مقدمة:

كثيرة هي الأنظمة والنظريات التي اجتاحت العالم، وتعاقبت على حكمه، والسيطرة على أفكار الناس فيه وتحويلها لخدمة الأهداف التي جاءت من أجلها.

لقد فني بعض هذه الأنظمة، وأعقبه آخر، وبقي آخر إسماً لامعاً وإن لم يتح له المجال ليري الناس حلاوة أفكاره. والحال أنه لم يبق لتلك الأنظمة والنظريات نصيب سوى بقية ذكر لما كانت تحمل من مواقف تجاه المجتمعات التي حلت فيها. فمن خدم مجتمعه خدمة نبيلة لم يفن اسمه وبقي يتردد ذكرىً جميلة تلهج بها الألسن وتتعطر بها الشفاه، وبعكسه ذكر ذلك النظام الذي لم يجر على مجتمعه غير الويلات. لقد تفاوتت مواقف هذه الأنظمة حيال الأسرة، ولا أحسب أن نظاماً ساد العالم أو بقعة  من بقاعه كان قد رفع من شأن الأسرة كما الأنظمة السماوية.

فالأديان كما هو معروف لم يكن أصحابها لينطلقوا في دعواتهم بدافع الطمع والسيطرة والتسلط على الناس، بل كان دافعهم دائماً وأبداً في نشر دعواتهم هداية الناس وإخراجهم من نير العبودية والجهل إلى نور الحرية والعلم في ظل التعاليم الإلهية الطاهرة. فهم يحرصون أشد الحرص على أن يرتقوا بالمجتمعات إلى مراتب الكمال.

أما الأنظمة البشرية فتجد أصحابها يتهافتون للحصول على فرصة للسيطرة والتسلط على رقاب الناس، وقيادة البشر لا لكي يأخذوا بيد المجتمع إلى طرق الهداية والصلاح، إنما محاولة لاشباع رغبات، ونزوات السيطرة والتسلط القابعين في النفس الإنسانية.

فنحن لا نجد -عندما نستقرء تاريخ الحكومات والدول التي حكمت العالم، بل والنظريات التي لم تنطلق من منطلق ديني- نظاماً يرعف من شأن الأسرة، بل على العكس من ذلك نجد العداء البين الجلي.

إن هذا في واقعه يعد أمراً طبيعياً لمن اندفع نحو السلطة بدافع التسلط والسيطرة. فمثل هذا ليس له هم سوى أن تنساق له الأمور وتتسق، كي يستطيع تنفيذ مشروعاته التحكمية في راحة ودعة بعيداً عما يسبب له المشاكل.

وعليه فمن مصلحته أن يحكم مجتمعاً مفككة أجزاؤه، على أن يتسلط في مجتمع ملؤه الفضيلة والتماسك، بل يعد الأخير مكاناً لغيره لا له. ولذلك تجد هؤلاء انطلقوا لتحقيق أهدافهم من ميدان اللبنة الأساسية للمجتمع وهي الأسرة. فهؤلاء أدركوا بأنهم حين يتحقق لهم هدف هدمها -الأسرة- وتفكيك أركانها يصفو لهم الجو، وتتسق لهم الأمور، إذ ينشأ لديهم حينها مجتمع مفكك يتخبط في مهاوي جهله لا يعرف حقوقه من واجباته، عندها يسهل عليهم قيادُه.

وفي هذا الفصل من الكتاب سأعرض لمواقف الاطروحات والأنظمة المادية المختلفة -التي تعاقبت على العالم- من الأسرة، ثم أختم هذا الفصل بتجربة قاسية عاشها واحد من الأنظمة المادية -النظام الشيوعي- والذي شهدنا معه معاناته القاسية من جراء سياسته المتطرفة تجاه الأسرة حتى حاول الرجوع أواخر عهده عن مواقفه المخزية منها. كي يكون لنا درساً ولمن يحاول العبث بهذه الآصرة المقدسة.

فإننا نلاحظ -وللأسف الشديد- «أن حرب الإبادة التي شنتها قوى الشر ضد الأسرة ومرتكزاتها مازالت مستمرة، وبضراوة بالغة، وتحاول أن تهدم الآن بقايا الوجود الأسري في العالم، بعد أن دمرته في أكثر البقاع الخاضعة لتأثير التيار المادي الإباحي»([1]).

ونحن إذ ننقل هنا مواقف الأنظمة والنظريات المادية المختلفة حيال الأسرة لا ننكر أولئك المفكرين الذين نعتز بمواقفهم من هذه المؤسسة.

