(1)

القائد.. ثم القاعدة

القائد يخلق القاعدة ام القاعدة تخلق القائد؟

هنالك من يقول: ان القاعدة هي التي تخلق القائد، فاذا توفرت القاعدة الصالحة، فهي تخلق القائد الصالح، لان القائد ليس الا اكفا الافراد، فاذا كانت القاعدة الصالحة فهي تختار من بينها اكفاْ الافراد، فيكون القائد.

و هنا لك من يقول: القائد هو الذي يخلق القاعدة، لان القاعدة الصالحة لا تتكون تلقائيا، و انما تحتاج الى قائد متفوق يختار جزئياتها المتفرقة، و يركبها تركيبا علميا مدروسا جم الذكاء و الواقعية، و القاعدة التي تتكون بدون خبرة قائد متفوق، تشبه الهيكل الذي لم تلمسه خبرة مهندس قدير و الذي هو معرض في كل لحظة للانهيار.

و القاعدة لا تتمكن من خلق القائد خلقا من اللاشئ، و لا تستطيع خلق مؤهلات القيادة على من تختارة، و حتى لا تستطيع اختيار اْكفاْ الافراد، و انما تصبح هي ايضا تركة يتنازعها الاقوياء من الورثة.

لقد كان النبي(ص) قائدا عملاقا فريدا في كل تجارب التاريخ، و كل الابعاد الحية من الماديات و المعنويات، و قد خلق قاعدة صلبة واسعة منتشرة في كل صقع و عمق.

ثم اصبحت هي مغنما يطمع فيها كل قوي شديد، و لم تستطيع هي اختيار اْكفاْ افرادها، بل ابعدت الاكفا و رفعت غير الاكفا، الذي لم تستطيع في احسن الفروض. الانطلاق بقوة الموجة التي اطلقها النبي(ص).

و غاندي كان قائدا في التجارب الحديثة. شق الطريق الذي اراد شقه، و نظم من اللاشيء قاعدة واسعة جابهت الاستعمار، فلما ترك القاعدة لخلفه ونهر ، لم يستطع التوسع رغم انه بدأ انطلاقه من حيث انتهى استاذه غاندي.

و هكذا لتجمد القاعدة بانتهاء القائد، و تصبح اثرا في الاثار..

فلا بد من القائد قبل القاعدة، فمتى وجد القائد جمع هؤلاء الناس المنتشرين في كل مكان قاعدة يسند اليها، و كثيرا ما تترك القاعدة بعد قائدها و لا شك انها تظفر بقائد تقليدي، و لكنها تبقى كبقايا الصوارخ السابحة في الفضاء بعد انفصال محركاتها عنها، فالصحيح ما عمله الله تعالى، حيث كان يختار القائد قبل القاعدة، ثم يامره بتاليف قاعدته، فكان يرسل الانبياء الى المجتمعات البدائية و المنحرفة، فيرتبون قواعد لهم.

لقد كان الله يرسل القائد الى القاعدة، و لم يجعل قاعدة للقائد.

فالقائد قبل القاعدة.

و هذا هو سبب فشل الذين يعتمدون على القاعدة ويظنون انها كل شيء، فكل فرد يملك قليلا من التاثير يبدأ بتنسيق مجموعة قاعدية، بانتظار ان تخلق منه قائدا، و يزيد في تمزيق اشلاء القاعدة التي اوجدها قائد عظيم قبل اربعة عشر قرنا.

(2)

نقطة قوة في مظهر نقطة ضعف

ارايت من يكره رجل الدين، مطلق رجل دين، و يشعه بالنكات؟

ارايت من يكره دعاء الايمان، مطلقا من مأذنة او غيرها، و يبدي تذمره منه؟

ارايت من يكره مركز العبادة، مسجدا او غيره و يشيح عنه؟

حتما رايت.

فهل عرفت لماذا؟

قد تفسره بتوغله في الارتداد عن الدين، و عن مطلق مظاهره.

قد تفسره بانطباعات مشوهة عن بعض المتدينين ترسبت في ذاكرته.

قد تفسره بدوافع تفرض عليه التظاهر بهذا الكره لكل قيمة معبرة عن السماء، و ربما يكون شيء من ذلك او ذاك او هذا، و لكن اكثر الناس ابرياء و حتى هم مجرمون.

و السبب الوحيد في اكثر اولئك: انهم يحتفظون بشئ من الايمان في ضمائرهم،و هو يتحرك كلما التقى بمظهر من مظاهر الدين، لانه يجد فيه سنه فيشعرون بوخز الضمير، و يحاولون اسكاته، فيلجئون الى تلك المحاولات لتكبيته، و الا فما بالهم يكلفون انفسهم تلك المحاولات دون ان يصدمهم احد بشئ؟

اذن: فلا بد انهم مصدومون، و يندفعون برد الفعل.

