نظراً للهدف السامي الذي جاءت الأديان من أجله ألا وهو اخراج المجتمعات البشرية من نير العبودية والجهل وعبادة غير الله مما لا يستحق العبادة إلى عبادة الله الواحد القهار كيما تنال المثوبة الإلهية في ظل الأخلاق الفاضلة التي أرادها الله تعالى تجد هذه الأديان تولي أجزاء المجتمعات (الأُسَر) عناية خاصة.

ولكون الدين الإسلامي هو الدين الخاتم لكل الأديان، والذي جاءت أحكامه متناسبة مع ما وصل إليه العقل البشري من الكمال والرقي، كانت عناية هذا الدين بالأسرة أكثر من غيره من الأديان.

إن هذا الأمر لم يكن ليخل بالأديان الأخرى أو ينال منها. ولكن الذي يجب أن يدرك. هو أن تلك الأديان لم يكن نطاق ساحتها ليشمل العالم كافة بل جاءت لمرحلة زمنية مؤقتة، كما أنها لم تسلم من يد التحريف في حين كانت ساحة الإسلام أوسع فهو الدين الذي جاء للبشرية كافة، والذي تكفلت اليد الإلهية بالمحافظة عليه من أن تمتد له يد التحريف.

إن عناية الإسلام بالأسرة لم تقتصر علىتلك المرحلة الزمنية التي تكون الأسرة فيها واقعاً قائماً، إنما «تنبت الشريعة الاهتمام بمقدمات بنائها قبل قيامها. فهناك مقدمات مهمة لاختيار الزوج لشريكه حتى يكون البناء الأسري سالماً ودائماً، هذا إضافة إلىالاهتمام البالغ بالأسرة بعد قيامها ودوام ذلك إلى مابعد قيامها وخصوصاً حول تحديد العلاقات بين الزوجين، وبين ثمار العائلة وهم الأطفال»([1]).

لقد عنيت الأحكام الإسلامية بتثقيف المسلم بالثقافة الأسرية الصالحة التي تقوم على مباديء الفضيلة وتركيزها في نفسه، وهذا هو دأب الإسلام إذ يهتم بزرع مبادئه في النفوس. فكان من أثر هذه السياسة أن أورد لنا التاريخ على صفحاته من قصص الحياة الأسرية مما يعده الجاهل بالإسلام ضرباً من ضروب الخيال.

إن هذه القصص تعكس لنا بوضوح مدى ترسخ التعاليم الإسلامية في نفوس أصحابها الذين يسحقون أنفسهم وفاء للحياة الزوجية تقرباً إلى الله تعالى.

قال الأصمعي الذي كان وزيراً للمأمون:

«كنت أرافق المأمون في قافلة صيد ترفيهية، وفي أثناء المسير أضعت القافلة لأرى نفسي وحيداً في صحراء قاحلة، وبعد مسيرة تحملية شاهدت من بعيد خيمة تلوح في الأفق فتحركت صوبها لأجد فيها امرأة شابة جميلة فسلمت عليها، وجلست في ظل خيمتها وقلت لها:

هل لي شربة ماء؟

فتغير لونها وقالت:

لم أكتسب إذناً من زوجي في مثل هذا الأمر، وإن كان لك أن تشرب شيئاً فهذا غذائي أقدمه لك وهو ضياح من لبن.

يقول الأصمعي: شربت اللبن، وجلست في ظل الخيمة ساعة، وبعدها شاهدت فارساً على جمل، فقامت المرأة من جلستها، وحملت بيدها قليلاً من الماء وكأني بها تنتظر ذلك الفارس.

وصل الفارس إلى الخيمة وكان زوجها، فقدمت له الماء ليشرب ثم نزل عن جمله وإذا به رجل عجوز، أسود الشكل قبيح، لا يطاق منظره، سيء الخلق والأخلاق، فهمَّت المرأة نفسها وجاءته بطبق وإبريق لتغسل به يديه ورجليه ووجهه.

بدأ زوجها بالتحجج، وإثارة ما لا يثيره العاقل الفطن، حيث كان يسيء مخاطبتها، وتتلطف له بالرد، ولسوء خلقه لم أتحمل الجلوس في ظل خيمته بل فضلت الجلوس في الشمس المحرقة بعيداً، على أن أجلس إلى خيمته وأستمع إلى سوء أدبه.