فهذا ميلوك أليس يقول مثلاً: «لا يقوم الزواج المثالي على توافق الشهوة فقط، وإنما يقوم على اتحاد غير شهواني، وأساسه مودة عميقة تتوثق على ممر الأيام، وتشمل شتى نواحي الحياة، وهو اتفاق الأذواق، والمشاعر والميول، وهو اتفاق على الحياة المشتركة، بما قد تستلزمه من أعباء الأبوة».

إفلاطون وأرسطو وحملاتهما العنيفة ضد الأسرة

يعد كل من أفلاطون وأرسطو إسمين لا يخفى معناهما على أدنى الناس ثقافة ووعياً، فهما الفيلسوفان اللذان ملئا العالم شهرة من خلال آرائهما الفلسفية النبيلة، وما جمهورية أفلاطون -التي كان يحلم بإنزالها إلى أرض الواقع- سوى رشح من فيض هذا الفيلسوف.

ولكن الإنسان يتعجب كل العجب حين يقف على رأي هذين العلمين، ومواقفهما تجاه الأسرة. «من الغريب أن الجمهورية التي نادى بها أفلاطون أو التي تمجد الدولة وتضعها في المنزلة الأولى قد تنكرت للأسرة، وأدت إلى الاعتقاد بأنها عقبة في سبيل الاخلاص والولاء للدولة»([2]) فهذا الرجل تنصل هنا من كل مبادئه، وبدأ يتكلم بلهجه وخطاب سياسيين، وكأنه لم يكن ذلك الرجل الذي يحلم بالجمهورية المثالية الذي يحلم أن تسود العالم، وكأنه هنا لم يكن له هم سوى التفكير في كيفية اخضاع الناس لسياسة هذه الجمهورية الخيالية.

ثم يتعدى ذلك ليصل إلى مرحلة أكبر، ليدخل مرحلة هجوم على المنزل إذ يرى بأنه «ليس المنزل مع ماله من القيمة العظمى لدينا سوى لعنة وشر»([3]).

ولم يقف الرجل عند حدود التهجم، بل زاد على ذلك دعوة صريحة للهجوم على هذه المؤسسة إذ يقول «اهدموا هذه الجدران القائمة فإنها لا تحتضن إلاّ إحساساً محدوداً بالحياة المنزلية»([4]).

موقف الصهيونية العالمية العنيف من الأسرة:

لقد دأبت هذه المنظمة الإرهابية المدلّلة منذ تأسيسها وإلى الآن على السعي لهدم كل ما هو أخلاقي في المجتمع وبكافة الوسائل المتاحة لديها.

فالصهيونية وبتأثير عقدة الحقارة التي تغلب عليها، وانطلاقاً من الأطماع التوسعية والأحلام الدفينة في حكم العالم والسيطرة عليه وخاصة الشرق الأوسط – ذلك المجتمع الذي يعتبر المجتمع الوحيد الذي تحتفظ الأسرة فيه إلى الآن بمكانتها كمؤسسة تربوية- كل ذلك قادها إلى أن تندفع بكامل امكانياتها باتجاه تحطيم وتفكيك الأواصر الأسرية في ذلك المجتمع وبث الفرقة بين أبنائه كيما ينشغل بمشاكل جانبية فتسهل السيطرة عليه، إضافة إلى أن انشغاله بالمشاكل الداخلية من شأنه أن ينسي هذا الشعب قضيته الكبرى، قضية فلسطين.

إن البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون ينص على:

«إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا حينما نضع خططنا أن لا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي، ومن الناس من أضلّته الخمرة، وانقلب شبابهم إلى مجانين، والمجون المبكر. هذه الوسائل التي أغراهم وكلاؤنا، ومعلمونا، وخدمنا، وقهرماناتنا في البيوتات الثرية، وكتابنا، ونساؤنا في أماكن لهوهم»([5]).

الماسونية العالمية والأسرة:

لم تكن الماسونية العالمية بأفضل من سابقتها -الصهيونية العالمية- في موقفها حيال الأسرة، وذلك أن كلا من الصهيونية والماسونية يعدان وجهين لعملة واحدة، يشتركان في غالبية أهدافهما وإن اختلف الاسم لكل منهما.

فالماسونية كحركة تسلطية تطمع في التحكم في مصير العالم، لابد أن يكون من مصلحتها تفكيك الأسرة الذي يقود في النهاية إلى تفكيك المجتمع بأسره، مما يسهل عليها تحقيق ما ترمي إليه من أهداف. فمن خطاب الماسوني الشهير (بيكرتو) الذي ألقاه عام 1921 تتجلى لنا الأهداف الحقيقية للماسونية ويتبين لنا عظم خطورة هذه الحركة على الأسرة بصورة خاصة، والمجتمع بصورة عامة.