و اما الذي فارق الايمان قلبه، فلا يتحرك مهما اختلفت امامه مظاهر الدين، لانها لا تحرك فيه ساكنا.

فاذا رايت من تؤذيه مظاهر الدين فاكتشف في خباياه بصيص الايمان، و حاول الانظلاق منه قبل ان يازر الايمان من قلبه، فهي نقطة قوة في مظهر نقطة ضعف.

السلام 7

دوافع انهيار الدولة العثمانية؟

تساءل الدكتور احسان حقي عن الاسباب و الدوافع التي ادت الى انهيار الدولة العثمانية؟

و قال: كما في كتاب (تاريخ الدولة العثمانية): اذا كان بعض الناس يعطون للدول اعمارا كاعمار المخلوقات و يقولون ان الدول تشيخ و تهرم فتموت بفعل مرور الزمن فانا لست ارى هذا الراي و لا ارى ان الدول تشبه المخلوقات ذات الاعمار المحدودة. و انما عمر الدول يتجدد بتجدد الاجيال. فاذا كانت الاجيال التي تعيش في دولة ما من الدول حية قوية نشيطة عاملة واعية عاشت الدولة ما عاشوا متمتعين بهذه الصفات لان عمر الدولة يتجدد مع كل جيل.

و اما اذا كانت هذه ضعيفة كسولة متواكلة مهملة ماتت دولتهم بموتهم لكي تعيش في غيرهم ممن يصلحون للحياة، فالدولة لا تموت بذاتها اذ ليس فيها ما يموت و انما تموت باهلها.

و في البحث عن الاسباب التي ادت الى زوال الدولة العثمانية بعد ان سيطرت على العالم بضعة قرون كانت فيها ملئ عين الزمان و سمعه، لا بل كانت فمه القائل و يده الباطشة و لسانه الناطق قال: و ترجع هذه الاسباب، في نظري، الى:

زواج السلاطين بالاجنبيات و تسلط هؤلاء الاجنبيات على عواطف ازواجهن و تصريفهن في سياسة بلادهن الاصلية و تحكمهن بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا اولادهم او اخوانهم بدسائس زوجاتهم و ارتكبوا اعمالا تضر بمصلحتهم ارضاء لزوجاتهم.

تعدد الزوجات و المحظيات اللواتي كان الاجانب و الاحكام يقدمونهن هدية للسلطان كانهن السلع او التحف و اللواتي كان السلاطين اذا راوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن احيانا الى قادتهم او خواصهم على سبيل التكريم. و كان من البديهي ان يحصل بين الاولاد الامهات و امهات الاولاد، سواء اكانت الامهات زوجات او محظيات، تحاسد و تباغض يؤديان الى قتل السلاطين اولادهم و اخوانهم و الى امور غير معقولة و مقبولة عقلا و شرعا.

تفكك روابط الاسرة السلطانية بسبب كثرة النساء حتى اصبحت عادة قتل السلطان اخوانه او اولاده، يوم يتولى العرش، امرا معروفا و مالوفا، و كانه يضحي بخراف احتفاء بهذا اليوم من غير ان يشعر بوخز ضمير او لسعة الم.

و لذا فقد كان افراد الاسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر و يتربص بعضهم بالبعض الاخر الدوائر و لا يبالون بان يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء اكان اخا ام ابا ام ابنا و ذلك ليس حبا بالسيطرة فقط بل لانقاذ اعناقهم احيانا من الغدر.

تدخل نساء القصر بالسياسة و شفاعتهن لدى ازواجهن السلاطين برفع الخدم الى منصب الوزارة او ايصال المتزلفين الى مراتب الحل و العقد، كرئاسة الوزراة و قيادة الجيش. و في كثير من الاحيان لا يكون لهؤلاء الرجال من ميزة يمتازون الا تجسسهم لحسابهن.

بقاء اولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئا و لا يعلمون شيئا ايضا لانهم لم يكونوا يدرون الى ما سيصيرون فاما انهم يذهبون ضحية مؤامرة قبل ان يصلوا الى العرض و اما انهم يصلون الى العرض لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم و تتحكم بهم او يسحبون عن العرش و يقتلون او تسيرهم نساء القصر او يسيرهم جهلهم.

