مـقـدمـة

 الأسرة الإنسانية هي قاعدة الحياة الإنسانية التي تشكل اساس بنيانها، وتحدد وجهة مسيرتها، وعلى ادائها يعتمد نوعية اداء المجتمع، وتطور بنائه ومؤسساته ومعدن اعضائه.

 والأم هي قاعدة الأسرة التي ينبع منها حياتها ويلتف حولها ويقف على اكتافها ويتناول من يدها كل اعضاء الأسرة روح الحياة ومادتها.

 وإذا ضيعت الامومة بالذل والمهانة أو بالخلاعة والمجون، ضاع معنى الحياة ومذاق طعمها وراحة دفئها وامنها.

 وقد عني الإسلام بالأسرة وبالأمومة والحفاظ عليها وحماية حقوقها وكرامتها، واقام علاقاتها على المودة والرحمة، وعلى البر والعرفان بالجميل.

وهذا البحث يحقق احدى قضايا الأسرة التي تتعلق بكرامة المرأة، ومن ورائها كرامة الإنسان، من منطلق واجب الاجتهاد، لتحقيق مقاصد الشريعة، في بناء الإسرة وعلاقاتها في عالم اليوم ومتغيراته، لبناء اجيال يتحلون بالقوة والأمانة والكرامة اللائقة بالمسلم، لمواجهة تحديات العصر، وحمل رسالة الإسلام، وبالله التوفيق وهو الهادي الى سواء السبيل.        

 

  د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان      

في 5 جمادي الأولى 1422        

 الموافق 23 أغسطس 2001       

تمهيد

  كنت أرى في ظروف الأمـة والعالم من حولها، والهجمة الثقافية والحضارية الضارية عليها، مع تردي أحوال الأمـة وحقوق الإنسان فيها معنى ما يواجهه المنافحون عن الإسلام وحقوق الإنسان في الإسلام من حيرة بشأن قضية “ضرب” المرأة كحق للزوج ووسيلة من وسائل وضع حد لحالة الخلاف بين الزوجين ونشوز المرأة واستعصائها ونفورها من زوجها ولا يصعب أدراك أسباب تلك الحيرة ودواعيها في عالم اليوم.

 ورغم إنني جوبهت بالعديد من الشبهات عن الإسلام حين كنت على مقاعد الدراسة، خاصة في مرحلة الدراسات العليا في البلاد الغربية، وأثناء العمل الإسلامي الشبابي من خلال نشاطات “اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا”، و “الندوة العالمية للشباب الإسلامي”، إلا أنني كنت دائماً، ولأسباب فكرية منهجية، أجد الحل المقنع والفهم المرضي لأي شبهة من تلك الشبهات وذلك أنني أصلاً تيقنت بدءاً صدق الرسالة المحمدية عن الله الخالق وذلك منذ نعومـة أظافري حين كنت على مقاعد المدرسة الثانوية وبرؤيـة وفكر تسـتند  إلى أسس عقلية منهجية مبدئية[1]، و بذلك لم يعد لدي مشكلة شك مما يعني أن الفكر في الموضوع يتميز بالوضوح وبالتالي يتميز بالقدرة على الصبر والمثابرة في البحث لما قد يواجه من مشاكل تحتاج إلى بحث ونظر وحل، أي أنه لا يوجد عند هذا اللون من الفكر “شك” ولكن قد توجد “اشكالات”، و فرق بين “الشك” و “الإشكال” فالشك عائق و مثبط أما الإشكال فمحفز ومنشط وداع إلى الفكر والعمل والبحث والتنقيب والاجتهاد، ولذلك كنت – وما أزال – كلما أثيرت أمامي شبهة عن الإسلام كنت أرى فيها إشكالا لا شكا فانصرف إلى التأمل والبحث معتمداً منهج المعرفة الإسلامية الأصيل في الشمول المنهجي بين تكامل آيات الوحي وآيات الكون ومبادئ العقل، فدون معرفة حال موضوع الإشكال وما ينطوي عليه من سنن وحال لا يمكن فهم دلالات الوحي و هدايته، ولذلك إنّ منهجي في النظر أن أتوجـه أولاً إلى موضوع الخلاف وأتبين طبيعته الموضوعية وما يتعلق به من السنن والطبائع التي أودعها الله فيه، وما تحيط به من الظروف الزمانية والمكانية، وذلك حتى يمكنني فهم دلالة آيات الوحي ومقاصده وأهدافه بشأن موضوع الخلاف أو الشبهة، لأنّ من يبدأ بالنظر في الأحكام أولاً كثيراً ما يكون مقلداً تحول دون رؤيته الشمولية للواقع والطبائع وتعلقها بالشريعة كوابح ثقافة التقليد والمتابعة المصحوبة بعوامل الخوف والرهبة من الخوض في مجالات القدسية، والتي كثيراً ما يصحبها ويعمقها أيضاً الجهل بالدراسات الاجتماعيـة المتعلقة بالواقع والطبائع، ولم يخب ظني قط في جدوى هذا المنهج الشمولي لأنتهي بواسطته إلى فهم مُرْضٍ مُقْنعٍ لا يتنكر لأي مبدأ من مبادئ الشريعة وقيم الأخلاق والكرامة الإنسانية[2].

