يعد (اللاعنف) أحد متبنيات فكر الإمام الشيرازي الأساسية إذ نجدها حاضرة في أكثر من موضع، فكل كتاباته تبحث عن تواصل مع عامة المسلمين وخاصتهم، لكنها لا تفكر بوسيلة للوصول إليهم بغير الحوار والاعتراف بالإنسان بما هو كيان مسالم، لذا يجب أن يجعل هذا النزوع في صلب سلوكه وتعاطيه مع ما حوله من مثيله أو نظيره ولعله التفات بلا شك لمنبع هذا الفكر في إنسانيته في مثال الرسول الكريم (ص) والإمام علي (ع) الذي نظر لهذه الإشكالية في علاقة الإنسان بالإنسان، فوجد الأخير أن الناس أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق فحل إشكالية الاختلاف من خلال الاعتراف هذا، وهو يقف على بعد عشرات القرون منا وهو ما تتبناه اليوم المواثيق الدولية التي ينظر إليها على أنها عهود أو مواثيق المنجز الحضاري للإنسانية انتهت إليها الإنسانية بعد ويلات الاحتراب والاستغلال والاستعباد لشعوب بأكملها، وفي كتابه (فقه السلم والسلام) يعرض الإمام الشيرازي لمفهوم (السلم والسلام) في الإسلام، ويقف على شمولية هذا المفهوم، فلا يترك مجالا إلا وعرضه في الأبواب الفقهية المعاصرة، كفقه السياسة، وفقه الاجتماع، وفقه الاقتصاد، وفقه الحرب، وفقه الإعلام، وفقه العولمة، وفقه القانون وغيرها.

لقد وضع لكتابه حدودا يدرجها في مضامين عشرة أسئلة، شكلت الإجابة عليها بحثا على ضوء الكتاب الكريم (القرآن) والسنة النبوية المطهرة والإجماع والعقل.

وحيثيات الأسئلة هي التي فرضت الكتاب بشكله الضخم والاتساع الذي بحثت فيه، فلو وقفنا على هذه الأسئلة عرفنا المباحث التي سيدور حولها الكتاب فيقول:

1- ما هي مصاديق السلم والسلام الذي يطلبه الإنسان كفرد أو مجتمع، حتى يبقى وجوده صحيحا، وينمو نموا كاملا؟

2- ما هي كيفية الوصول إلى السلم والسلام بمختلف مصاديقها؟

3- هل السلم والسلام مطلب كل إنسان، سواء اظهر الطلب أم لم يظهره، وهل هو محصور على أولئك الذين يبحثون عنه لأمن أنفسهم واستقرارهم فقط، أم يعم الجميع؟ وبعبارة أخرى هل هو أمر فطري، أم لا؟ 4- ما هي مقومات السلم والسلام بقاء وحدوثا؟ وهل السلام أمر يصعب الوصول إليه، أو طريقه سهل، أو بين هذا وذاك، أو يختلف السلام باختلاف المصاديق، فطريقه إلى الصحة مثلا يختلف عن طريقه إلى الأمن، وهكذا، فلكل شيء سلام خاص وبعضه أصعب من بعض؟

5- هل يحتاج السلم والسلام إلى السبب الذي يعين على تحقيقه كسائر ما في هذه الدنيا، حيث جعل الله لكل شيء سببا، كما قال تعالى (ثم اتبع سببا) ذكر ذلك تكرارا وفي الأدعية (يا مسبب الأسباب).

6- ثم إذا كانت هناك وسائل – وهو كذلك – فهل هذه الوسائل يتحتم على الإنسان استعمالها أموراً تسهل لكل أحد أو يختلف الناس في نيلها؟

7- الأمم التي فقدت سلمها وسلامها في ناحية من النواحي، هل تتمكن من إعادته لنفسها؟

8- ما هو الموقف الشرعي تجاه السلم والسلام بالمفهوم العالمي.

9- كيف يمكن الموازنة بين قانون السلم والسلام كأصل إسلامي وبين قانون المطالبة بالحقوق المهدورة.

