بقلم الاستاذ سالم البهنساوي

انه مما يسيء الى الفكر الاسلامي واهله ظاهرة طرأت حديثا على المجتمعات الاسلامية وتمثلت في بعض الافراد الذين يلجأون الى وسيلة غير مقبولة او منبوذة لنصرة فكرهم فيعلنون انهم وحدهم اصحاب الصراط الواحد المستقيم وان غيرهم في ضلال، وحجتهم في ذلك ان الدين واحد والمصدر واحد والصراط واحد والفهم واحد. لقد برزت هذه الظاهرة في اسلوب تعليقات بعض الشباب في الندوات والمؤتمرات لاظهار رأيهم فلا يجدون سوى الاعتراض على المحاضرين، والادهى من ذلك ان يعترض بعضهم على علماء كبار. برغم ان هذه الظاهرة لا تمثل الا شريحة قليلة جداً في المجتمع العربي والاسلامي، لكنها منهج لمدرسة فكرية، وهؤلاء الشباب هم رواد هذه المدرسة وجنودها المخلصون ولهذا كان لابد من تصحيح المفاهيم الاساسية لهؤلاء، والاهم في التصحيح ليس النتائج المترتبة على هذا الفكر بل هو المنهج الذي يعتبر المصدر الاساسي للنتائج الخاطئة التي يغرسها هذا المنج، انه يمكن حصر الخطأ المنهجي في امرين هما:

1- خطاب التكفير.

2- العصمة الكاذبة.

خطاب التفكير

على الرغم من ان هذه المدرسة لا تكفر من خالفها من المسلمين فانها تستخدم معهم خطاب التكفير، فيزعم شبابها بل وبعض شيوخها انهم اصحاب الصراط الواحد وان غيرهم من الافراد والجماعات في ضلال، وهم لا يجهلون ان الصراط الواحد هو الاسلام وغيره هو الكفر المبين، كما يقولون انهم الفرق الناجية وغيرهم من المسلمين هم من الفرق الضالة التي انبأنا النبي (ص) باقترافها الى النار، وهؤلاء لا يجهلون ان الله وحده هو الذي يعلم مصير المسلمين في الجنة او النار وقال (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ولقد تناسى هؤلاء ان الحديث النبوي بشأن افتراق الامة له اكثر من رواية في بعضها ·كلهم في النار الا ملة واحدة  والملة تعني ملة الاسلام وبالتالي فالذين افترقوا انما ارتدوا الى الكفر، وفي رواية اخرى ·اعظمها فتنة الذين يقيسون الامور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال  وهذا يعني الافتراق الى الكفر، لهذا قال الامام الشاطبي ان هذه الفرق تحتمل من وجهة النظر ان يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما احدثوا، فهم قد فارقوا اهل الاسلام وليس ذلك الا الكفر ·الاعتصام، ج4،ص190 والسنة المفترى عليها ص32-34 .

كما تناسى هؤلاء ان ادعاء كفر المسلم او لعنه من شأنه ان يرتد الكفر واللعن على الذي قاله، فقد روى ابو داود ان رسول الله (ص) قال: ·ان العبد اذا لعن شيئاً صعدت اللعنة الى السماء، فتغلق ابواب السماء دونها ثم تهبط الى الارض فتغلق ابوابها دونها ثم تأخذ يميناً وشمالاً فاذا لم تجد مساغاً رجعت الى الذي لعن  لذلك فان استخدام خطاب التكفير في مواجهة المخالفين من المسلمين هو اخطر مزالق الخطأ لدى هؤلاء الشباب.

العصمة الكاذبة

اسجل هنا ان اصحاب هذا الفكر لا يدعون العصمة لانفسهم، ولكن الخطأ الاكبر في منهج هذه المدرسة، في ادعاء انه لا يوجد الا فهم واحد هو فهمهم، فمن حاد عنه فقد ضل واضل، بهذا يضفون على انفسهم عصمة لو تعمدوها لكان مكانهم المصحة. كما انه في سبيل اقناع غيرهم بذا الفهم الواحد يستدولون ببعض الايات القرآنية، وبعض الاحاديث النبوية ويخفون ما قاله السلف الصالح المعنى الذي عليه جمهور الامة، كما يستدلون بادلة من القاموس الشيوعي، فعلى سبيل المثال:

أ- يستدلون بقوله تعالى (فماذا بعد الحق الا الضلال) يونس، 32، وقد اخفى هؤلاء السياق القرآني والذي يتضح منه ان  الضلال هنا خاص بكفار ينكرون اختصاص الله بالتشريع والحكم ويسلمون له بالخلق والرزق وبالتالي يشركون مع الله تعالى، القائل (قل من يرزقكم من السماء والارض امّن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل افلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق الا الضلال فأنى تصرفون) يونس 31-32. فالحق هنا هو الله تبارك وتعالى وليس فهم هؤلاء. والضلال هو ما دون الله وليس المسلم الذي يخالف رأي هذا الحزب او هذه الجماعة.