ولذلك لم يكن من الصعب علىّ أن ألحظ تطلع المنافحين عن حقوق الإنسان في الإسلام إلى حل وفهم يرفع الجور والعسف عن المرأة، ويرد شبهة إمكان ظلمها والتنكيل بها باسم الإسلام، خاصة مع ما تعانيه المرأة لموضعها المتدني في كثير من ثقافات بلاد العالم، ولضعفها النسبي أمام الرجل جسدياً، ولارتباط الطفل وحاجاته المادية والعاطفية المباشرة بها، ومع ما تعانيه المجتمعات الإسلامية بشكل عام من فقر وجهل وتخلف، تنال آثارها المرأة أكثر من سواها، مع تدن لممارسات حقوق الإنسان في هذه المجتمعات بسبب تفشي الاستبداد والمظالم الاجتماعية التي تطال الجميع وتهدد حقوقهم وكرامتهم.      

ولانشغالي بمسئوليات  أخرى لم أتمكن من الانصراف إلى كل ما يمر أمامي من الإشكالات ومنها إشكالية “ضرب” المرأة  لذلك لم أتوفر على النظر في هذا الإشكال وحقيقة موقف الإسلام منه في قرية العالمالإسلامي والعالم الإنساني الذي نعيشه اليوم بسبب ما كنت أواجهه من تلك المسئوليات والمشاغل.

 وأخيراً وقد عدت إلى العمل الفكري وانصرف همي من جديد إلى الناحية الفكرية في أسس تخلف الأمةوالأسباب الكامنة خلفها، وفي أسباب عجز مشروعها الحضاري حتى اليوم عن أن يحقق أهدافه السامية التي يسعى جاهداً إلى تحقيقها رغم المحاولات الكثيرة المتتالية، ولأكثر من ألف سنة، وذلك منذ أن أطلق الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/ 1111م) صيحته في: “إحياء علوم الدين”، و “تهافت الفلاسفة”، لذلك انصرفت إلى الطفولة في الفكر الإسلامي ومشروعه الحضاري باعتبارها البُعد الغائب في هذا المشروع، ومنطلق التغيير لإعادة صياغة الشخصية الإسلامية معرفياً ووجدانياً شَرْطًا أَسَاسِيًّا  لتصبح الأمـة في مستوى التحديات التي تواجهها.

 وقد قادني البحث والنظر والتفكير في أمر “الطفولة” إلى البحث والنظر في أمر “الأسرة” باعتبارهاالمحضن الأساسي لتكوين شخصية الطفل و”سيناء” هذا العصر، الذي يتم من خلالها إعادة هذه الصياغـة، اعتماداً على الدافع الفطري لدى الوالدين الذين لا يلحظون إلا مصلحة الطفل حسب رؤيتهم  وقناعتهم،  ولأننا لا يمكننا اليوم إيجاد محضن مادي مستقل منعزل، كما حدث في “سيناء” سيدنا موسى، يمارس فيه الإصلاحيون مهمـة إعادة التربية وتنشئة جيل يتمتع بالصفات اللازمـة في الإقدام والمبادرة، لمواجهة التحديات القائمة كما فعل سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، الذين استعبدوا في مصر، فأخذهم إلى أرض “سيناء” يجوبون بواديها أربعين عاماً لينشأ جيل من المؤمنين الأحرار الشجعان القادرين على إتقان الأداء وبناء الأمـة بدلاً من جيل العبيد الجبناء العاجزين. “… قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتـاه الله الملك والحكمـة وعلمه مما يشـاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين” البقرة: 249 – 251.   

وفي النظر في دور الأسرة التربوي لابد أن يقودنا البحث والنظر في بناء الأسرة إلى البحث والنظر في علاقاتها وكافـة الأبعاد المؤثرة على دورها التربوي للطفل والجيل الناشئ ومكوناتهما المعرفية والروحية النفسـية الوجدانيـة.

 وهنا وجدت نفسي وجهاً لوجـه مع قضية “الضرب” في علاقات الحياة الزوجيـة، وعلاقـة الأبوة والأمومـة، وعلاقـة الرجل والمرأة، وعلاقـة الإنسان بالإنسان، والبالغ بالبالغ.

وكمنطلق منهجي في النظر والبحث كان على أن ألتزم شمولية البحث بالنظر في مختلف جوانبه وعلاقاته وصورته الكبرى، كما كان على أن ألتزم الانضباط المنهجي فلا أسمح للجزء أن يطغي على الكل، ولا على ملابسة أو حادثة أن تلغي مبدءاً أو مقصداً عاماً، والعمل على وضع الأمور موضعها الصحيح، كما كان على أيضاً أن أتوخى ـ بمنهج عقلي سليم ـ التكامل المعرفي بين آيات الوحي وآيات الكون وتكامل هداية الوحي مع الطبائع ومع الوقائع في الزمان والمكان.

ولذلك كان لزاماً على أنْ أنطلق إلى البحث إسلامياً من منطلق كرامـة الإنسان واستخلافه ومسئوليته وحقـه في تقرير مصيره، وأي ترتيب للعلاقات الإنسانية لا ينسجم في الزمان والمكان مع هذه المبادئ والمنطلقات الإسلامية فهو لا يمثل روح الإسلام ولا غاياته  ولا مقاصده، ويجب تدقيق النظر لمعرفـة موضع الخلل في هذه الترتيبات التي تنافي أو تفتات على حقوق الإنسان ومسئولياته الأساسية في امتحان الحياة وابتلائها.

 كذلك فإنّ منطلق البحث في ترتيبات العلاقـات الأسرية الإسلامية لابد أن يحكمـه مفهوم “المودة والرحمـة”، وأي ترتيبات تمس هذا المفهوم وهذا الأساس في بناء “العلاقة الأسرية” يجب تدقيق النظر فيها لمعرفة وجه الخلل أيضاً.

