بين الفينة و الأُخرى تبرز على الساحة العالمية تيارات جارفة تكتسح العالم و تجذب العطاشى من الباحثين عن الحق و الحقيقة، و الأمن و الأمان، و الكرامة و الرفاه، و السعادة و السلام، و بغض النظر عن نوايا الحاملين للأفكار و الايدئولوجيات، فإنَّ غالبية الشعارات المرفوعة من قِبلهم برَّاقة و لها من الجاذبية التي تمنحها القدرة لتبقى فترة من الزمن يتداولها الأفراد و الأُمم، لكن بمرور الزمن و بعد أن يُكشف القناع عن حامليها و بسبب عدم ارتكازها على أساس قويم سرعان ما تندثر و تزول و تفقد بريقها و جاذبيتها.
و لقد شهد العالم المعاصر ظهور ثلاثة تيارات رئيسية من هذا النوع:
١. التيار اليساري؛ المتمثِّل بالشيوعية أو الإشتراكية أو مثيلاتها و التي كانت ترفع شعار المساواة و إنقاذ الطبقات الضعيفة.
٢. التيار الرأسمالي الغربي؛ الذي يرفع شعار الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان.
٣. التيار (الديني)؛ الداعي إلى بسط العدل و رفع الحيف و الظلم عند”الخاصة”؛ و نموذجه بعض الحكومات ذات الولاية المطلقة.
أو العودة إلى ما يُسمّى بـ (السلف) عند “العامة”؛ و نموذجه داعش و القاعدة.
و رغم الاختلاف في الدرجات إلا إنّها جميعًا واجهت مصيرًا واحدًا حيث ولّى المد الشيوعي دون رجعة، و فقد الغرب مصداقية شعاراته بسبب انحصار السلطة بيد فئة خاصة داخل حدودها، أما في خارج الحدود فإنَّ المصالح هي التي تحكم و لا أثر لتلك الشعارات، بينما جوبه التيار (الديني) بالردة و التراجع بسبب ممارسات فئة حاكمة استولت على الحكم بصعودها على أكتاف الدين دون أن تلتزم به، و قد أدّى ذلك إلى خروج الناس أفواجًا من دين الله.
و بناءً على ما سبق؛ يُطرح هذا التساؤل؛ ما هو البديل الذي يمكن أن يعيد ثقة الأفراد و الأُمم بشكل عام في العالم؟، و هل بقي شئ في جعبة الإيدئولوجيات لتقدِّمه؟
و بخصوص ما يرتبط بالتيار الديني القائم على ركيزة حقيقية؛ ما الجديد الذي يملكه هذا التيار في رصيده لمخاطبة الناس لإعادة المد الديني و هو يرى فرارهم من الدين؟
لا شك إنَّ الدين الإسلامي هو نفس الدين الذي جاء به رسول الإسلام صلى الله عليه و آله و سلم قبل حوالي إثنان و أربعون و أربعة مائة و ألف عام، و الذي جاء للناس كافة و لم يختص بأُمة دون أُخرى، كما أنه جاء خاتِمًا للديانات، و لذلك فإنّه يلبّي حاجة البشر في كل زمان و مكان، و لم يكن ليحتاج إلى تغيير أو تجديد، و ليس له أن يتبدَّل أو يتحوَّل، مهما طغت عليه سلوكيات من تقمّص مقامًا ليس مقامه أو حكم باسم الدين و هو بعيد عن مبادئه.
من هنا فإنَّ البديل هو؛ تطبيق منهجه الكامل، و لقد قام الإمام السيد محمّد بن المهدي الحسيني الشيرازي بتأطير و اختزال هذا المنهج في مصطلح هو مترادف مع مفردة “الإسلام”؛ ألا و هو “اللاعنف”، فطرحه كـ إيدؤولوجية عقائدية و سياسية و اجتماعية و رؤية تعلو جميع الرؤى و النظريات المعاصرة و تصلح لعلاج أزمة العصر الراهن، حيث يقول: “إنّ البشر اليوم هم نفس البشر، وزماننا الراهن هو نفس الزمان بالنسبة إلى ضرورة تطبيق القوانين الإسلامية، فإذا أردنا إنهاض المسلمين وهداية غيرهم احتجنا إلى نفس منهج اللاعنف الذي ورد [بألفاظ مختلفة]؛ السلم والرفق واللين و نحوها ..”. (١)
و بذلك يمكن القول أنَّ نظرية “اللاعنف” بحد ذاتها تصلح أن تكون مدرسة فكرية أو تيار مستقل فتحوّلت إلى “تيار رابع” إن صح التعبير، و الذي بقي مضمورًا في ظل ممارسة أصحاب التيارات الثلاثة الآنفة الذكر، و رأى النور كردة فعل لتلك الأفعال.