لقد قال بيكرتو في خطابه المذكور من ضمن ما قاله في خصوص الأسرة:

«بغية التفرقة بين الفرد وأسرته عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة، والاقتراب من الأمور المحرمة لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة، وأمثال هؤلاء من الممكن اقناعهم بالوظائف، والرتب الماسونية، ويجب أن يلقن هؤلاء بصورة عرضية متاعب الحياة اليومية، وعليكم أن تنتزعوا أمثال هؤلاء من بين أطفالهم، وزوجاتهم، وتقذفوا بهم إلى ملاذ الحياة البهيمية».

إن نظرة أولية لهذا الخطاب تعكس لك صدق مدعانا من كون كل من الصهيونية العالمية، والماسونية وجهان لعملة واحدة.

فالصهيونية العالمية كما تقدم ذكره عبرت عن موقفها تجاه الأسرة بالتنكر لكل ما هو أخلاقي حيث قالت «إن الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا حينما نضع خططنا أن لا نلتفت إلى ما هو خير، وأخلاقي».

وكذلك نهجت الماسونية على نفس المنوال بقولها:

«عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة…».

تشدُّد النازية تجاه الأسرة:

لقد اتخذت النازية موقفاً أكثر تطرفاً ممن سبقها من الحركات العالمية تجاه الأسرة، كما أنها أظهرت حقداً منقطع النظير تجاهها لم تراع فيه مشاعر الناس الذين تهفو نفوسهم بمقتضى فطرتها نحو الاستقرار، وتكوين الأسرة، والانضواء تحت سقفها الآمن، والارتماء في حضنها الدافيء.

فالنازية وبصلافة منقطعة النضير أعلنت عن موقفها تجاه هذه المؤسسة بشعاراتها المتمثلة في:

«تربية الحقد على الأسرة بغية تدميرها»([6]).

الأُسرة ومواقف الماركسية منها:

كلنا عاش نهايات التجربة الماركسية، التي اعتلت سدة الحكم في الاتحاد السوفياتي السابق لفترة زمنية قاربت القرن، وكيف آل مآل الأسرة في ظلها، هذه الأسرة التي لقيت ما لقيت من المحاربة العلنية طوال فترة اعتلاء الماركسية لسدة الحكم. وكلنا أدرك عدم تشفُّع المواقف التراجعية -التي حاولت من خلالها التكفير عن مواقفها المخزية- للماركسية تجاه الأسرة، في محاولة منها لإعادة تنظيم المجتمع وتماسكه من خلال العودة نوعاً ما نحو الأسرة، فرأينا بناءً على ذلك انحلالاً في الحياة الأسرية وتبعاً لذلك انحلالاً في المجتمع ذاته، فكان في ذلك بداية الانهيار الذي قاد في النهاية إلى سقوط الماركسية وإلى أن يحمل الشعب ضدها تلك الحملة المضادة بحيث أقدم على هدم الصروح التي بنيت لأقطاب الماركسية مما يعكس مدى النقمة التي كان يحملها الشعب لهذه النظرية التي قادته فترة من الزمن لم تحقق له فيها تلك الأحلام الوردية من خلال اطروحتها في تملك الدولة والشعب لوسائل الانتاج.

إن هذه النتيجة كانت بسبب إدراك ضرورة التراجع عن المواقف المعادية حيال الأسرة بعد فوات الأوان.

إن تجربة الماركسية منذ البدء حتى الانهيار تعطينا درساً مؤداه سقوط كل من يأخذ على عاتقه هدم الروابط الأسرية إذ أنها تقود بالنهاية إلى سقوط المجتمع، وبسقوط المجتمع تسود شريعة الغاب التي بها تسقط الدول وتنهار المجتمعات.

الأسرة في بيان الحزب الشيوعي:

لقد كان وضع الأسرة في بيان الحزب الشيوعي هو التالي:

«اهمال شؤون الأسرة، وترك الحديث والبحث عنها، لأنها لا تؤثر في تطورنا الاجتماعي، بل أنها مصدر من مصادر الاستغلال يجب تحطيمها»([7]).