10- ما هي النسبة بين السلم والسلام والأحكام الخمسة من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة؟

تألف الكتاب من تمهيد وخمسة فصول أساسية هي؛ الأول (دعوة الإسلام للسلام والمقارنة بين الديانات والحضارات وتضمن أربعة مباحث)، والثاني (السلم والسلام في السياسة والحكم، وتضمن ثمانية مباحث) والثالث (السلم والسلام في الاقتصاد، وتضمن ستة مباحث) والرابع (السلم والسلام في باب الجهاد، وتضمن سبعة مباحث) والخامس (السلم والسلام في العلاقات الإنسانية والروحية)، (السلام الاجتماعي، ويتضمن اثني عشر بحثا).

وبالإضافة للفصول السابقة هناك خمسة فصول ملحقه بالكتاب دار الأول حول السلم والسلام الإداري والثاني حول السلم والسلام في القرآن الكريم والروايات الشريفة والثالث حول روايات العنف والرابع حول مصاديق السلم واللاعنف والخامس حول مصاديق العنف، وهي نصوص قرآنية مختارة في هذه الأبواب بالإضافة إلى الروايات الشريفة من الحديث النبوي وكلام الأئمة الأطهار. أحاط التمهيد بكلمة السلام بدءاً بمدلولها الذي يشير إلى أحد الأسماء الحسنى، ثم لإشارة مهمة لموضوعها في سورة القدر حيث قدر السلام في كل شيء ولكل شخص، ثم يربط بين مصدر كلمة الإسلام فيرى أن أصلها في السلم والسلام فكلاهما (الإسلام والسلام) يتوافقان في توفير الطمأنينة والأمن والسكينة والتقدم ثم أن لواء السلام كان لخاتم الأنبياء فيزيد تأصيل الإسلام في السلام وفي مجال الممارسة نجد تحية الإسلام إنما تكون بالسلام والصلاة تنتهي بالسلام. والسلام احد انشغالات الإنسان (فالسلام مسؤولية الجميع) والحاجة للسلام تدعو إلى عقد المؤتمرات الدولية للبحث فيه وسبل الوصول إليه، كما يوظف وسائل الإعلام والمؤتمرات، وينتهي التمهيد بمفهومي السلم والسلام ومعناهما، فيرى أن لهما معنى شموليا لان اقترانهما بالسياسة، أعطى لها بعدا ضيقا قرينا بالمجال السياسي، والأصح أن مفهوم السلام له علاقة في كل مجالات العلم والمعرفة ولصيق بالحياة اليومية. يعنى الفصل الأول بدعوة الإسلام للسلام والمقارنة بين الديانات والحضارات، ويرى الإمام الشيرازي أن اصل الأديان تدعو جميعا إلى نبذ العنف والإرهاب وما تجده فيها (وخاصة في الأديان السابقة للإسلام) فإنما يأتي من جهة التحريف لهذه المبادئ، وللإسلام صور من التسامح مع الديانات الأخرى فيقول (من مبادئ الإسلام المهمة الواجبة هو مبدأ تنعم الإنسان بالسلم والأمن والحرية، وأن لا يكره إنسان على رأي خاص ونظرية خاصة سواء ترتبط بالكون أو الطبيعة أو الإنسان وحتى في قضايا الدين فالمقرر عدم الإكراه في الدين) ص44.

وفي مواجهة حرية العقيدة والأديان في الإسلام كيف يمكن الرد على إشكال الفتوحات الإسلامية التي هي صورة أخرى لحرب فرض من خلالها الإسلام بالقوة على شعوب البلدان المفتوحة؟ يجيب الإمام الشيرازي بقوله (إن الفاتحين لم يفرضوا الإسلام بالإكراه على أحد ولم يكن دخول الناس في الإسلام بقوة السيف والسلاح، ويتضح ذلك عبر معرفة الأصل في الإسلام الحرب أم السلام، وكيف تم انتشار الدين الإسلامي في البلدان النائية وغيرها وما هي أراء الشعوب البلدان المفتوحة في هذه الفتوحات) ص56.

