نيللي عادل / عربي بوست

في الفترة الممتدة من العام 1880 إلى 1920، وهي ذروة الإمبريالية البريطانية، كانت أعداد الضحايا الذين قضوا نحبهم إما بسبب مساعدة الإمبراطورية في حروبها وعملياتها العسكرية، أو نتيجة لسوء تداعيات وضعهم الإنساني تحت سلطتها في تزايد مستمر.

فقد أودت السياسات الاستعمارية البريطانية في الهند بحياة أكثر من كل ضحايا المجاعات في الاتحاد السوفييتي والصين وكوريا الشمالية مجتمعين.

كان الفقر المدقع غير معتاد ولم يظهر إلا خلال فترات الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي العميقة، لا سيما خلال فترة الاستعمار. ومع تطور الرأسمالية منذ أواخر القرن السادس عشر، انخفضت الأجور إلى ما دون مستويات الكفاف، وانخفض معدل عُمر الإنسان، وازداد عدد الوفيات المبكرة.

ويؤكد البحث المنشور مطلع عام 2023، الذي يحمل عنوان “الرأسمالية والفقر المدقع: تحليل عالمي للأجور الحقيقية، وطول عُمر الإنسان، والوفيات خلال القرن السادس عشر”، على عمق المأساة الإنسانية التي لحقت بالهند بسبب بريطانيا.

إذ لم يتعافَ السكان الأصليون في أجزاء من جنوب آسيا وفي إفريقيا وأمريكا اللاتينية بالكامل، إلا بحلول مطلع القرن العشرين، حيث بدأت رفاهية الإنسان في الارتفاع بشكل ملحوظ، بالتزامن مع صعود الحركات السياسية الديمقراطية والمناهضة للاستعمار.

وقد قدر المؤلفون في البحث عدد الأفراد الذين لقوا حتفهم بسبب الممارسات الاستعمارية البريطانية على مدار أربعة عقود مروعة امتدت من ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى عشرينيات القرن الماضي باستخدام بيانات التعداد.

وتعود الإحصائيات الموثوقة حول معدلات الوفيات في الهند إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر. وتم اكتشاف أن 50 مليون حالة وفاة إضافية حدثت تحت رعاية الاستعمار البريطاني بين عامَي 1891 و1920، مما رفع عدد الوفيات الإجمالية التي سببتها الإمبريالية إلى أكثر من 100 مليون شخص.

مستويات معيشة غير إنسانية ساهمت في ارتفاع الضحايا

وتشير البيانات المتعلقة بالأجور الحقيقية إلى أنه بحلول عام 1880، كانت مستويات المعيشة في الهند الاستعمارية قد انخفضت بالفعل بشكل كبير عن مستوياتها السابقة، بحسب موقع Aljazeera.

وبالرغم من أنه من غير الموثق كم كانت أعداد الوفيات السنوية في الهند قبل الاستعمار، ولكن على افتراض أنه كان مشابهاً لمعدل الوفيات في إنجلترا في القرنين السادس عشر والسابع عشر بنحو 27.18 حالة وفاة لكل 1000 شخص، يتضح أن 165 مليون حالة وفاة زائدة حدثت في الهند خلال الفترة من 1881 إلى 1920.

وفي حين أن العدد الدقيق للوفيات يحتمل الكثير من الافتراضات، لكن الدراسة ترجّح كيف أنه ناهز الـ100 مليون شخص من الموتى الإضافيين في ذروة الاستعمار البريطاني.

لتكون تلك من بين أكبر أزمات الوفيات الناجمة عن السياسات في تاريخ البشرية. فهو أكبر من العدد الإجمالي للوفيات التي حدثت خلال جميع المجاعات في الاتحاد السوفييتي والصين وكوريا الشمالية وكمبوديا وإثيوبيا.

تعرضت الهند لمجاعات مضنية بسبب سياسات بريطانيا الاستعمارية – ShutterStock

تعرضت الهند لمجاعات مضنية بسبب سياسات بريطانيا الاستعمارية – ShutterStock

كيف تسببت الإمبراطورية البريطانية في هذه الخسائر الفادحة؟

كانت هناك عدة آليات كانت السبب في وقوع كل هذه الضحايا. أولاً، دمرت بريطانيا بشكل فعال قطاع التصنيع في الهند. فقبل الاستعمار، كانت منطقة شبه جزيرة الهند واحدة من أكبر المنتجين الصناعيين في العالم، حيث كانت تصدر المنسوجات عالية الجودة إلى جميع أنحاء العالم.

ولكن كل ذلك بدأ يتغير عندما تولت شركة الهند الشرقية البريطانية السيطرة على البنغال عام 1757.