ب- يقول بعضهم ان الخلافة هي النظام الاسلامي الأوحد وان السبيل الوحيد اليها هو البيعة لقول النبي (ص) ·اذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما  رواه مسلم6/23، وقد تناسى هؤلاء ان اختيار الامير او الخليفة يسبق البيعة وان البيعة هي عقد بين الحاكم والشعب، ولا يمكن تحقيق ذلك الا بعد الانتهاء من مرحلة اختيار الحاكم، وهذا الاختيار ورد فيه قول النبي (ص) للانصار ·اخرجوا لي منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم  رواه البخاري – فتح الباري 16/113، وهذا الخطاب موجه للناس الذين سيمثلهم هذا الامير ومن ثم فالاصل والاولى هو اتفاقهم جميعاً على شخص منهم، فاذا تعذر الاجماع فلا يسمى اختياراً الا من ايدته الاغلبية، وليس مباحاً انه عند وجود خليفتين يجب قتل الاخير منهما وان كان هذا هو ظاهر النص، فالحديث النبوي غير مراد منه القتل فهو على سبيل الزجر مثل حديث الهم بحرق بيوت من يتخلفون عن صلاة العشاء والفجر في المسجد ولا جدال ان انعقادالخلافة او الامامة او الامارة لاثنين في اقليم واحد امر يؤدي الى النزاع بل قد يؤدي الى الحرب ولهذا تحرم بيعة كل منهما.

ج- وقيل لا يوجد في الاسلام سوى مسمى الخليفة وان البيعة هي السبيل الوحيد للخلافة، وهذا فيه خلط بين البيعة وطرق اختيار الحاكم وفيه الغاء لتاريخ المسلمين، فلم يرد نص في القرآن الكريم او السنة النبوية يحدد طريقة اختيار الحاكم، لان ذلك مما يتغير باختلاف الزمان والمكان فيجوز ان يكون الاختيار من اهل الشورى أولاً ثم من الشعب بعد ذلك، ويجوز ان يرشح اهل الشورى من هو اهل للرئاسة وذلك ليتم الاختيار من الناس. والذي لا خلاف عليه هو ان الاختيار للامة لقول الله تعالى (وامرهم شورى بينهم) وللحديث النبوي السابق الإشارة إليه إما البيعة فهي الاجراء التالي لهذا الاختيار وهي كما عرفها ابن خلدون ·العهد على الطاعة   المقدمة، ج2، ص549، فالبيعة عقد بين الخليفة والأمة للتأكيد انه نائب عنها فلها محاسبته وعزله، أما تسمية رئيس الدولة فقد سمي ابو بكر بالخليفة وفي هذا قال: ·لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله (ص) ، الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص27. وفي هذا قال النبي (ص): ·أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين  رواه البخاري، ص96، وقد اطلقوا على الخليفة الثاني خليفة خليفة رسول الله فلم يستحسن ذلك لان الرؤساء من بعده سيتكرر معهم لفظ خليفة بعدد الخلفاء بعد النبي (ص)، ولهذا قال: ·بل انتم مؤمنون وانا اميركم  لهذا سمي الخليفة الثاني والخلفاء من بعده باسم امير المؤمنين.

وأما لفظ الديمقراطية فليس كفراً في ذاته وانما في مضمونه اذا كان يخول البرلمان حق التشريع من دون الله، فاذا التزمت اي دولة اسلامية بعدم التشريع بما يعارض الاسلام كانت ديمقراطية اسلامية، وانما تمخضت الخلافة عن نظام يمارس ويحلل ويحرم دون الله كان نظاماً طاغوتياً، كما انه (ص) قد وادع بني مدلج دون ان يدفعوا الجزية او يدخلوا في الاسلام، وعاهد بني ضيرة على انهم آمنون على أنفسهم واموالهم وان ينصرهم على من يداهمهم وذلك مقابل ألا يغزوه وألا يعينوا عليه عدواً. وحالف قبيلة خزاعة مع كفرها في مواجهة قريش على ان ينصرها عند الاعتداء عليها، ولهذا لمّا خرج نفر من قريش متنكرين وقتلوا عشرين رجلاً من خزاعة ذهب عمر بن سالم الخزاعي الى المدينة مستنصراً بالنبي (ص) فكانت غزوة الفتح.

الخلافات الفقهية:

إن الاسباب التي أدت الى الخلافات الفقهية يمكن حصرها في احد عشر سبباً هي:

1- عدم معرفة الحديث النبوي.

2- الشك في ثبوت الحديث.

3- الاختلاف في فهم النصوص.

