اصبح التحدث بلغة العنف السمة الاظهر على الخطاب الاسلامي المعاصر، وقد اقترن العنف مع الخطاب الاسلامي بشكل مفرط في وسائل الاعلام حتى اعتبر البعض ان الاسلام هو العنف!

والمشكلة الاساسية تنبع من عدم وجود استنباط عميق لنظرية العنف تشريعيا وفكريا حتى تحول خطاب العنف الى سلطة مطلقة على الحالة الفكرية والحركية لدى بعض الحركات الوسومة بالاسلامية مما حول العنف الى سيطرة شمولية على كل الاهداف والافكار والوسائل والكيانات.

أن خاصية العنف هو التطور نحو الصدام المطلق  فتدفع مستخدميه لأن يتحولوا بالبرمجة الآلية إلى دعاة للموت والانتحار، وهي خاصية هدم لا تحتوي على عناصر مشروع حياة يهدف إلى إنقاذ البشر وهدايتهم عبر الإصلاح الثقافي والأخلاقي والسلوكي، اذ ليس هناك قدرة للعنف على تحقيق كل ذلك.

لكن الإنسان يستمد بقاءه ووجوده من خلال تعايشه مع الآخرين في رحلة مستمرة من التكامل والتكافل المشترك، تعتمد بصورة أساسية على وجود التفاهم والحوار والنظام؛ فبقاء الحيوان بالقوة والغريزة وبقاء الإنسان بالمعرفة والعقل، والعقل هو الذي يغلب القوة باستمرار، كما انتصر الإنسان بعقله على أقوى الحيوانات، وانتصرت الحضارات المتوجة بالعقل والمعرفة على أقوى الجيوش والأسلحة الحربية، وقد استخلص اقتصادي أمريكي يدعى (ادوارد دينيسون) أن (ثلثي النمو الاقتصادي الأمريكي نتج من تقدم معارف القوة العاملة ورفع مستوى قدراتها من التصنيع إلى صناعة التفكير، فالمجتمع المعلوماتي هو حقيقة اقتصادية وليس تجريداً فكرياً، فمع تقدم المجتمع المعلوماتي أصبح لدينا اقتصاد يعتمد على مورد أساسي ليس متجدداً فحسب بل قابلاً للتجدد الذاتي).

والعنف لا يستمد قوته من كونه عقلانياً بل من كونه انفعاليا يستجمع العواطف والانفعالات ليحرر غضباً داخلياً كامناً يتحول إلى قوة لفظية وبدنية أو حتى فكرية.

ويرى (كارل بوبر) في كتابه (اليوتوبيا والعنف): (إنني إنسان عقلاني لأنني أرى في موقف التعقل البديل الوحيد للعنف.. والعقل هو النقيض المباشر لأية وسيلة من وسائل القوة والعنف).

وقد طرح (جون ديوي) قضية تغيير المؤسسات الاجتماعية على أنها قضية صراع بين استعمال العنف أو استعمال الذكاء الإنساني في حل المشكلات. الإصرار على أن استعمال القوة العنيفة هو أمر لا مهرب منه يحد من استعمال الذكاء الإنساني؛ ذلك لأنه حيثما يسود المحتوم يبطل استعمال الذكاء.

العنف هو فعل ضد الحرية بل هو يسلب حرية الآخرين ويشل قدرتهم على الاختيار. وهذا يتنافى مع حكمة الرسالات السماوية التي تهدف إلى تطبيع البشر إنسانيا وأنسنتهم فطرةً وعقلانيةً. وقد خاطب الله تعالى رسوله الكريم (ص) قائلاً: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)، فوظيفة الرسالة تذكير الإنسان وإرشاده إلى عقله، دون محاولة السيطرة على حريته؛ ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ).

إن العنف بطبيعته وإن كان يرفع شعارات العدالة والحق إلا أنه في أحيان كثيرة يسير باتجاه معاكس عندما يرى الحق المطلق لنفسه؛ لذلك فكل تيار أو اتجاه أو حركة لا تنضم إليه وتسير وفقه، فهي إما مرتدة وإما كافرة. وهذا هو التفسير التحليلي لأيديولوجية التكفير والتطرف. فالعنف لا يعترف بالآخرين ولا يقبل بالتعددية، وتقوم ممارساته عملياً على إلغاء الآخر، وبالتالي فهو يسير في اتجاه الاستبداد المطلق.

من هنا كان لابد من الدعوة الى اللاعنف المطلق من اجل فتح الابواب امام حرية العقل والنقد العقلي والحوار الحر والتعددية، واللاعنف المطلق هي دعوة الى تحويل اللاعنف الى فلسفة شاملة وغاية سامية واستراتيجية دائمة دون الاقتصار على الممارسة التكتيكية.

فكثير من دعاة اللاعنف يمارسونه ليس كفلسفة او غاية بل مجرد تكتيك في مواجهة الظالم الاقوى.