فبحسب المؤرخ الهندي الأمريكي مادهوسري موكرجي، فقد ألغى النظام الاستعماري عملياً التعريفات الهندية، مما سمح للسلع البريطانية بإغراق السوق المحلية، لكنه أنشأ نظاماً من الضرائب الباهظة والرسوم الداخلية التي منعت الهنود من بيع الملابس داخل بلادهم، علاوة على تصديرها.

وبالتالي أدى نظام التجارة غير المتكافئ هذا إلى سحق المصنعين الهنود وخسف بفكرة التصنيع في البلاد نهائياً.

استنزاف مقدرات الهند قتل شعبها من الفقر والجوع

علاوة على هذا، أنشأ المستعمرون البريطانيون نظاماً للنهب القانوني، أو ما يُعرف بقانون “استنزاف الثروة”. وذلك حينما فرضت بريطانيا ضرائب على السكان الهنود واستخدمت عائداتها لشراء المنتجات الهندية، وعلى رأسها أصباغ النيلي والحبوب والقطن والأفيون، وبالتالي تمكنت من الحصول على هذه السلع مجاناً تقريباً.

ثم تم استهلاك هذه السلع إما داخل بريطانيا أو إعادة تصديرها إلى الخارج من أجل التربُّح، واستخدامها لتمويل التنمية الصناعية لبريطانيا ومستعمراتها الاستيطانية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا.

استنزف هذا النظام الهند من البضائع التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات بقيمة المال اليوم؛ مما أجبر الهند على تصدير الغذاء حتى عندما كان الجفاف أو الفيضانات يهددان الأمن الغذائي المحلي.

وفي البحث المنشور في يناير/كانون الثاني عام 2023، أثبت المؤرخون أن عشرات الملايين من الهنود ماتوا جوعاً خلال العديد من المجاعات الكبيرة التي سببتها السياسات البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر؛ حيث تم نقل مواردهم إلى بريطانيا ومستعمراتها الاستيطانية.

وكان المسؤولون الاستعماريون مدركين تماماً لعواقب سياساتهم آنذاك. إذ شاهدوا الملايين يتضورون جوعاً وأعداد الوفيات في تصاعد مستمر، ومع ذلك لم يغيروا مسارهم.

ومع ذلك، لا يشمل هذا الرقم المذهل عشرات الملايين من الهنود الذين ماتوا في مجاعات من صنع الإنسان تسببت فيها الإمبراطورية البريطانية.

ففي مجاعة البنغال سيئة السمعة عام 1943، مات ما يُقدر بنحو 3 ملايين هندي جوعاً، بينما صدّرت الحكومة البريطانية الطعام وحظرت واردات الحبوب.

وجدت الدراسات الأكاديمية التي أجراها العلماء أن مجاعة البنغال عام 1943 لم تكن نتيجة لأسباب طبيعية؛ بل كانت نتاج سياسات رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل.

ضحايا الحروب وعمليات القتل الممنهج

في كتابه بعنوان حرب الحضارات: الهند عام 1857، يقول أماريش ميسرا، الكاتب والمؤرخ الهندي، إن هناك “محرقة” تسببت في مقتل ما يقرب من 10 ملايين شخص على مدار 10 سنوات بشكل مباشر، وذلك بدءاً من عام 1857 وحتى زوال الاستعمار عن شبه الجزيرة الهندية.

وقد أحصى التاريخ بحسب المؤرخ مقتل 100.000 جندي هندي قُتلوا في أعمال انتقامية وحشية فقط، لكن لم يحسب أي منهم عدد المتمردين والمدنيين الذين قتلتهم القوات البريطانية آنذاك لفرض النظام وتعزيز صفوفها العسكرية في مختلف حروبها.

وتستند حسابات الكاتب إلى السجلات المتعلقة بعدد مقاتلي المقاومة الدينية الذين قتلوا في فترة الاستعمار البريطاني، والذين كانوا إما من المجاهدين الإسلاميين الذي قاوموا الاستعمار أو الزاهدين الهندوس من الملتزمين بطرد البريطانيين.

المصدر الثالث يتعلق بسجلات القوى العاملة البريطانية، التي تظهر انخفاضاً مفاجئاً في القوى العاملة بنسبة تتراوح بين خُمس أو ثُلث العاملين في مساحات شاسعة من الهند، وهو ما كان وفقاً لسجلات رسمية بريطانية “بسبب سيطرة القوة البريطانية في البلاد”.

وفي النهاية، ساد الحكم البريطاني للهند لمدة 90 عاماً أخرى، وشاركت الإمبراطورية آنذاك في عدة حروب أكبرها الحرب العالمية الأولى والثانية.

وحينها خصصت صفوف مقاتلة قوامها من المواطنين الهنود الذين حاربوا تحت إمرتها، وقُتل الآلاف منهم إما في أرض المعركة أو في البلاد نتيجة الفقر المدقع، ولم يتوقف هذا الحصد في الأرواح حتى آخر لحظة من التواجد البريطاني في الهند عام 1947 وإعلان الاستقلال والتقسيم.