ومن الناحيـة المنهجية العامـة فإننا نعلم أنّ الرسالة الإسلامية جاءت هدياً وَتَوْجِيهًا لما فيه مصلحة الإنسان في كل زمان ومكان، ولذلك فإنّ عناصر الزمان والمكان لابد أن تؤثر في تفاصيل الترتيبات الزمانية والمكانية في التطبيقات لتحقيق المصالح التي تتوخاها الرسالة، والنظر إلى الترتيبات الزمانية والمكانية، خاصة في السنة النبوية وفي التراث الشرعي فيما قصد به توجيه المجتمع في زمان ومكان بعينـه، في ظل ظروفه وإمكاناته وعاداته وتقاليده، فدون فهم هذه الظروف ودلالات الترتيبات المعينة الخاصة بها يكون النَظَر خَاطِئًا إذا ظننا أنه بني على  تجريد وإطلاق، أو أن نمد تطبيقات تلك الأزمنة بمحاكاة وتقليد خاطئ إلى ظروف زمانية ومكانية مغايرة لتلك الأزمنـة وظروفها.

ومما يعين فهمنا لهذه المبادئ المنهجية أننا نجد في تدرج الوحي من ناحية، وفي تنوع الخطاب النبوي في الزمان والمكان بحسب حال المخاطبين زماناً ومكاناً من ناحية أخرى، وفي اختلاف الأحكام والفتاوى وتعدد المذاهب بين أصحاب العلم والفتوى، استجابة لظروف الزمان والمكان، دليل واضح على مراعاة المنهج الإسلامي لهذه الأبعاد التشريعية الاجتماعيـة. ومن تلك الحالات التي تتعلق بما نحن بصدده  اختلاف مذاهب علماء السلف وفتاواهم وأحكامهم في شئون الأسرة، بسبب اختلاف الظروف والامكانات والتقاليد في الزمان الواحد كاختلاف المذهب المالكي في المدينة المنورة والجزيرة العربية – التي تشتد فيها الحساسيات القبلية والاعتداد بالأحساب والأنساب – عن المذهب الحنفي في العراق، مهد الحضارات الغابرة من بابل حتى فارس، والتي تركت آثارها الحضرية على مفاهيم العلاقات الاجتماعية وتنميـة القدرات الفردية لتنعكس هذه الفروقات والتقاليد الزمانية والمكانية على مفهوم المذهبين في شروط عقود النكاح في أمر الولاية والكفاءة. بل إن آثار الزمان والمكان على الأحكام والفتاوى لم تقف عند حدود المذاهب بل عكست ذاتها على المذهب الواحد ما بين بلد وآخر على ما هو معروف عن مذهب الإمام أحمد ابن إدريس الشافعي (ت 204هـ) في العراق وفي مصر.

بل إنّ بعض آيات القرآن الكريم نفسه يتأثر فهمها وإدراك معانيها بتغير الزمان والمكان وتوسع معارف الإنسان فيهتدي الإنسان إلى معان جديدة لم يكن له أن يعلمها أو تخطر له على بال قبل ذلك الأوان وحصول تلك المعارف، مما يؤيد قدسية الكتاب الكريم ليحتوي هديه الزمان والمكان[3] “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد”. فصلت: 53 .

ومن ذلك ما كُشِفَ وما يزال يُكْشَف عنه العلم من إعجاز القرآن ودقـة تعبيراته وخفايا هذه التعبيرات لتؤدي مهمتها في الهداية دون أن تجانف حقائق الخلق والسنن التي تتكشف بتوسع مدارك الإنسان وتغير الزمان والمكان كقضية تكوير الليل والنهار ودحى الأرض وما يستتبع ذلك من حقيقة كروية الأرض، شأنها شأن بقية النجوم والكواكب  وسواه لمن يحب تتبع قضايا إعجاز القرآن وتأويله على مر العصور ليتسع أداؤه وهديه لتوسع مدارك الإنسان، وليلبي حاجة الإنسان في كل زمان ومكان.

ولذلك فإنّ من الخطأ، الاكتفاء عند النظر في أمر تشريعات الأسرة  وترتيباتها  أو سواها من أمور التشريع، أن نقتصر على التفسيرات والترتيبات التاريخية، لنستفتيها دون أن نلقي بالاً أو اِهْتِمَامًا  لما طرأ من التغيرات الزمانية والمكانية الهامـة التي  تنعكس  آثارها على الإمكانات والمفاهيم والأدوار في الحياة والمجتمع، وهذا لا يعني إهمال النظر في التراث وما سبق في تاريخ الاجتماع الإسلامي، من تشريعات وترتيبات وتطبيقات، ولكن المقصود هنا هو النظر في كل ذلك وفهمه جَيِّدًا في سياقه الزماني والمكاني لإدراك معاني تلك التجربة التاريخية، ولأخذ العظـة والعبرة منها، والعمل من جديد على تحقيق ذات الأهداف والغايات التي يقصد إليها هدى الوحي والرسالة.

وعلينا ونحن ننظر علمياً في واقعنا وظروفنا الزمانية والمكانية، وما طرأ على أحوال الأمـة من تغيرات، وما توفر لها من إمكانات، أن نتحلى بالنظرة العلمية الناقدة في أحوال الأمـة، وما تردت فيه وانتهت إليه، مما أخمد فيها مكامن الطاقـة، وقدرة المبادرة،وروح العزة والكرامـة، وأسلمها إلى الاستبداد والعسف والعجز والفقر والجهل والتخلف.