ويمثل الإمام الشيرازي المدرسة الحديثة لمفهوم اللاعنف المطلق حيث اصبح رائداً في مجال اللاعنف ونبذ العنف في حل الكثير من المشكلات الإسلامية والقضايا السياسية المعاصرة، فهو حينما يرفض العنف والعدوان كأسلوب لحل المشكلات باعتبارهما من الظواهر التي تؤثر في حياة الفرد والجماعة، إنما يستند في ذلك إلى فكره الإسلامي القائم على جانب السلام بقوله: إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء. ويرى الإمام الشيرازي: إن الأصل في الإسلام: السلم واللاعنف.

ويؤكد الإمام الشيرازي ذلك بقوله: إن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من اجل إنقاذ البشرية، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو، والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: (فبما رحمة من ربك لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضوا من حولك، فاعف عنهم، واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين).

ويعرض الإمام محمد الشيرازي أفكاره في المسالمة وعدم العنف، وأسلوب الرفق في التعامل والمداراة على شكل نظرية متكاملة الأبعاد والأسس في التكوين والنشأة والتعامل الحياتي إزاء مواقف الحياة المتعددة. ويستمد الإمام الشيرازي هذه النظرية في كل أبعادها من القرآن الكريم وما روي عن رسول الله النبي محمد وعن آل بيت الرسول صلوات الله عليهم اجمعين في مختلف المواقف، فضلاً عن قدرته الإبداعية في الاجتهاد وآراءه الفقهية النوعية.

ففي إحدى المسائل الفقهية يقول: يحرّم الإسلام الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمى اليوم بالعنف والارهاب، فإنه لا عنف في الإسلام، ولا يجوز أي نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين.

ويضيف الإمام الشيرازي قوله: كيف لا والإسلام مشتق من السلم والسلام، والقرآن الكريم يأمر بالرفق والمداراة، يقول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي).

ويرى سماحته انه ليس من الهين التمسك بسياسة اللاعنف لأنها تقتضي أولاً التحلي بالشجاعة الكافية وبالقوة النفسية، وإن التفاف الناس حول من يأتي في موقفه ويلتزم بسياسة اللاعنف فإن الناس تنصره على الجاهل.

ومن خلال مسيرته الطويلة وتجاربه على الساحة الاسلامية التي جعلته يؤمن باللاعنف المطلق وجد الإمام الشيرازي إن اللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابة، ولا تردها، وإن سنحت الفرصة، وإن قوة الروح غالبة على قوة الجسد، وإن السلم حالة نفسية تبدأ من الداخل لتنتشر على الجوارح، فعلى الإنسان أن يرّوض نفسه على السلم ويلقنها، حتى يتم له ضبط أعصابه في ساعات الغضب.

واللاعنف المطلق عند الامام الشيرازي هو قدرة ملكة ضبط النفس، التي يعرّفها بقوله: إن ضبط النفس وهو ملكة التحمل في خوض الأهوال، وقوة المقاومة مع الشدائد والآلام، بحيث لا يعتريه انكسار وإن زادت وكثرت الأهوال والشدائد. ولا شك في أن ذلك أمر لا يدرك إلا بشق الأنفس، وطالما قصرت -وما زالت تقصر- دونه رغبات الناس، وطموحات الرجال، ذلك لأن أول المحكات فيه محك النفس، ويضيف: نحن لا نريد بذلك أن نلغي العوامل الأخرى المهمة من قبيل تحصيل المعارف واكتساب التجارب الخبرات وتحمل الصعوبات في ذلك، غير أن أول الطرق إلى ذلك، هو ضبط النفس الأمارة بالسوء، والسيطرة على ضعفها، للوصول بها إلى درجات الكمال.

ويتعرض الإمام الشيرازي إلى العوامل الأخرى، إلى نزعات التناقض في النفس الإنسانية بقوله: إذ أن نفس الإنسان ميالة للدعة، والهروب من المسؤولية، سريعة الرضا بالمستوى المتوافر، كثيرة التبرير للهفوات والتراجعات! ويطرح الإمام الشيرازي عاملاً آخر هو الصبر كأحد استراتيجيات اللاعنف، مستنداً في ذلك على قول الإمام علي بن أبي طالب (ع): ألزموا الصبر فإنه دعامة الإيمان وملاك الأمور.

لكن.. الصبر يحتاج إلى ضبط للأعصاب، وتحفظ على النفس، وتجنب للزاوية الحادة في الأمور، وإيحاء مستمر بأنه (صابر) حتى يصبح الصبر ملكة وقدرة عفوية، تعطي أثرها بدون عناء وصعوبة.

ويلحق الإمام الشيرازي بنظريته في  اللاعنف عدم الانتقام فإن الانتقام ينافي اللاعنف الذي يأتي، ولها دفع للشر بسببها.