ويذهب الإمام إلى تفصيل ذلك فيرى أن السلام هو الأصل بدليل انتشار الإسلام في الكثير من البقاع بدون حرب وأن أسس تعامل المسلمين مع غيرهم من الشعوب كان بالمساواة والحرية في كل المجالات في العبادة، والفكر، والثقافة، والعلم، والعمل، وفي الرعاية وحسن المعاملة والحماية فضلا عن النهي عن موالاة الظلمة من الأعداء. وفي الفصل الثاني وقف الكتاب عند موارد السلم والسلام في السياسة والحكم ويرى مصالح الحرية السياسية، ويرى أن الأصل في الإسلام هو الحرية وهي تستلزم السلم والسلام، فإنها ضمان للحرية الشخصية والاجتماعية كما لا يخفى. لقد خضع مفهوم الحرية في التطبيق في أرقى الحضارات للمصالح الضيقة، فلم يعط هذا المفهوم حقه في التطبيق، ومن هذا المنشأ كان التفاوت والفرق بين الحريات ومنها الحريات الإسلامية إذا قابلناها بالحريات الغربية.

ويقف في هذا الفصل عند نظرة الإسلام لظاهرة العنف والإرهاب فيرى (أن دلالات مصطلح الإرهاب نسطتيع أن نجذرها في النص القرآني، فقد ورد أصلا رهب وأريد المعنى اللغوي لا ما هو مصطلح عليه الآن، فالمقصود به ما يكون سببا للردع عن العنف والإرهاب لا مشجعا له) ص121.

والتاريخ شاهد على ممارسة الطغاة للعنف والإرهاب ضد البلاد والعباد وللإرهاب أنواع:

1- إرهاب الدولة والفرد.

2- الإرهاب السياسي.

3- الإرهاب الاستعماري.

ويرى أن الإسلام يجب أن يتصدى لإزالة الإرهاب، فهناك الإرهاب الذي يهدد الناس في مختلف مجالات حياتهم المدنية كالظلم والقتل والسرقة والانتقام والفساد والتخريب ومواجهة ذلك لابد أن يكون من خلال الوصايا الإرشادية والأخلاقية التي يجب أن تبث بين الناس، وإقامة القصاص والحدود من أجل إحلال السلام.

أما زوال الإرهاب الدولي والسياسي، فإن ذلك مقترن بشكل كبير بجملة خطوات منها:-

1- الوعي العام والتعددية السياسية والانتخابات الحرة والمؤسسات الدستورية.

2- تطبيق العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه.

3- إرضاء الإرهابيين الصغار وإقناعهم بأن الإرهاب ليس وسيلة محققة للغرض.

ويحرم الإمام على الدولة الإسلامية تشجيع جماعات العنف والإرهاب وردعها، كما يحرم ارتكاب أي نوع من أعمال العنف التي توجب ضرر الآخرين كالتفجيرات والاغتيالات واختطاف الطائرات وما أشبه ذلك. وينظر الفصل الثالث من الكتاب إلى السلم والسلام في الاقتصاد.. ويرى أن هناك تطرف وإرهاب اقتصادي يقف الإسلام بالضد منه، وهذا التطرف تجده عند بعض المسلمين، وتجده أيضا في النظريات الاقتصادية غير الإسلامية، كالموقف مثلا من الملكية الفردية حيث تقف منها الماركسية والرأسمالية على طرفي نقيض. أما الإرهاب الاقتصادي فيمثله الغرب عموما والدول الاستعمارية خصوصا ضد دول العالم الأخرى، ولهذا الإرهاب وجوه كثيرة منها التجسس ونهب الثروات.

وكي يتكامل السلام الاقتصادي تبرز ضرورة التكافل الاجتماعي وللأخير منه فوائد كثيرة:-

1- يمثل ترابطا بين أفراد المجتمع.

2- يخفف من أعباء الفرد من خلال العمل الجماعي.

3- القضاء على ظاهرة الانحراف والجريمة.

ثم يفصل الإمام في مفهوم التكافل بحسب روايات أهل البيت وموارد التكافل ومستحقيه، كما وقف عند صور من التكافل الاجتماعي الإسلامي.

أما في الفصل الرابع فقد بحث السلم والسلام في باب الجهاد.