وإذا كنا بصدد النظر في موضوع “الضرب” وما يستتبعه من مشاعر المهانة والأذى البدني، فإننا بادئ ذي بدء، نعلم كقاعدة أساسية نفسية عامـة، أن الأذى والخوف والإرهاب النفسي أمور تورث السلبية والكره والانصراف، وأنّ الحب والتكريم والثقة أمور تولد الإيجابية والإقبال والبذل.  كما أننا نعلم أيضاً، أن الأمـة قد عانت وما تزال تعاني من ممارسات العسف والإذلال وثقافـة الوصاية والاستبداد، بحيث أنه في كثير من مجتمعاتنا لا يقتصر العسف والتسلط والاستبداد على زبانية السادة والحكام، بل أصبح ذلك جُزْءاً  من  ثقافـة الأمـة العامـة، نراه بين “المعلم” و “صبي المعلم” و “المدرس” و “التلميذ” و “الكبير”  و “الصغير” و “الرئيس” و “المرؤوس” و “الرجل” و “المرأة”  لتشمل في مجملها ودلالاتها الاجتماعية  “القوي” و “الضعيف”، كل قوي وضعيف في المجتمع، وذلك على عكس مفاهيم الإسلام في “الإخاء” والتضامن “كالبنيان يشد بعضه بعضاً”، و “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر البدن بالسهر والحمى”. حيث أن “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمـه وعرضه”. “ومن لا يرحم الناس لا يرحمـه الله”. “وإنما يرحم الله من عباده الرحماء”. وكيف كان على من ضرب “عبده” أو من ضرب “أمته” أن يعتق من ضرب. و “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء”. “وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم”. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً يخاطب من ضرب زوجته “يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحي”. و “لقد طاف بآل محمد نساء كثيرون يشتكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم”.  وكان خلق “القدوة” عليه أفضل الصلاة والسلام اليسر والرفق والرحمة “وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط ولا خادماً ولا ضرب شيئاً إلا أن يجاهـد في سبيل الله”.

بهذه المفاهيم العامـة ننظر إلى موضوع “الضرب” وموضعه من العلاقات الأسرية في “الزوجية” و “الأبوة” حتى نرى ما هو المفهوم الصحيح لهذا “الضرب”، وما هي الترتيبات الأسرية الإسلامية الصحيحة التي يقوم عليها بناء الأسرة الإسلامية بشكل عام وفي هذا العصر بوجه خاص والتي تحقق علاقات “المودة والرحمة” لكي تصبح الأسرة قوية متماسكة ولتكون المحضن الروحي والنفسي والوجداني الآمن للطفل المسلم لينشأ قوياً أميناً قادراً على الأداء المتميز ومواجهة تحديات العصر.

وتثور قضية “الضرب” في ترتيبات العلاقـة الأسرية والإنسانية بشكل حاد، وتأخذ مَوْقِعًا خَاصًّا حيث أنه وردت الإشارة إليها في نص قرآني، ولأن تأويلاتها التاريخية والتراثية انصرفت وانصرفت أفهام الناس وممارساتهم فيها إلى معاني اللطم  والصفع والصفق والجلد وما شابهه وما يستتبع ذلك من مشاعر الألم والمهانة، بغض النظر عن قدر المهانة ومدى هذا الألم أو الأذى البدني، الذي قد تتراوح الفتاوى فيه بين الضرب “بالسواك” وما شابهه، “كفرشاة الأسنان” و “قلم الرصاص”،  وذلك فيما روى عن عطاء عن ابن عباس رضى الله عنه حين سأله عن معنى “الضرب غير المبرح”،  فيكون “الضرب” هنا أقرب إلى التأنيب والتعبير عن عدم الرضا والغضب بين الأزواج، أكثر منه تَعْبِيرًا  عن معاني المهانة والأذى وفي الجانب الآخر نجد من  بعض الفتاوى ما يقول بالضرب بحد أقصى بما “دون الأربعين”، ولا قصاص بين الرجل وامرأته” إلا في الجرح والقتل”.[4]

 والنص القرآني الذي يتعرض لموضوع “الضرب”  هو الآية الرابعة والثلاثون من سورة النساء في قول الله سبحانه وتعالى: “الرجال قوامون[5] على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً “. النساء: 34-35 .

ولفهم هذه الآيـة لابد لنا من وضعها في إطارها العام من نظام الأسرة حتى يمكننا حسن فهم دلالتها بما يوفق الله إليه في إطار مقاصد الدين والشريعة، فالله سبحانه وتعالى يقول أيضاً في كتابه العزيز: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا  ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيباً”. النساء: 1.  “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”. الروم: 21. “وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا إن الله بكل شيء عليم”. البقرة: 231. “يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً” الأحزاب: 49. “الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون”. البقرة: 229.

فإذا نظرنا إلى مجمل هذه الآيات وفي ضوء مجمل الشريعة وفي ضوء القدوة النبوية نجد أن جوهر العلاقـة الزوجيـة هو مشاعر “المودة” ورفق  “الرحمة” وواجب  “الرعاية”، ويظل حاكم العلاقـة الزوجية دائماً هو “المودة والرحمة والإحسان”.

