمل كل أجنحتها وتذهب إلى العالم كافة لتوضح لب الصراع القائم ولتفضح الممارسات الصهيونية الحاصلة، ولتكشف زيف إعلامها وادعاءاتها التي تضلل الغرب، وكي تنشر تفاصيل القضايا، وتصل إلى كل لغات العالم – وإن كانت جزئيات صغيرة – وأتساءل لماذا المظلوم ينتصر لأن تعاطفاً كبيراً قد يحصل عليه عندما يوصل صوته إلى الآخرين.

أوصل صوت المظلومية للآخر حتى تحصل على دعمه وعطفه، وإذا لم توصل فما لك حجة عليه!!

وختم بالقول: وسورية بتصوري وحسب معلوماتي من الرئيس بشار الذي التقيته وكنت أحمل له رسالة من المرجع الإسلامي المعروف الإمام الشيرازي، فرأيت أن الرئيس بشار الأسد يمتلك قراراً بالاستمرار في الصمود، هذا القرار بطبيعة الحال ينعكس على الشعب والعسكري في الخندق، ويدعم الجميع نفسياً، ويساهم في تحقيق الدعم المادي والمعنوي للمقاومة أكثر في لبنان وفلسطين، وأن لا خوف على الرئيس بشار وعلى سورية، وأن المقاومة في لبنان ستنتصر أكثر، ومزارع شبعا ستحرر عما قريب.