وما أن تحركت حتى قامت امرأته لتوديعي، حيث لم يكن هو مهتماً لهذا الموضوع بالمرة، وعندما دنت المرأة مني قلت لها:

أيتها المرأة، إنك شابة جميلة، فلِمَ ارتباطك بهذا الشيخ العجوز الذي لا يمتلك من حطام الدنيا إلاّ أخلاقاً سيئة وجملاً هزيلاً، بالإضافة إلى شكله القبيح؟

فأجابت بعد أن بان عليها الامتعاض:

أيها الرجل أتريد الايقاع بيني وبينه، ألا تعلم بأن الدنيا زائلة، والآخرة دائمة، وأنني بعملي هذا أروم رضا الله تعالى، ألم تسمع قول رسول الله(f):

«الإيمان نصفان: نصف في الصبر، ونصف في الشكر»؟

وإن تحملي لسوء خلقه يصل بي إلى درجات الصبر الساميات، وعليه يجب أن أشكر الباري تعالى على هذه النعمة، فنعمة الصبر تحتاج إلى شكر، لذا سأديم خدمتي لزوجي حتى يكتمل إيماني»([2]).

إن موقفاً نبيلاً مثل هذا إنما هو نتاج التربية التي ربى عليها الإسلام أبناءه.

لقد دافع الإسلام عن الأسرة وتجسد دفاعه عنها خلال مرحلتين:

(1) المرحلة الاحترازية: وتتمثل بالأسس التي جاء بها الإسلام كمنهاج يسير على ضوئه من يروم تأسيس الأسرة. وهذه الأسس سوف نعرض لها إن شاء الله في الباب الثاني من هذا الكتاب.

(2) المرحلة العقابية: وتتمثل بالعقوبات الصارمة التي وضعها الإسلام لمن يحاول النيل من الأسرة ككيان قائم والاخلال بها.

فالإسلام وضع أقسى العقوبات لمن يريد العبث بقدسية الأسرة، فالرجم بالحجارة مع قساوته في الظاهر إلاّ أنه يمثل الرحمة بالإنسانية -في باطنه- في مواجهة من يسعون في دمار الأسرة، وجعل ثمراتها بلا مستقبل.

لم تكن هذه العقوبات مما تفرد به الإسلام، إنما هي «مما جاءت به كل الشرائع السماوية، وهي عقوبة ردع أكثر منها عقوبة انتقام، لأن الإنسان الواعي يفكر بعقله ويدرك خطورة هذه الآثام، أما غير الواعين فإنهم لا يقدرون خطورة العمل إلاّ بمعرفة طرق العقوبة»([3]).

لقد كان من نتيجة الاهتمام الذي أبداه الإسلام بالأسرة أن حافظت هذه المؤسسة -ولم تزل كذلك- على مكانتها، ودورها الهام كمؤسسة تربوية، رغم تقلص دور هذه المؤسسة الاجتماعية وفقدانها لأغلب وظائفها في ظل الكثير من النظريات التي سادت العالم على مر العصور.

إن هذه الحقيقة التي تقول بها وتشهدها مجتمعاتنا الإسلامية أدركها الكثير من علماء الغرب ومسؤوليه، بل وأدركته حتى الشعوب الغربية ذاتها.

اعتراف مسؤولي الأمم المتحدة بأهمية الأسرة في الإسلام:

لقد «أقر مسؤولوا الأمم المتحدة عن الأسرة، بأن مفهوم هذه الكلمة (الأسرة) لم يعد له معنى في العالم كله إلاّ في البلدان الإسلامية»([4]).

 

الزواج في الإسلام:

 

لم يكن الإسلام ينظر إلى الزواج تلك النظرة التي تنظر إليه من خلالها النظريات المادية، من أنه وسيلة لإشباع الرغبة الجنسية الملحة والتي تكمن في النفس الإنسانية حسب، أو على أنه -الزواج- التنظيم الاجتماعي للغريزة الجنسية فقط. إنما ينظر الإسلام للزواج هذه الرابطة المقدسة نظرة أعلى وأكبر من هذه.