لذلك يصبح من المفهوم لدينا  لماذا  يثور  التساؤل عن معنى “الضرب” بمعنى الإيلام والمهانة وعن موقع ذلك من مفهوم العلاقـة الإسلامية  الزوجيـة وبالذات في ترتيبات تمكين الألفة والمحبة بين الأزواج وحل خلافاتهم، خاصة حين يؤخذ في الحسبان واقع العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم المعاصر وما يتعرض له بعض النساء من ممارسات التسلط والقسوة المادية والمعنوية،  وبسبب بعض ما يردد اعتسافاً  من منطوق  الفتاوى التراثية التي تبالغ في إطلاق سلطة الرجل في إدارة شئون أسرته باعتباره رأس الأسرة متجاهلين أنّ  مؤسسة الأسرة يجب أن تقوم على التواد والتكامل والتعاون والتكافل، ولا يصح أن يساء فهم دلالات النصوص وأن تستغل لكي تصبح المرأة والأسرة أشبه بالقطيع المملوك.

  وإذا كانت آفاق العصور السالفة وإمكاناتها قد حدت من إمكانات المرأة ومن دورها فيما وراء محيط الأسرة، وألقت على عاتق الرجل كثيراً من المسئوليات وأوكلت إليه، خاصة في الحضر، قدراً كبيراً من السلطات في إدارة شئون الأسرة لأن الطاقـة العضلية كانت العامل الأهم في توفير سبل الرزق وتوفير الأمن والحماية لأفراد الأسرة، ولأن حاجات المنزل والأسرة كانت تستغرق جل طاقـة المرأة في خدمـة دارها وزوجها وأبنائها، فتضعف حيلتها وتحد من إدراكها وتقعد بها عما وراء عالم أسرتها، فلم يستوحش المجتمع كثيراً سلطوية الرجل في علاقات الأسرة، إلا أنّ الأمر في عالم اليوم يختلف وذلك بما توفر من الوسائل والقدرات واتساع آفاق المعارف مما أفسح للمرأة مجالاً إنتاجياً واسعاً، وإمكانات اقتصادية استقلالية، وقدرة معرفية وتقنية كبيرة فيما وراء عالم أسرتها الصغيرة، مما لم تعد معه الصور التاريخية قادرة على احتواء أدوار أفراد الأسرة والتعبير عن واقعهم وإمكاناتهم، ولذلك لابد من إعادة النظر في فهم واقع العلاقات الأسرية في ظروف العصر حتى لا يستمر التوتر والتدهور، وحتى يمكّن في نفوس أعضاء الأسرة المفاهيم التي تعين كل عضو من أعضاء الأسرة على أداء دوره البناء المتكامل مع بقية أعضاء الأسرة.

ومن الإشكالات التي برزت أمامي في هذا البحث حين اصرف معنى كلمـة: “الضرب” في السياق القرآني إلى معنى الإيلام والأذى الجسماني  والمهانة النفسية، بغض النظر عن مدى هذا الأذى والإيلام، وذلك كوسيلة من وسائل التعامل بين البالغين، وكوسيلة من وسائل إخضاع المرأة لرغبات زوجها، وحملها على طاعته ومعاشرته، أجد أنّ ذلك أمر لا يكون ممكناً إلا إذا كانت المرأة المسلمة، كما كان في بعض الديانات والثقافات، لا مخرج لها من العلاقـة الزوجية، ولا سبيل لها إلى الفكاك والطلاق على غير رغبة زوجها، ولذلك يمكن قهرها وإخضاعها لرغبات زوجها وعشرته على غير رضاها ورغبتها،  وفي هذه الحالة فقط يمكن أن يكون “الضرب”  والألم والأذى الجسدي أو المعنوي وسيلة من الوسائل الممكن اللجوء إليها لتحقيق تلك الغايـة.

 ولكننا نعلم علم اليقين أنّ هذا ليس هو الحال في الشريعة الإسلامية التي بنت الأسرة على “المودة” و “الرحمة” وحرصت على توفير كافـة الأسباب المؤدية إلى تماسك الأسرة وتضامنها وحفظ هويتها وهوية أفرادها وأنسابهم  وانتسابهم وانتمائهم، ولذلك  كانت عضوية مؤسسة الأسرة في الإسلام عضوية اختيارية، لا مجال فيها للقهر والتسلط والعسف، وكان فيها لكل من الزوجين حق مغادرة الأسرة وإنهاء العلاقـة الزوجية إذا لم يعد أي واحد منهما يرغب في البقاء فيها، ولا يحتمل أعباءها، لأن ذلك ولا شك أولى لكافة أفراد الأسرة من علاقة تقوم على البغض والكراهية والشقاق، فالزوج إذا كره العشرة له حق “الطلاق”  في الإسلام، والمرأة إذا كرهت العشرة لها حق “الخلع”  في الإسلام وذلك برد ما أخذت من المهر أو دونه بالتراضي بين الزوجين، وذلك حتى لا يكون المال من قبل المرأة أو قرابتها والطمع فيه سبب في تفكك الأسرة.[6]

  وهكذا فلا يمكن  أن يكون القهر و “الضرب” وسيلة  مقصودة  لإرغام المرأة على غير إرادتها ورغبتها على المعاشرة، كما أن “الضرب” على أي حال من الأحوال ليس وسيلة مناسبة لإشاعة روح المودة بين الزوجين، وليس وسيلة مناسبة لكسب ولاء أطراف العلاقـات الحميمة وثقتها.