ويتناول الإمام الشيرازي في نظريته عن اللاعنف بعدي الكم والكيف، ويؤكد على اللاعنف الذي يجب أن يجعله الإنسان شعاراً وهو اللاعنف الملكي (نسبة إلى الملكة -القدرة) لا القسري. ثم يقسم اللاعنف إلى ثلاثة أقسام:

الأول: اللاعنف الملكي.. ويقصد به، أن تكون نفسية بحيث تظهر على الجوارح عن ملكة، كما في الشجاعة والكرم والعفة والعدالة وأشباهها كذلك.

الثاني: اللاعنف القسري الخارجي.. أي أن الضعف أوجب ذلك، فإن الضعيف -عادة- يلتجئ إلى اللاعنف للوصول إلى هدفه.

الثالث: اللاعنف القسري العقلائي.. أي أن يرجح اللاعنف على العنف من باب الأهم والمهم، وهو قادر على العنف، لا كسابقه، وهذا لا ينبع اللاعنف فيه عن ضمير فضيلة، وإنما يرجحه حيث أنه يراه طريقاً للوصول إلى هدفه.

ويوضح الإمام الشيرازي الآليات النفسية – الاجتماعية في نظريته عن اللاعنف المطلق  بقوله: على المسلمين أن ينتهجوا منهج السلم واللاعنف في اللسان والقلم والعمل، فعليهم أن لا يسبوا أحداً، ولا يجرحوا شخصاً باللسان والقلم، كما ينبغي أن لا يتخذوا مواقف حادة كالمقاطعة والحصار الاجتماعي.

ويستغرق في شرح الآليات النفسية بقوله: اللاعنف يتجلى في كل من اليد، واللسان، والقلب، وأحدها أسهل من الآخر.

فاللاعنف في اليد، أسهل من اللاعنف في اللسان، واللاعنف في اللسان، أسهل منه في القلب. ويشرح الإمام الشيرازي معنى اللاعنف بقوله: أن يعالج الإنسان الأشياء سواءً كان بنّاءً أو هداماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، فهو بمثابة المخدر الذي يسلب الحس، حتى يعمل المبضع في نكئ القرحة، وشرح اللحم والجلد.

ويتوضح مفهوم اللاعنف المطلق عند الإمام الشيرازي برؤيته حول اللاعنف في اليد.. وهو يعني أن لا يمد الإنسان يده نحو الإيذاء، ولو بالنسبة إلى أقوى خصومه، ولو كان المد لرد الاعتداء، مستنداً في ذلك إلى قول الله سبحانه وتعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى)، فلا يلطم خصمه، وإن لطمه، ولا يضربه وإن ضربه، ولا يجر عليه آلة نارية، أو خشبة، أو ما أشبه.

ويورد الإمام الشيرازي تعاليم عيسى المسيح (ع) كما في الأحاديث المروية عن الأئمة المعصومين (ع): من لطم خده منكم فليمكن من خده الآخر.

ويستشهد حول اللاعنف المطلق أيضاً  بنبي الإسلام محمد (ص)  بقوله:  التاريخ يشهد بأنه كان يتجرع الاعتداءات اليدوية بكل رحابة فحين كان (أبو لهب) يحصبه بالحجارة، و(أم جميل) تلقي في طريقه الأشواك، و (كافر آخر) يفرغ على رأسه الكريم سلى الشاة وهو في الصلاة، و(مشرك) يبصق في وجهه الطاهر، وزائغ يلقي القذارة في طعامه، و (مولى أبو جهل) يشج رأسه بقوس.. حيث كان يقول (ص): اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

وإزاء ذلك يقول الإمام الشيرازي: اللاعنف اليدوي سلاح، يجلب إلى الداعي النفوس،ويؤلب على أعدائه الناس.

من هنا فأن  الإمام الشيرازي لم يُقصر تنظيره حول فقه السلم واللاعنف فيما يرتبط بالجانب السياسي او الحركي فحسب، بل انطلق بطرحه ليضفي على هذا المفهوم بُعداً أوسع وأشمل؛ لذا نجده يرفض العنف بكل أشكاله وبشكل مطلق كما يعتبر  اللاعنف نظرية متكاملة، ومنهج سلوك متواصل، وخياراً حضارياً ينبغي أن نوفر عوامل نجاحه الذاتية والموضوعية.. بقوله: إذا أردنا أن نصل مع الآخرين إلى الحل الصحيح، والاجتماع على رأي صائب، لكي نحصل على النتيجة المطلوبة، يجب علينا أن نسلك طريقاً بعيداً عن العنف، ونتبع أسلوب التفاهم بالحكمة والموعظة الحسنة والهدوء في معاملتنا مع الآخرين، حينئذ نصل موفقين إن شاء الله تعالى إلى الغاية والهدف.

مركز الامام الشيرازي للبحوث والدراسات