فالإسلام يرى في الزواج «فوائد كثيرة، وكثيرة جدا، وإن إرضاء الغريزة الجنسية مقابل تلك الفوائد لا يعد شيئاً»([5]).

إن الإسلام ينظر للزواج على أنه «إيجاد علاقة زوجية بين الرجل والمرأة لبناء أسرة جديدة وإيجاد جيل جديد، لا اشباعاً للغريزة الجنسية فقط، ولا اطفاءً للشهوة الحيوانية فحسب، ولا لاستخدام الزوجة واتخاذها خادمة لزوجها وأولاده. بل هي سيدة بيتها ومربية أولادها»([6]).

إن بعض النظريات جعل الدافع الذي يتحرك الإنسان على ضوئه باتجاه الزواج وتكوين الأسرة هو الدافع الغريزي، نحو الشهوة الجنسية فقط، تلك الشهوة والغريزة التي بالغت بعض النظريات في تقديسها بحيث جعلت تحركات الإنسان كلها محكومة بدوافع هذه الغريزة.

 

ونحن حين نقل بأن الإسلام لا يجعل الدافع نحو الزواج هو الغريزة الجنسية لا نعني بذلك أن الإسلام ينفي أثرها -الغريزة الجنسية- تماماً في هذا المضمار، إنما نعني بذلك أن الغريزة الجنسية لا يجب أن تكون هي الدافع الوحيد الذي يدفع الإنسان نحو الزواج وتكوين الأسرة. بحيث تنتفي حاجة الإنسان إلى تكوين الأسرة وتحمل مسؤولياتها فيما لو انتفت تلك الغريزة أو أشبعت بطريقة ما.

 

إن الإسلام لا يريد من الغريزة أن تكون سبباً تاماً في الاندفاع نحو الزواج، بل يريد الإسلام لهذه الغريزة أن تكون جزء سبب في ذلك الاندفاع بحيث تشكل مع غيرها من الأسباب -من قبيل السعي نحو حفظ النسل، واشباع الغريزة الأبوية من جانب  الأب وغريزة الأمومة من جانب الأم وغيرها من الأسباب- سبباً تاماً.

 

واجبات الأُسرة في الإسلام:

 

إن وظيفة الأسرة في الإسلام تختلف عن وظيفتها في ظل المجتمعات غير الإسلامية، وذلك لاختلاف الهدف الذي جاء من أجله كل من الإسلام وغيره.

لقد ذكرنا فيما سبق واجبات الأسرة ووظائفها بصورة عامة في الفصل الأول من هذا الباب ونأتي الآن على ذكل واجبات الأسرة في الإسلام وندرج ذلك في نقاط:

(1) تتكفل الأسرة في الإسلام على وظيفة الحفاظ على النسل البشري -وهو الهدف الذي شرع الله الزواج لأجله- فالله أراد للأسرة المبنية على الأسس الشرعية أن تكون هي المؤسسة التي تأخذ على عاتقها تنفيذ هذه المهمة (التناسل).

(2) تهيئة الجو الصالح الذي من شأنه أن يكون بيئة صالحة لاحتضان الأولاد وذلك للأثر الذي تؤثره البيئة في التنشئة.

(3) توجيه الأطفال إلى الصلاة وعبادة الله: قال الله تعالى في كتابه الكريم: «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها»([7])، علاوة على ذلك تتكفل الأسرة بمراقبة تنفيذ هذا الأمر.([8]).

(4) وظيفة التربية والتعليم: فالإسلام أعطى الأسرة الدور الرئيسي في تربية الأولاد وتعليمهم ولم يحاول الإسلام تقليص الدور الذي تعبأ به الأسرة يوماً.

ويتفرع على هذا الجانب اضطلاع الأسرة بمهمة اعداد الأولاد للمشاركة في حياة المجتمع والتعرف على قيمه وعاداته، كما تمدهم بالوسائل التي تهيء لهم ذواتهم داخل المجتمع.

(5) قيامها بتوفير الأمن والاستقرار الحماية والحنو على الأطفال مدة طفولتهم. وتعد الأسرة في الواقع أقدر مؤسسة يمكنها القيام بهذا الدور وذلك أنها تتلقى الطفل منذ صغره، وهذا ما لا تستطيع أية مؤسسة عامة أن تسد مسد الأسرة في هذه الشؤون.