كما أن (انجلز) صرح كما جاء في كتاب أصل العائلة ص81 بمواقف الماركسية من الأسرة بما يلي:

«ولا تعود العائلة الفردية بتحويل وسائل الانتاج إلى ملكية عامة، الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وتصبح إدارة المنزل الخاصة صناعة، وتصبح العناية بالأطفال، وتربيتهم قضية عامة، إذ يأخذ المجتمع على عاتقه تربية جميع الأطفال على حد سواء أكانوا ثمرة زواج أم لم يكونوا… وبذا يختفي الخجل الذي يساور قلب الفتاة من جراء النتائج التي هي في زماننا أهم عامل اقتصادي خلقي يعوق الفتاة من استسلامها بحرية إلى الشخص الذي تحبه»([8]).

إن هذه الصيحات تعد بمثابة دعوة صريحة إلى هدم الأسرة وتحطيمها، وتقليص دورها إلى الحد الذي توكل فيه رعاية الأطفال إلى المؤسسات الاجتماعية العامة، وإشاعة الإباحية الجنسية والحث على نزع لباس الحياء والعفة، وهو دعوة صريحة إلى التحلل من أعباء المسؤوليات العائلية لكل من الرجل والمرأة. كما أن هذه الدعوة هي تشجيع علني للزنا مادام هناك من يتولى العناية بكل طفل سوف يولد في أحضان الرذيلة وذلك من خلال القول:

«إذ يأخذ المجتمع على عاتقه تربية جميع الأطفال على حد سواء أكانوا ثمرة زواج أم لم يكونوا».

إن هذه الحال ظلت سائدة أغلب فترة حكم الماركسية، ولكنها حين أحست ببوادر الانهيار حاولت اصلاح الموقف وذلك ادراكاً منها لسبب هذا السقوط والانهيار.

لقد «تراجعت الشيوعية عن كثير من مقرراتها لأنها اصطدمت بالواقع الذي يعيشه الناس في جميع مراحل تاريخهم من أن الأسرة نظام مستقر ثابت لا غنى للبشرية عنه.

ومن ثم اتجه المشروع الروسي إلى اعلاء شأن الأسرة، والعمل على حماية الدولة لمصلحة الأم والطفل، ومنح المرأة إجازة قبل الولادة وبعدها بأجر كامل» الدستور السوفيتي م122»([9]).

إن هذا التعديل في الدستور، والتراجع باتجاه حماية الأسرة لم يعد الأمور إلى نصابها، فالأمر قد وصل إلى الحد الذي لم تجد فيه مثل هذه الخطوات نفعاً ووصل الأمر إلى الحد الذي لم ينفع فيه قطع العضو المصاب مادامت الغدة السرطانية قد انتشرت في جميع أنحاء الجسم.

من خلال ما تقدم يتبين لنا الموقف الذي تكنه الاطروحات المادية المختلفة للأسرة، بل أكثر من هذا يتضح أمامنا حث الخطى، والسير قدماً نحو انزال هذه النوايا القابعة إلى حيز التنفيذ وساحة الواقع.

لقد بوشر بذلك فعلاً وقد مرت علينا تلك المواقف على صورة خطب، وشعارات، وبروتوكولات يرمز من خلالها تحطيم هذه المؤسسة.

فالدول التي ترفع من حقوق الإنسان، والدفاع عنها شعاراً لها، نجدها ترفع جنباً إلى جنب مع شعارات حقوق الإنسان تلك الشعارات التي تدعو إلى تحطيم، وتهديم أسوار الأسرة ليغدو أبنائها عرضة للتسيب، والاندفاع وراء الشهوات الحيوانية دون كابح يمكن أن يحد من جماح هذه الشهوة التي أصبح هؤلاء أسرى لها، وكذلك ليصبح هؤلاء الأبناء دون هدف يمكنهم أن يسعوا إلى تحقيقه. فنجد نزوعاً عجيباً نحو الإباحية الجنسية التي تقرها تلك الدول والتي أثرت أثرها في أن يقلع هؤلاء عن فكرة الزواج والارتباط بالأسرة، والتزاماتها، حتى أثبتت الاحصائيات الدولية تناقصاً عجيباً في الاقدام علىمشروع الزواج وتكوين الأسرة، مادام هناك البديل الذي من شأنه أن يقدم المرأة كبضاعة رخيصة علىطبق من ذهب لهؤلاء الشباب.

([1]) الرجل والمرأة ص40.

([2]) النظام التربوي في الإسلام ص65.

([3]) نفس المصدر ص65.

([4]) نفس المصدر ص65.

([5]) بروتوكولات حكماء صهيون. البروتوكول(1).

([6]) في استراتيجية الأسرة، وقضايا الزواج. ص12.

([7]) النظام التربوي في الإسلام ص92.

([8]) نفس المصدر ص92.

([9]) النظام التربوي في الإسلام ص93.