و بما أنها جاءت من قِبل زعيم ديني معاصر، فبإمكانها أن تعيد مجد المد الديني، خاصة في الوقت الراهن حيث الأجواء معبأة بشكلٍ ما ضد حالات التديّن، و في نفس الوقت تصلح أن تكون بديلا عن الفراغ الحاصل نتيجة تراجع المدراس الأُخرى.
و في هذا الصدد يقول الإمام الشيرازي: “إنَّ العولمة الغربية الرأسمالية بهذا الشكل الموجود هي كالعولمة الشرقية الشيوعية في أنها لم تؤسَّس على أُسس عقلية ومنطقية، ولا على قواعد إنسانية وأخلاقية، وأي شيء يكون كذلك لا يكتب له البقاء والخلود، وإنما يُسجّل لنفسه الزوال والسقوط، كما سجلت العولمة الشرقية الشيوعية لنفسها ذلك بعد أن فسدت وأفسدت كل شيء ثم زالت إلى غير رجعة”. (٢)
من هنا؛ فإنّ طرح هذه النظرية و تبنيها لم يأتِ بطرًا أو ترفًا، أو مجرد درس في الأخلاق، و إنما كضرورة ملحّة، و كما يظهر فإنَّ الإمام الشيرازي قد وصل إلى هذا المفهوم بعد أن نظر إلى العولمتين و مآليهما، فأخذ يبحث في المفاهيم الإسلامية القائمة على العقلية و المنطقية و الأخلاق و الإنسانية فنظَّر معاني؛ كـ الأُخوّة و الحريات و الشورى و التعددية و اليقظة الإسلامية، فاستنتج أنّ “اللاعنف” يختزل جميع تلك المفاهيم. (٣) و لعملية الاختزال هذه كثير من التفاصيل، حيث لو دُرست فإنّها تتطلب أكثر من ألف مجلد و كرّاس و محاضرة، و قد تبنّاها الإمام الراحل في موسوعته الفكرية.
من هنا؛ فإنّه يُمكن القول أنّ الذي يريد أن يمارس الخطاب الديني في هذا الزمن فإنَّ السبيل الأنجح هو طرق باب “اللاعنف” و تعريفه على أنه يمثِّل روح الإسلام، و بذلك فإنَّ الطرف الآخر، سواءً من الخصوم أو غيره الذي يدّعي العلمنة و الليبرالية “Secularism”، فإنّه ليس باستطاعته أن يعادي هذا الطرح، و إلّا فهو يناقض نفسه بنفسه.
و في العالم المعاصر هنالك من سبق و اتخذ من “اللاعنف” وسيلة للوصول إلى الهدف؛ كـ غاندي و مانديلا و مارتن لوثر كينغ، إلا أنَّ الأمر لم يتجاوز عندهم أكثر من كونه وسيلة للنضال و في إطار إقليمي محدود، بيد أنَّ الإمام الشيرازي قد وسَّع المفهوم ليكون وسيلة و هدفًا في آنٍ واحد دون أن يحدِّده لمجال معين، و لم يقيّده بزمان أو مكان، كما أنه قد أرجعه إلى منبعه الأصيل حيث يقول: “يجب التمسك باللاعنف كمنهج في جميع الأمور كما فعله رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين”(٤)، مما جعله مؤهلًا ليبرز على شكل تيار جارف، و بذلك فإنّه الرائد الأول في هذا المضمار.
و يستشهد الإمام الشيرازي بأهم حادثة مرّت على التأريخ على الإطلاق و أشدّها تأثيرًا على الوجود، ألا و هي حادثة الطف عام ٦١ للهجرة، حيث يرى منهجية سيد الشهداء و أبا الأحرار الإمام الحسين عليه السلام كانت قائمة على “اللاعنف” المطلق، فلو أراد الإنتصار على طريقة أصحاب السياسة و المصالح لكانت جميع الوسائل و السبل متوفرة لديه؛ كإعطاء الوعود، و المناورات السياسية، و منع الماء عن الجيش الذي جاء لمحاصرته بقيادة الحر، و البدء بالحرب و سائر أساليب الالتواء، لكنه كان يراها أساليب غير مشروعة، فانتهج عكسها حيث سقى أفراد الجيش المعادي مع خيولهم التي كانت بمثابة معدّات عسكرية، و امتنع عن البدء بأي قتال رغم أنه لو كان يبدأ لكانت المعادلة تتغيّر لصالحه، و سائر ما قام به حتى قُتل مع أصحابه و أهل بيته و طفله الرضيع في سبيل مبادئه.(٥)
و هكذا فإنَّ الحرب التي تبرز أفضل و أسوأ ما لدى الطبيعة البشرية إلى الظهور، فإنّها قد أبرزت أسمى معاني الإنسانية من قِبل سبط نبي الإسلام فكانت ظاهرة اللاعنف، و أسوأ الصفات من جهة خصمه فكان العنف.