إن زرق الأطفال بالجرعات اللازمة من العاطفة والحنان ينشىء منه -مستقبلاً- انساناً ذا شخصية أكثر ثباتاً واستقراراً، فتكون التصرفات والقرارات الصادرة منه أكثر ثباتاً.

لقد توصلت الأبحاث الحديثة لعلم النفس التربوي إلى نتيجة مؤداها أن الإنسان الذي يفتقد الحنان والعطف فترة طفولته يكون أكثر عجزاً عن اضفاء صفة الحنان على أسرته عند تأسيسه لها وهذا يمكن أن يكون مؤيداً لما سبق ذكره.

المناهج الإسلامية لأعضاء الأسرة في الإسلام:

هناك مناهج وأسس وضعها الإسلام ليسير عليه أعضاء الأسرة من زوج وزوجة وأولاد، وذلك لكي يضمن للعائلة سلامتها في ظل السير وفق هذه المناهج التربوية الإلهية وهذه المناهج نوردها على شكل نقاط وهي:

(1) الحب والمودة: إن هذا النهج وإن كان مشتركاً بين كل أفراد العائلة إلاّ ان مسؤولية هذا الأمر تقع بالدرجة الأولى على المرأة، فهي بحكم التركيبة العاطفية التي خلقها الله تعالى عليها تعد العضو الأسري الأكثر قدرة على شحن الجو العائلي بالحب والمودة. كما أنها باستطاعتها أن تحول البيت إلى روضة من رياض الجنة، كما أنها قادرة على جعله عكس ذلك.

(2) التعاون: وهذا التعاون يشمل شؤون الحياة المختلفة، وتدبير أمور البيت، وهذا الجانب من جوانب المنهج الذي تقدم به الإسلام للأسرة يتطلب تنازلاً وعطاء أكثر من جانب الزوج.

لقد طلب الإسلام من الزوج أن يقوم برعاية زوجته، ويشترك معها في شؤون منزله. إن هذا الأمر يعد من قبل البعض -وللأسف الشديد- مما يخل بشخصية الرجل، بل وتعتبر بعض المجتمعات رجلاً كهذا مدعاة للسخرية فهذه الأمور -أمور المنزل- هي من شؤون المرأة -حسب زعمهم- ولا دخل للرجل فيه، في حين يعتبر الإسلام بريء من هذه الأفكار، فالمرأة في الإسلام ليست ملزمة بتقديم الخدمة المنزلية وأن ما تقوم به إنما هو بوحي من واجبها الأخلاقي الذي رباها عليه الإسلام.

وإذا كان هذا الأمر هو مما يدعو إلى السخرية فأولى أن يسخر الإنسان من رسول الله(f) الذي كان يقوم بهذه الأمور. «فقد كان النبي(f) يتولى خدمة البيت مع نسائه، وقال(f):

«خدمتك زوجتك صدقة».

وكان أمير المؤمنين(_) يشارك الصديقة فاطمة الزهراء(I) في تدبير شؤون المنزل، ويتعاون معها في إدارته.

ومن الطبيعي أن ذلك -التعاون- سوف يخلق في نفوس الأبناء روحاً من العواطف النبيلة التي هي من أهم العناصر الذاتية في التربية السليمة»([9]).

(3) الاحترام المتبادل: لقد درج الإسلام على تركيز احترام أعضاء الأسرة بعضهم البعض في نفوس أعضاءها. من خلال الأحاديث الشريفة، وكذلك من خلال السيرة العملية للرسول الكريم(f) وأهل بيته الطاهرين الطيبين.

لقد ورد في كتب الأحاديث قول الرسول(f) في هذا الباب:

«فليعطف كبيركم على صغيركم، وليوقر صغيركم كبيركم».

كما ورد في كتب التاريخ أن الإمام علي(_) كان عنده ضيوف فقام أمير المؤمنين بواجبه في إطعامهم، فلما أتموا طعامهم تولى أمير المؤمنين(_) صب الماء على يدي الأب فلما انتهى من ذلك أعطى الإبريق لولده الإمام الحسن(_) وقال للولد ما معناه لولا أخاف أن أساوي بين الأب والابن لصببت الماء على يديك.