يقف هذا الفصل أمام إشكالية السلم والسلام واللاعنف في مواجهة من لا يؤمن بالسلام وكيف يمكن معالجة موضوعه الجهاد في هذا الباب يرى الإمام أن لكل شيء ثمنا ومنه السلم والسلام فإن السلم والسلام أصل من جميع مجالات الحياة إلا إذا فرضت الحرب وكانت حروب الرسول كلها دفاعية وهي مدرسة أخلاقية. ويقول (إن الشهوات والاجتماع يتجاوز لدى البعض منطق العقل والحقوق المشروعة ولا يقف أمامها شيء إلا ما كان رادعا، وهذا لا ينافي أن الأصل هو اللاعنف لكن إذا لم يستطيع استرادا الحقوق المشروعة والحفاظ عليها تتحول الحالة إلى تهيئة مقدمات الجهاد لإحلال السلام والأمن، بعد استشارة الأخصائيين والأخذ برأي شورى الفقهاء والمراجع وهذا هو ما شرعه الإسلام من الدفاع عن النفس والعرض والمال والوطن عند الاعتداء على أحدهما).

وللحروب ضوابطها في الإسلام ومنعها أوجب..

يصل بنا الإمام الشيرازي، في الفصل الخامس إلى موضوعة (السلم والسلام في العلاقات الإنسانية والروحية/ السلام الاجتماعي). في هذا المبحث يهتم بمفهوم التمايز والتفاضل، حيث ينظر لهما بأن ليس هناك عصر معين انطلاقا منه، لهذا يقول (إنما ابتدأ المفهوم الخاطئ منه منذ أن أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لأدم (ع) فخالف إبليس، فالإنسان كان هو الموجود المفضل والمكرم، ولكن إبليس رأى نفسه أفضل من الإنسان فلم يسجد له) ص299.

هنا يجعل الإمام الشيرازي من أفضلية وجود الإنسان، في صدارة أولويات دفع الآثار السلبية التي تأتي مع شيوع ثقافة الممايزة والمفاضلة، بل إنه يقوم بطرح الأسباب المكونة لتلك المسألة، ومن هذه الأسباب:

1- ادعاء أفضلية العنصر والأصل.

دعوة إبليس في تفضيل عنصر على أخر (خلقتني من نار وخلقته من طين)، ولهذا سعى الإسلام للوقوف بوجه هكذا مسلمات، كما قال رسول الله (ص) (إن الله أذهب نخوة العرب وتكبرها بابيها، وكلكم من أدم وأدم من تراب {إن أكرمكم عند الله اتقاكم})ص 302.

2- الحقد والكره والبغض.

يرى الإمام الشيرازي أن هذه الصفات النفسية المذكورة دفعت إلى حصول كوارث مدمرة عانت منها البشرية كما، حصل في دعوة هتلر، التي جَرَت المجتمع الإنساني إلى حرب عالمية، يورد الإمام الشيرازي مواطن نهي ومنع قيام الحقد والبغض.

– قال رسول الله (ص) (إياكم ومشاجرة الناس فإنها تظهر الغيرة وتدفن العزة) ولذلك يركز الإمام الشيرازي على مفهوم السلم والسلام كطريقة للحياة تجلب المودة والرحمة، وتساعد على حفظ النوع الإنساني من التدمير والهدر، لذا يذكر لنا حديث الرسول الكريم (ص) (ألا أنبئكم بشر الناس، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من أبغض الناس وأبغضه الناس).

ينتقل السيد الشيرازي إلى نقطة أخرى تساهم بازدهار مفاهيم التميز والعلو والتكبر وهي:

3- حالة الفقر والغنى.

أن الفقر، يصبح حاجزا نفسياً واجتماعياً، يمنع تمتين روابط الآصرة الإنسانية، فهو يصنف أفراد المجتمع البشري إلى مقبول وغير مقبول على ضوء ما يحمل من إمكانيات مادية، في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) (من حَقَرَ مؤمناً لقلةِ مالهِ حقره الله، فلم يزل عند الله محقورا حتى يتوب مما صنع) ص302.

إن الإمام الشيرازي ينطلق من دعواه (اللاعنف) كحل أصيل، يعالج ما يمر به المجتمع الإنساني اليومي، من تناحر وصراع، لكي نكتشف صور الحياة بوجه جديد مغاير عن ما تسالم عليه عبر التاريخ.