و في العصر الحاضر؛ فإنّه لا دليل أقوى من ضرورة بروز هذا التيار -اللاعنفي-، إلا وضع العالم اليوم المبتلى بكل أنواع العنف؛ من الإرهاب و الاستبداد و الفقر، بل و حتى الوباء العالمي الأخير “كوفيد-١٩” الذي انتشر في كل أرجاء المعمورة و أدّى إلى فقدان التعاون و الأمن الطبي و التنافس غير السليم بين الأقوياء و هو أيضًا من مظاهر العنف.
إنَّ نظرية “اللاعنف” قد أخذت على عاتقها معالجة مواضع الخلل من جميع الجوانب، و لم تغفل حتى عن أبسط مظاهر العنف حتى على مستوى اللسان أو القلم أو رفع الشعار؛ و في هذا الصدد يقول الإمام الشيرازي: ” يلزم على الحكومة ترك مظاهر العنف حتى في الشعار ،كالموت للدولة الكذائية، وما أشبه”،(٦) كما أنه يرفض العنف الرمزي كرمي الحجارة في الاحتجاجات و المظاهرات، (٧) أو حتى المقاطعة و الحصار الاجتماعي، بل و ينبغي أن لا يمد الإنسان يده نحو الإيذاء و لو بالنسبة إلى أقوى خصومه، و لو كان المد لرد الاعتداء مستندًا إلى قوله تعالى: “و أن تعفوا أقرب للتقوى”. (٨)
و يرى الإمام الشيرازي أنَّ “العنف” هو من ثالوث التخلّف، حيث “الغرور” و “فقدان منطق اليوم” ضلعيهما الأُخريين، فالأُمة و إن ترى أنّ الحق معها و أن من يعاندها مغتصِب، إلا أنها حينما تنتهج نهج العنف فإنَّ ذلك سيؤدي بها إلى سوء التصرّف و يكون أداة هدم لبنائها. (٩)
و يتنبأ الإمام الشيرازي أنَّ المستقبل يبشر بخير، و أنَّ اللاعنف سيكون سيد الموقف، و في هذا الصدد يقول: “لو ضغط الرأي العام العالمي على أن يبدل الرؤساء، آلة الحرب و الهدم بآلة السلم والبناء، لكان للعالم اليوم وجه آخر وصورة أخرى تخلو إلى حد كبير من الفقر، والجهل، والمرض، والفوضى، والبطالة و…، و قد لا يصدِّق أحد: أن يتخلى العالم عن ترساناته العسكرية والنووية في الوقت الحاضر، لكن العقل يحكم بذلك في السنوات القادمة.. فإذا صار العقل سيد الموقف، انهارت تلك المؤسسات العسكرية، ونشأت مكانها المؤسسات العمرانية والاقتصادية التي نحن اليوم في أمس الحاجة إليها”. (١٠)
و عليه و بناءً على ما سبق؛ فإنَّ نظرية “اللاعنف” قادرة على أن تحفظ الأخلاق و القيم السامية في المجتمع، و تعيد النهضة لدى الأُمم و تلبّي طموحاتها من جديد، و بذلك يُقام مجتمعًا مدنيًّا عالميا.
الهوامش.
(١) الإمام الشيرازي؛ اللاعنف في الإسلام، ص٧.
(٢) الإمام الشيرازي؛ الفقه: العولمة، ص٦٦.
(٣) الإمام الشيرازي؛ رؤى عن نهضة الإمام الحسين عليه السلام، ص٦. و الحسين عليه السلام مصباح هدى صص ٣-٧. و الصياغة الجديدة لعالم الإيمان و الحرية و الرفاه و السلام.
(٤) الإمام الشيرازي؛ التيار الإصلاحي، ص٣٢.
(٥) الإمام الشيرازي؛ اللاعنف في الإسلام، صص٥١-٥٢.
(٦) الإمام الشيرازي؛ فقه السلم و السلام، صص١٥ و ٢٩.
(٧) د. سعد إمارة؛ نظرية اللاعنف عند الإمام الشيرازي، دراسة مقارنة، ص٥٣.
(٨) الإمام الشيرازي؛ إلى الوكلاء في البلاد، ص٩٩.
(٩) الإمام الشيرازي؛ نحو يقظة إسلامية، صص ٨ـ٩.(١٠) الإمام الشيرازي؛ الغرب يتغيَّر، ص٢٣.