وإذا نظرنا إلى الترتيبات التي وردت في الآية الكريمـة من سورة النساء السابق ذكرها، والتي هدفت لإصلاح ذات البين بين الزوجين حين تطل من الزوجة  روح النشوز والتمرد والعصيان، ورفض العشرة الزوجية، نجد هذه الترتيبات على شقين:

 الشق الأول: يتعلق بحل إشكال النشوز والخلاف بين الزوجين، ودون تدخل من طرف ثالث ويتم ذلك على ثلاث خطوات هي:

 عظوهن

أهجروهن في المضاجع

اضربوهن

 والشق الثاني: حين يفشل الزوج داخل نطاق الأسرة ودون تدخل طرف أجنبي في حل الخلاف واستعادة روح الوئام وعودة الزوجـة إلى كنف زوجها وطاعته فيما هو من خاصة علاقاتهم الزوجية، فإنّ على الزوجين أن يلجئا إلى خاصة أهلهم للنظر فيما بينهم من شقاق وأسباب ذلك الشقاق ودواعيه للحكم في الأمر ونصحهم وإرشادهم وعونهم على لم شملهم وإصلاح ذات بينهم (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إِصْلاحًا يوفق الله بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً). النساء: 35.

وهكذا فإنّ من الواضح أنّ الترتيبات القرآنية هدفت في كل الأحوال إلى إصلاح ذات البين بين الزوجين وإعانتهما على الإصلاح على أسس نفسية وبخطوات وغايات إيجابية، ولذلك أمر القرآن الزوج حين تبدي الزوجـة النفور والعصيان أن يجلس إليها ويوضح لها ويعظها ويعاتبها وفي ذلك إقبال من الزوج وحرص منه على العلاقة وإصلاح ذات البين، وتوضيحاً  للأمر وما يجده في نفسه وما هو من شأن اختلاف طبعـه عن طبعها، وما يرتب ذلك من حقوق له عليها مما قد لا تكون المرأة على علم به، ولا تدرك أبعاده.

 وهكذا يكون الحديث والحوار والتذكير هو الخطوة الأولى في حل ما قد يثور من خلاف بين الأزواج قد تسئ المرأة فيه استعمال سلاحها الأنثوي ضد الرجل وضعفه الجنسي تجاهها. فإذا لم تصغ الزوجـة إلى حديث زوجها وتبصيره ووعظه جهالة أو دلالاً فيصبح من الضروري أن يلجأ الزوج إلى مرحلة ابعد وأن ينتقل إلى الفعل بعد النصح والقول وذلك “بالهجر في المضجع”، ذلك أن المرأة تعلم ضعف الرجل في حاجته إليها وقلة صبره على إعراضها، فإذا رأت منه عزوفاً عن فراشها، وهجراً لمضجعه، أدركت بغريزتها خطورة الأمر وجديته، وكثيراً ما تعود المرأة عن لعبة “الإعراض” و “المغايظة” وتدرك أن علاقتهما في خطر حقيقي قد تحطمها “المغايظة” و “العناد”، فترجع وتؤوب إلى رشدها، وتعود بين الزوجين روابط المودة والتراحم.  أما إذا بقيت الزوجـة على حالها من الإعراض والنفور فإنّ الأمر ولاشك  قد أصبح في مرحلة حرجـة، ينذر بالخطر الذي قد يدمر الحياة الزوجية ويقضي عليها بقصد أو بدون قصد، ولا يمكن أن تستمر الحياة الزوجية على تلك الحال، وعلى كلا الطرفين  أن يدركا عواقب الحال التي بلغته حياتهم الأسرية وما ستنتهي إليه من الانهيار.

ويأتي السؤال هنا ما الذي يمكن فعله مما يؤدي بالزوجين إلى إدراك خطورة الأمر وتدبر العواقب قبل أن يخرج النزاع بين الزوجين عن نطاق  الزوجية وخصوصية علاقتها، ليطرح النزاع والشقاق أمام طرف ثالث: “حكم من أهله وحكم من أهلها”  لكي ينظر طرف الأهل الثالث فيما شجر من الأمر بين الزوجين، وينصح لهما بما يصلح الحال إن شاءآ، أو يكون بينهما فراق  بالمعروف والإحسان.

 وهكذا فإنّ الخطوة التالية في خطوات حل النزاع والشقاق بين الزوجين داخل نطاق الأسـرة هو “الضرب”: ( واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا). النساء: 34. وهو ما يعنينا هنا فهمـه ودلالاته ضمن إطار إصلاح ذات البين بين الزوجين حين يدب النزاع والشقاق بينهما وترفض الزوجـة عشرة زوجها وتعصيه رغم “الوعظ” وإبداء الغضب من قبل الزوج “بهجر المضجع”.

 والسؤال ما معنى “الضرب” هنا؟!  هل هو اللطم أو الصفع أو الجلد أو سوى ذلك  من ألوان الضرب المؤدي إلى الألم والأذى الجسدي والمهانة النفسـية والذي يهدف إلى قهر المرأة، وإخضاعها للمعاشرة كرهاً منها، وعلى غير رغبتها؟!  وإذا كان الأمر كذلك فما هي الغايـة من ذلك الإخضاع؟!  وهل مثل هذا القهر والإخضاع بوسائل الألم والمهانة يعين نفسياً  على توليد مشاعر المحبة والرحمة بين الأزواج، ويحكم صلات الولاء والانتماء بينهما، ويقوي دوافع العفة وحفظ الغيب، ويحمي كيان الأسرة من الانهيار والتفكك؟!