4- عدم وجود النص.

5- الخلاف في قواعد دلالة الألفاظ.

6- الدلالة الظنية المشتركة.

7- الخلاف في دلالة العام.

8- دلالة الأمر والنهي.

9- الخلاف في انواع السنة.

10- الاختلاف في الدلالة المتفق عليها.

11- الخلاف بسبب الادلة المختلف عليها.

وسنختار من هذه الأسباب سبباً واحداً هو الخلاف بسبب اللفظ المشترك او الدلالة الظنية، فنشير الى بعض الأمور قطعية الدلالة قليلة وان غالبية النصوص ظنية الدلالة، وبالتالي فالأمور التي اختلف فيها الفقهاء اكثر من ان تحصى ولهذا قال ابن تيمية ان الاختلاف في الأحكام اكثر من ان ينضبط، مجموع الفتاوى 24/123.

ورتب على ذلك انه ليس للحاكم ان ينقض حكم من سبقه وحكم غيره في مثل هذه المسائل، وليس للعالم ولا المفتي ان يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل ولهذا لما استشار الخليفة هارون الرشيد، مالكاً على ان يحمل الناس كتابه الموطأ، منعه الإمام مالك لان اصحاب الرسول (ص) قد تفرقوا في البلدان وأخذ كل قوم من العلم ما بلغهم، وقد صنف رجل كتابا في الاختلاف فقال الإمام أحمد ·لا تسمه كتاب الإختلاف ولكن سمه كتاب السعة . مجموع الفتاوى، 30/791.

الظني الدلالة

الظني الدلالة هو اللفظ الذي يدل في اللغة على أكثر من معنى وهذا يكون في الفعل والاسم والحرف. فمثلاً الفعل ·قضى  يأتي بمعنى حكم وأمر وأعلم ·والقرء

 اسم يطلق على الطهر وعلى الحيض، والحرف ·من  يكون، بمعنى الابتداء كقول الله تعالى (سبحان الذي اسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى) الإسراء1.

ويكون للتبعيض كقول الله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92، أي بعض ما تحبون ويأتي بمعنى البدل لقول الله تعالى (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) التوبة 38. وهذه الألفاظ المشتركة توجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وبسبب هذا الاشتراك في اكثر من معنى فإن دلالة هذه النصوص دلالة ظنية وهذا كان محل خلاف بين الفقهاء.

ادب الخلاف

لقد كان لصحابة رسول الله (ص) منهج واضح في الأمور الخلافية تمثل في ان يعمل كل منهم باجتهاده وألا يعيب على من خالفه، وهذا المنهج قد أخذوه عن النبي (ص)، الذي أدبهم بهذا الأدب الرفيع والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها ما رواه ابو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: ·خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله (ص) فذكرا ذلك فقال للذي لم يعد الصلاة: اصبت السنة واجزأتك صلاتك وقال للذي توضاً وأعاد لك الأجر مرتين .

وقد لخص ابن الدهلوي موقف الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من بعدهم وذلك في كتابه الإنصاف في اسباب الاختلاف·ص24-25-71  فقال: ·وقد كان الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم لا يقنت الفجر، ومنهم من يتوضاً الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم لا يتوضأ من ذلك .

ثم قال: ·ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض، مثل ما كان ابو حنيفة أو اصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف ائمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سراً ولا جهراً .

وصلى الرشيد اماماً وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد – وكان افتاه الإمام مالك بانه لا وضوء عليه.

وكان الإمام احمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه والدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟

فقال: كيف لا اصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب!! وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة ابي حنيفة رحمه الله، فلم يقنت تأدباً معه، ولما حج المنصور قال لمالك: قد عزمت ان آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم ابعث في كل مصر من امصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم بان يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره. فقال: يا أمير المؤمنين: لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا احاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق اليهم، ودانوا به من اختلاف الناس وما اختار كل أهل بلد منهم لانفسهم. اي ان الإمام مالك رفض ان يكون كتابه الموطأ هو المرجع في الفقه. وقد نسبت هذه القصة الى هارون الرشيد، وانه شاور مالكاً في أن يعلق الموطأ في الكعبة،ويحمل الناس على ما فيه، فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله (ص) اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل سنة مضت. قال وفقك الله يا عبد الله.

سوء الادب

إن من اسباب سوء الأدب مع العلماء والائمة الاعلام ان ظن بعض الشباب ان لهم حق الإفتاء في دين الله، وذلك لانهم قد علموا من سنة رسول الله (ص) ما لم يعلمه غيرهم وما دام قد استبان لهم ذلك فلا يجوز ترك ما علموه لقول إمام او اكثر من ائمة المذاهب الفقهية.

