الدكتور خالص الجلبي  مجلة العربي 474

عندما يقوم تنظيم مسلح بالانقضاض على نظام حكم ويستطيع أن يهدمه يقوّض معه في الواقع ثلاثة بنى: النظام الذي قوّضه. ويقوّض ثانياً نفسه باغتيال دماغه المفكر في جناحه المدني، وثالثاً يقوّض كامل الحياة المدنية ويعسكر المجتمع لتعيش حالة الطوارىء، ويستبدل وضعاً لا شرعياً بوضع لاشرعي جديد، ويقضي عليه بنفس الطريقة التي قفز بها إلى كرسي السلطة على يد قوة جديدة، تطيح به بنفس آلية السيف، فتستخدم نفس طريقته التي وصل بها إلى سدّة الحكم…

وهذا هو الذي جعل الرسول(ص) يرفض الملك عندما عرضته عليه قريش، لأنه كان يريد أن يبني مجتمعاً بطريقة شرعية، وهو الذي جعل المسيح(ع) يوجّه تلاميذه عندما بدأ اليهود يطاردونه ويطلبون رأسه… فنصح بطرس عندما استلّ السيف: اغمد سيفك لأنه مكتوب: أن من أخذ السيف بالسيف يهلك. يقول القانون الاجتماعي: إن طول عمر الباطل لا يحوله إلى الحق. هذه الفكرة لم تستوعبها معظم الحركات السياسية المعاصرة بما فيها الإسلامية(1) ومنها فكرة الديمقراطية، فهي ترى -تحت هذه الآلية- أن لا مانع من التعددية والانتخابات حتى تصل إلى الحكم، ولكن ليس بعد ذلك، فإذا وضعت يدها على مقاليد السلطة تغيرت اللعبة جذرياً، فهي دولة مقدسة فيجب أن تبقى كما هي، ولا يمكن لأي قوى أخرى أن تنزلها من سدة الحكم، ونسيت أن لعبة الديمقراطية أوصلتها ويمكن أن تزيلها مرى أخرى، الديمقراطية بمعنى الشورى وحكم الأغلبية، وهي بهذا التصور وقعت في مغالطة مرتين: فهم الديمقراطية كتكتيك للوصول إلى السلطة، وليس استراتيجية ذات خطوط حمراء تحترم ويحافظ عليها من قبل الجميع. وثانياً: اختلاط المقدس بالبشري، فهم كثير يخلطون بين ذواتهم كبشر يخطئون ويصيبون. وبين المبدأ الأزلي الذي يصمد مع الزمن، والفرق بين المبدأ والشخص هائل، فهو فرق بين المؤقت والدائم، وبين النسبي والمطلق، الكمال والنقص، السداد واحتمال الخطأ. وهذا الخلط عند هذه النقطة بالذات هو مقتل الحركات السياسية، ومنها حركات الإسلام السياسي المعاصرة، عندما تتصوّر نفسها أنها أصبحت معادلة للمبدأ المطلق، فتشعب بأنها تمتلك الحقيقة النهائية المطلقة، تعلن الوصاية عليها واحتكارها، وهو ما سيطر على الخوارج قديماً عندما كفّروا غيرهم…