هل “الضرب” بمعنى اللطم والألم والأذى الجسدي والنفسي من الوسائل التي تقوي عوامل رغبة المرأة في البقاء في الأسرة والحفاظ عليها؟!  وهل يمكن لهذا  “الضرب” أن يقهر المرأة المسلمة المدركـة لحقوقها وكرامتها الإنسانية كما تشيعها ثقافـة العصر، أو أن يرغمها ذلك على البقاء في أسر الزوج وعسفه وكريه عشرته، وهو لا يتورع أن ينالها بالضرب والمهانـة، أم أن لها في الإسلام  مُخْرِجًا  مُيَسَّرًا  من هذا الأسر، بالخلع والمفارقة.

 فإذا لم يكن “الضرب”  بمعنى الأذى والإيلام الجسدي والمعنوي – والذي يتخذ بعض الرجال الإشارة  اللفظية القرآنية إليه مبرراً  وتعلةً  للجوء إليه في قسوة ضد المرأة استغلالاً للظروف التي قد تجبر بعض النساء على الصبر بسبب الحاجـة المادية أو الخوف على الأبناء – مما يعتبر وسـيلة إيجابية تتسق والدوافع القرآنية  في بناء الأسرة وعلاقاتها الصحيحة، وتؤدي إلى كسب ولاء المرأة ومحبتها وحرصها على البقاء ضمن كيان الأسرة والعلاقـة الأسرية، فهل المعنى المقصود  في القرآن الكريم فعلاً بكلمة “الضرب” هو إعطاء الرجل “حـق” ضرب المرأة بمعنى الإيلام والأذى الجسدي والإهانة لكي تخضع المرأة  للرجل، وتنقاد على كره منها لرغباتـه؟![7]

إذا كان للمرأة حـق “الخلع” فلا شك أنّ “الضرب” و الإيلام والمهانة لا مجال له في العلاقـة الزوجية وقهر المعاشرة بل إنه  يضعف الروابط الأسرية ويدفعها ويسرع بها إلى التفكك والانهيار، ولذلك فإنّه من الضروري النظر في الأمر بعمق وإدراك دلالاته وأبعاده الحقيقية قبل القول بأنّ ذلك هو المقصود من “كلمة الضرب” على أي صورة من الصور.

 فإذا نظرنا إلى طبيعة الترتيبات القرآنية حين تحدثت عن “الضرب”  فإننا  نجدها تهدف إلى أنّ تدفع بجهود الصلح والتقارب بين الزوجين خطوة أخرى لإزالة الشقاق بأفضل السبل التي تعيد أواصر المحبة والود والتواصل الحميم بين الزوجين قبل أن يضطرا  إلى عرض نزاعهما على طرف أجنبي عن العلاقـة الزوجية من الأهل طَلَبًا لإصلاح ذات البين وحل النزاع بالحسنى، إما بالوفاق أو الفراق.

فإذا كان  لا يبدو أن للعنف والأذى والقهر مجالاً في العلاقة الزوجية وحل إشكالاتها، فما هو القصد إذاً من تعبير “الضرب”  في السياق القرآني بصدد إزالة أسباب الشقاق الزوجي وحل خلافاتـه؟!  هل هو معنى حقيقي مباشر بمعنى الإيلام  أم هو معنى مجازي آخر كما هو شأن القران في مواقع عديدة استخدم فيها لفظ “الضرب”  متعديا و غير متعد أي انه استخدم بشكل متعد (مباشر) في مثل قوله تعالى ” ضرب الله مثلا” النمل:76 ، أو أضيف إليه حرف من حروف التعدية (غير مباشر) في مثل قوله تعالى “و إذا ضربتم في الأرض” النساء:101 .

إذا أخذنا بتأويل ابن عباس رضى الله عنه أنّ القصد “بالضرب غير المبرح” هنا هو المس بـ “السواك” فهذا في الحقيقـة ليس من باب “الضرب”  بمعنى العقاب والأذى أو الإيلام البدني والنفسي، ولكنه يأتي بمعنى التعبير المادي بالحركة و “المس” بالسواك أو ما شابهه تعبيراً  عن الجدية وعـدم الرضا، وعن الغضب والإعراض عن الزوجة وإبعادها عن نفس الزوج الهاجر في الفراش، وهو عكس المس باليد الذي يعني عادة التعبير عن المحبة والتدليل، وهذا الفهم وهذا التأويل الجميل لا بأس بـه، ولا هدم فيه لعلاقات الكرامـة والاحترام الواجب بين الزوجين الذين تربطهم روابط الألفة والعُشرة، كما أن هذا الفهم ليس فيه موضع “للضرب” بمعنى الأذى والألم والإهانة والقهر على عكس ما قال به بعض الفقهاء من الضرب  “بما دون العشرين (ضربة) أو بما دون الأربعين” من الضربات، بغض النظر عن التفاصيل، تفرقت في أجزاء الجسم أو لم تتفرق، وجرحت جسماً أم لم تجرح، وكسرت عظماً أم لم تكسر، ونجت المرأة من الضرب بحياتها أم لم تنج!![8]

ورغم تلطف هذا التأويل إلا أنه يظل يترك ظلالاً وإشارات وتعلات وثغرات سمحت في الماضي – ولن يتورع كثير من الناس مستقبلاً كما في الماضي – من استغلالها وإساءة فهمها واتخاذها ذريعـة إلى الأذى والضرر واللجوء باسم الدين وفتاوى بعض المفتين إلى  “الضرب” واللطم والصفع  والجلد وما شابه ذلك من وسائل الأذى البالغ والإهانة، ولهذا يجب أن يكون الفهم والحل مما  لا يترك مجالاً يساعد على إساءة الحق، ولا يترك الباب موارباً لسوء التصرف وسوء التقدير، فإنّ ذلك   أولى وأجدر بمقاصد الشريعة في بناء الأسرة على قواعد المودة والرحمة والكرامـة.