وهذا الظن جعلهم يعلنون الحرب على باقي طوائف المسلمين زاعمين انهم يمارسون واجب النهي عن المنكر حيث لعن الله الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه.

وقد غاب عن هؤلاء انهم في الحقيقة لا يطرحون رأي الأئمة ويقدمون عليه حكم النبي (ص) بل يقدمون فهمهم القاصر والخاطئ لسنة النبي صلى الله عليه وسلام ويجعلون فهمهم هو حكم الله، وهذا ما قد نهى عنه النبي (ص) في حديثه لبريدة.

ولقد سئل ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه ام يجهر فقال: ·مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول العلماء لم ينكر عليه ولم يجهر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان احد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان ارجح القولين . وقال في موضوع آخر: ·وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام، أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون ايما افضل: الترجيع في الأذان او تركه؟ أو إفراد الإقامة او تثنيتها، وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها؟ والقنوت في الفجر او تركه؟ والجهر بالتسمية او المخافتة بها، او ترك قراءتها؟ ونحو ذلك فهذه من مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والائمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها اصاب الحق فله اجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله اجر وخطؤه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد احمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك ، ·مجموع الفتاوى، 20/207،292 .

عدم الإنكار في الامور الخلافية

لقد تناسى هؤلاء الشباب قاعدة ذهبية من قواعد ادب الخلاف عند علماء المسلمين، وهي عدم جواز الإنكار في الامور الخلافية، فكل ما كان محل خلاف ولم يكن محل الإجماع فلا يجوز الإنكار فيه، بل بلغ الأمر في ادب الخلاف ان قيل ان ولي امر المسلمين ليس له ان يمنع الناس من شيء هو محل خلاف بين الحل والحرمة وليس للمحتسب الذي يوليه الحاكم الإنكار في الامور الخلافية.

وفيما يلي بعض ما قاله الفقهاء في ذلك:

1- قال ابن تيمية وقد سئل عمن ولي امور المسلمين فأراد ان يمنع الناس من شركة  الأبدان عملاً بمذهبه في ذلك فأجاب: ·ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الإجتهاد، وليس معه بالمنع نص كتاب، ولا سنةولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، ولا سيما ان اكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة الأمصار . كما ان الحاكم ليس له ان ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي ان يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.

 

وقال: ·كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، وإختلافهم رحمة واسعة ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ·ما يسرني ان أصحاب رسول الله (ص) لم يختلفوا، لانهم اذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر السعة  وكذلك قال غير واحد من الائمة: ·ليس للفقيه ان يحمل الناس على مذهبه  مجموع الفتاوى ·30/79،80 .

2- قال الإمام النووي في شرحه للحديث النبوي: ·من رأى منكم منكراً فليغيره بيده  : ·ثم إنه يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم انكاره، بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما اجمع عليه، اما المختلف فلا إنكار فيه لانه احد المذهبين وكل مجتهد مصيب وهذا هو المختار عند كثير من المحققين او اكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه .

وقال ·لم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين من بعدهم رضي الله عنهم اجمعين، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره.

وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا القاضي ان يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً ولا إجماعاً او قياساً جلياً  شرح مسلم للنووي 2/13/23.

3- قال الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه ·جامع العلوم والحكم  : ·والمنكر الذي يجب انكاره ما كان مجمعاً عليه. فأما المختلف فيه، فمن اصحابنا من قال: لا يجب انكاره على من يفعله مجتهداً او مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً  واستثنى القاضي في الأحكام السلطانية وما ضعف في الخلاف.

4- قال العلامة ابن قدامة: ·لا ينبغي لاحد ان ينكر على غيره العمل بمذهبه فإنه لا إنكار على المجتهدات  (الآداب الشرعية لابن مفلح 1/186).

5- وقال حجة الإسلام الغزالي: ·ما فية الحسبة: كل منكر موجود في الحال الظاهر، للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد .

وقال عن الشرط الرابع لإنكار المنكر: ·ان يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد فكل ما هو محل الإجتهاد فلا حسبة فيه، فليس للحنفي ان ينكر على الشافعي اكله الضب والضبع، ومتروك التسمية، ولا للشافعي ان ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام، وجلوسه في دار اخذها بشفعة الجوار، وإلى غير ذلك من مجاري الإجتهاد  إحيار علوم الدين للغزالي 2/32.

وأخيراً وليس آخراً فإن ادب الخلاف بين المسلمين بعضهم بعضاً لا يمكن ان يكون اقل من ادب الخلاف بين المسلمين والمشركين والذين امرنا الله تعالى به في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها قوله تعالى (قل لا تسألون عما اجرمنا ولا نسأل عما تعملون. قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) ·سباً 25-26 . نأمل ان نتأدب جميعاً بهذا الأدب، والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون.

** العربي – العدد (475)