وهذا يعد ترسيخاً لمباديء الاحترام بين أعضاء الأسرة من قبل الدين الإسلامي القويم.

 

الأُسرة في القرآن الكريم:

 

من الواضح أن القرآن الكريم الذي نزل به الروح الأمين من لدن خالق الكون جلّ شأنه  على نبينا الأكرم محمد(f) يعد الدستور الذي يسير عليه المسلمون، ولا يحيدون عنه لمكان وثاقته حيث تكفل الباري تعالى بحفظه من التلاعب. كما يعد الوثيقة التي جاءت للسير بموجبها في كل عصرإلى يوم القيامة.

إن دستور المسلمين هذا كان قد عظَّم من شأن الأسرة، ورفعها إلى المكانة التي لا يساور الإنسان شك في علو المكانة التي يحتفظ بها هذا الدستور الإلهي العظيم لهذه المؤسسة الاجتماعية المقدسة.

لقد درج القرآن الكريم على أن يضرب لنا أمثلة لأشياء عظيمة أسماها الآيات وأمرنا أن نتدبر في عظم هذه الآيات كي نتوصل من خلالها إلى عظمة وجميل صنع خالق هذه الأشياء.

لقد عد القرآن الأسرة في عداد هذه الآيات العظيمة التي أمرنا بالتدبر فيها، إذ قال الباري جلّ وعلا في كتابه الكريم:

{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّةً ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون}([10]).

«والحق أن وجود الأزواج مع هذه الخصائص التي هي للناس أساس الاطمئنان في الحياة هو أحد مواهب الله العظيمة»([11]).

إن الذي يتدبر في قضية الزواج وتكوين الأسرة ويتعمق فيها يجد الأسرة أمر وآية تستحق التوقف عندها والتدبر فيما تحمله من معاني.

إن الزواج والأسرة يجد فيها الإنسان السكن والمودة والرحمة، هذه الأمور التي يفتقدها الإنسان الذي يسعى وراء شهواته ولذاته في محاولة منه لإشباعها بالطرق غير المشروعة. فما هو السر في هذه القوة التي تتصف بها هذه العلقة الزوجية؟

ماذا تحمل تلك الكلمات -التي ينطق بها الشخص الذي يقوم بدور العاقد بين الزوج والزوجة- بين حروفها؟ ما هو الدافع الذي يدفع الانسان إلى أني تخلى عن حريته، ليأتي طوعاً فيحمل نفسه أعباء مسؤولية كبيرة كمسؤولية الزواج وبناء الأسرة؟

وهل يستطيع المشرع البشري دفع هذا الائتمان إلى تلك الخطوة دون أن يفرض عليه عوبة كالإسلام الذي وضع صاحبه الرغبة والاندفاع طواعية من قبل الإنسان نحو الزواج.

كل هذه الأمور يجب على الإنسان التوقف عندها والتدبر فيها امتثالاً للأمر القرآني الذي وجهنا لمثل هذا التدبر.

 

سر النهي القرآني عن زواج المؤمنة بالمشرك والمشركة بالمؤمن:

 

إن القرآن وبهدف المحافظة على الأسرة التي إن تسرب إليها الخلل والفساد فإنما يقود بالنتيجة إلى تسرب هذا الفساد والخلل منها إلى المجتمع الذي حرص الإسلام على المحافظة على سلامته من الفساد -أدى به ذلك إلى أن ينهى عن زواج كل من المؤمنة بالمشرك والمؤمن بالمشركة. لقد قال الباري تعالى في كتابه الكريم:

 

{ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم}([12]).

كما قال تعالى في معرض النهي عن زواج المؤمن من المشركة ما يلي:

{ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ ولأمَة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}([13]).

فما هو سر هذا النهي والتحريم يا ترى؟ وإذا كان النهي عن زواج المؤمنة بالمشرك هو من باب تلافي تسرب الشرك من خلال سيطرة الزوج وقواميته إليها فهل هناك سبب يقتضي النهي عن زواج المؤمن من المشركة؟

إن هذه الآية بشطريها لا تدل على أن الإسلام يرفع الإنسان المسلم على غيره ويتكبر عليه وهو الدين الذي قال صاحبه(f) في خصوص هذا الأمر (التكبر) وذمّه والنهي عنه:

«لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة كبر».