و تسليم امور الدولة الى غير الاكفاء من الناس اذ كان طباخ القصر و بستانيه و حطابه و الخصي و الخادم يصلون الى رتبة رئاسة الوزراء او القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل ان يفعل؟

احتداب السلاطين و عدم ممارستهم السلطة بانفسهم و الاتكال على وزراء جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتى (السلطان سليم الاول) يتولون قيادة الجيش بانفسهم، فيبعثون الحماسة و الحمية في صدور الجنود، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة الى ضباط فصار الجنود يتقاعسون و يتهاونون تبعا للمثل القائل: (الناس على دين ملوكهم).

تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الاحيان ثلث واردات الدولة.

خيانة الوزراء، اذ ان كثيرا من الاجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالاسائس و التجسس حتى يصلوا الى اعلا المراتب، و قد ابدى (السلطان عبد الحميد) استغرابه من وفرة الاجانب الذين تقدموا الى القصر يطلبون عملا فيه حتى و لو بصفة خصيان!! و قال: لقد وصلني في اسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب اصحابها عملا في القصر حتى و لو حراسا للحريم، و كانت الرسالة الاولى من موسيقي فرنسي، و الثانية من كيمائي الماني و الثالثة من تاجر سكسوني و علق السلطان على ذلك بقوله من العجب ان يتخلى هؤلاء عن دينهم و عن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء و امثالهم كانوا يصلوان الى رئاسة الوزراء، و لذا فقد قال (خالد بك) مبعوث انقرة في المجلس العثماني بهذا الصدد.. لو رجعنا الى البحث عن اصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية و ارتكبوا السيئات و المظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المائة منهم ليسوا اتراكا (بل و ليسوا مسلمين).

غرق السلاطين و الامراء في الترف و الملذات.

الحروب الصليبية التي شنت على الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها الى يوم انهيارها.

الامتيازات التي كانت تمنح للاجانب اعتباطا بسخاء و كرم لا مبرر لها بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في اقبح صورة، فقد منحت الدولة العثمانية، و في اوج عظمتها و سلطانها، امتيازات لدول اجنبية جعلتها شبه شريكة معها في حكم البلاد. يقول الدكتور احسان حقي: و لا ارى سببا لهذا الاستهتار الا الجهل و عدم تقدير الامور قدرها الحقيقي و تقدير قوة و دهاء الدول التي منحت هذه الامتيازات و العاقل لا يستهين بعدوه مهما كان صغير و ضعيفا.

الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الارض ابوابها على مصراعيها يلجونها كما يشاءون. و ان من يقرأ كتاب (الملك سليمان القانوني) الى ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشبه كتاب ملك الى ملك او امبراطور عظيم الى ملك صغير او حتى الى امير، بل يجده وكأنه كتاب سيد الى مسود. و من يطالع صيغ المعاهدات، في اوج عظمة الدول، و ما كان يضفي، فيها على سلاطين بني عثمان من القاب يكادون يشاركون بها الله تعالى في صفاته بينما تكون القاب الاباطرة و الملوك العادية،… ان من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك الى أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل و الغرور.

ادخال (ما سموه بـ) الدين في كل صغيرة و كبيرة من امور الحياة و السير بعكس مأ يامر به الدين، باسم الدين، حتى اصبح الدين العوبة في قبضة ايدي مجموعة من الجهال يحللون و يحرمون على هواهم، و مثال ذلك ادخال امر تغيير اللباس في نطاق الدين ثم لما اراد احدهم انشاء مطبعة في استانبول و وجد معارضة من قبل علماء الدين لجأ الى السلطان و الى حاشيته يطلب اليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فامر السلطان شيخ الاسلام بان يفتي بان المطبعة نعمة من نعم الله و ليست رجسا من عمل الشيطان كما افتى العلماء من قبل فافتى شيخ الاسلام بجواز انشاء مطبعة شريطة الا تطبع القرآن الكريم و لا كتب التفسير و الحديث و الفقه. و قد انشئت اول مطبعة في استانبول سنة 1712م أي بعد ان كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين و نصف القرن و بعد ان أنشأت فرنسا المطبعة بنحو قرنين.

هذه الاسباب هي التي قضت على الدولة العثمانية و انزلتها من شامخ عزتها الى حضيض المذلة و الهوان. و ان من يدرس بانعام نظر، كل سبب من هذه الاسباب المذكورة آنفا و يرى مدى تاثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت ان تعيش ستمائة سنة و هي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها و التي لو نزلت على جبل لصدعته، و لكنها عاشت بفضل اختلاف اعدائها على تقسيمها فيما بينم و بفضل ايمان اهلها و تمسكهم الى حد ما بالاسلام.

و من المؤسف المحزن ان يهدم ابناء اولئك المؤمنين بتنكرهم للدين و بتخاذلهم ما بناه آباؤهم و اجدادهم بجدهم و جهدهم و بما قدموه من تضحيات بالدماء و الارواح…