فيكف يكون الدين الذي يأمر اتباعه بعدم التكبر، يأمرهم بالتكبر في ذات الوقت.

أليس هذا هو التناقض بعينه -على فرض وجوده-؟، والدين الإسلامي لا يقوم إلاّ على ما يوافق العقل؟

إن الإسلام حين نهى عن زواج المؤمن بالمشركة وبالعكس لم يكن هذا النهي للإنسان المسلم على إطلاقه، إنما كان النهي لمانع في ذلك الإنسان لو ارتفع ذلك المانع لارتفع التحريم وانتهى. إن المانع هو الشرك الذي يحول بين الإسلام وبين الناس. فالدين يريد ايصال صوته الحق إلى أسماع الناس جميعاً ليخترقها إلى نفوسهم لأنه الدين الذي يخاطب الفطرة الإنسانية. وهذا يعد طريقاً «فتحه الله أمام المشركين كما فتحه أمام المشركات للعودة إليه سبحانه»([14]) استجابة لنداء الفطرة نداء الإسلام.

نعود إلى السر في النهي عن زواج المؤمن بالمشركة وبالعكس.

«إن الزواج يؤدي إلى تفاعل عميق بين الأفراد، وخلال هذا التفاعل يغرز الشرك تأثيره في النفوس- في حالة زواج المؤمن بالمشركة والمؤمنة بالمشرك- والأخلاق والعادات، ويدفع إلى السقوط في نيران الغضب الإلهي.

فالاتجاه إلى المشركين عن طريق الزواج اعراض عن الله، بينما تؤدي معاشرة المؤمنين إلى التحلي بمزيد من الفضائل والصفات السامية، وبالتالي إلى نيل الجنة، ومغفرة الله»([15]).

 

بين الأسرة المسلمة والأسرة المادية:

 

بعد أن استعرضنا في الفصلين السابقين وضع الأسرة في ظل كل من النظرية الإسلامية والمادية لابأس أن نختم هذا الباب من الكتاب بكلمات قليلة نقارن من خلال تلك الكلمات بين الأسرة المادية والأسرة المسلمة.

إن الإسلام كان قد جعل من الغريزة الجنسية جزء سبب يشكل مع غيره سبباً تاماً للاندفاع وراء تشكيل الأسرة ومن تلك الأسباب كما تقدم هو المحافظة على النسل البشري من خلال بناء الأسرة. وبما أن هذا الهدف ليس هدفاً مؤقتاً ينتهي بأمر معين، إنما يراد له الدوام والاستمرار كانت الحياة الأسرية التي ارتبطت بهذا الهدف مشروعاً قد بوشر به وأريد له الاستمرار.

وعليه «فالأسرة المسلمة لا تنتهي حياتها إلاّ بانتهاء رحلة العمر كلها»([16]).

بينما تنتهي الأسرة في الأجواء المادية، في بداية تكونها. أو باشباع، وانتهاء الغرض الذي قامت عليه وذلك أن النظريات المادية كانت قد جعلت الدافع نحو الزواج هو اشباع الرغبة الجنسية حسب. وبما أن الرغبة الجنسية قابلة للاشباع في مدة قصيرة عليه يكون ما بنيت عليه -الأسرة- منتهياً بابتهاء هذه الغريزة والرغبة الجنسية التي نشأت بين الطرفين.

([1]) الرجل والمرأة ص41,

([2]) الأخلاق البيتية ص195-196.

([3]) الرجل والمرأة ص52 – 53.

([4]) نفس المصدر ص40.

([5]) الأخلاق البيتية ص123.

([6]) الإسلام والتعاليم التربوية ص48.

([7]) طه/ 132.

([8]) أصول الفكر التربوي في الإسلام ص256.

([9]) النظام التربوي في الإسلام ص73-74.

([10]) الروم/ 21.

([11]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل 2/ 451-452.

([12]) البقرة آية/221.

([13]) المصدر السابق.

([14]) الأمثل في تفير كتاب الله المنزل 2/82.

([15]) نفس المصدر 2/ 83.

([16]) الرجل والمرأة ص41.