ولذلك أخذت من جانبي أدقق النظر في الأمر في إطاره المنهجي الذي سبق إن عرضته في صدر هذا البحث من أزلية الرسالة والشريعة، ووجوب فهم السنن الإلهية المتعلقة بها ومراعاة خصوصيات الزمان والمكان، وضرورة شمولية النظرة والتحليل وانضباطهما، ولذلك رأيت أن أنظر في معاني كلمـة “الضرب” ومشتقاتها في القرآن الكريم، فالأولى أن يُفسّـر القرآن بالقرآن وخير تفسير القرآن ما كان تفسيره بالقرآن، وضَبَطتْه مقاصد الشريعة ومبادئها العامـة.

وقد أُحصيت وجوه المعاني التي جاء فيها لفظ “الضرب” ومشتقاته في القرآن الكريم فوجدتها على سبعة عشر وجهاً كما يلي:

 

 

النمل 76

 وضرب الله مثلاُ )وقد تعدد هذا التعبير في أماكن كثيرة في القرآن الكريم)

النساء 101

وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة

الكهف 11

فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا

الزخرف 5

أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين

الرعد 17

وكذلك يضرب الله الحق والباطل

النور31

وليضربن بخمرهن على جيوبهن

طه 77

إن أسر بعبادي فأضرب لهم طريقاً في البحر

البقرة 61

وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله

الأنفال12

فأضربوا فوق الأعناق وأضربوا منهم كل بنان

ص 44

وخذ بيدك ضغثا فأضرب به ولا تحنث[9]

محمد 4

فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب

الحديد 13

فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب

البقرة 61

وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله

النور 31

ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن

محمد 27

فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم

البقرة 60

فقلنا اضرب بعصاك الحجر

الصافات93

فراغ عليهم ضرباً باليمين

 

 

  فإذا أمعنا النظر في كافـة الآيات السابقة نجد جملة معاني فعل ضرب بصيغتة المتعدية المباشرة و غير المتعدية هي استخدامات مجازية فيها معنى العزل والمفارقة والإبعاد والترك، فالشيء يُضْرب مثلاً أي يستخلص ويميز حتى يصبح جلياً واضحاً، والضرب في الأرض هو السفر والمفارقة، والضرب على الأذن هو منعها عن السماع، وضرب الصفح عن الذكر هو الإبعاد والإهمال والترك، وضرب الحق والباطل تمييزهم وتجليتهم مثلاً، وضرب الخُمُرِ على الجيوب هو ستر الصدر ومنعه عن الرؤيـة، وضرب الطريق في البحر شقه ودفع الماء جانباً، والضرب بالسور بينهم عزلهم ومنعهم عن بعضهم البعض، وضرب الذل والمسكنة عليهم نزولها بهم وتخييمها عليهم وصبغهم وتمييزهم  بين الناس بها، وضرب الأعناق والبنان بتره وفصله وإبعاده عن الجسد، أما باقي ما ورد من كلمـة “الضرب”  ومشتقاتها فيما سبق من ضرب الأرجل وضرب الوجوه وضرب الحجر وضرب الضغث  وضرب الأصنام باليمين، فهي بمعنى الدفع بقوة والخبط واللطم ضد جسد الشيء أرضاً أو وجها أو حجراً إو انساناً أو صنماً  لإحداث الأثر بإحداث الصوت أو الإيلام والمهانة أو تفجير الحجر (لإخراج الماء) أو تحطيم (الأصنام).

وهكذا فإنّ عامـة معاني كلمة “الضرب” في السياق القرآني هي بمعنى العزل والمفارقة والإبعاد والدفع[10] فما هو المعنى المناسب لكلمـة “الضرب” في سياق فض النزاع بين الزوجين واستعادة روح المودة والتواصل بين الزوجين في قول الله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وأهجروهن في المضاجع وأضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليّاً كبيراً، و إن خفتم شقاق بينهما فابعثوا  حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا صلحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً) النساء: 34-35.

إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة السياق وطبيعـة الحال والغاية من الترتيبات في الإصلاح والتوفيق، وإذا أخذنا في الاعتبار قيم الإسلام في تكريم الإنسان وحفظ كرامته وحقه في تقرير مصيره، وإذا أخذنا في الاعتبار طبيعة العلاقة الزوجية الاختيارية، وإمكان طرفي العلاقة الزوجية في إنهائها إذا لم يقتنعا بها، ولم يرع أحد منهما حقوق الآخر فيها، وأنه لا مجال لإرغام أي طرف منهما أو قهره عليها، أدركنا أن المعنى المقصود من “الضرب” لا يمكن أن يكون الإيلام والمهانة، وأن الأولى هو المعنى الأعم الذي انتظم عامة معاني كلمـة “الضرب” في السياق القرآني هو البعد والترك والمفارقة، وذلك أن بُعد الزوج عن الزوجة وهجرها، وهجر دارها كلية  من طبيعة الترتيبات المطلوبة لترشيد العلاقة الزوجية، ولأنّ ذلك هو خطوة أبعد من مجرد الهجر في المضجع لأنّ  مفارقـة الزوج وترك منزل الزوجية، والبُعد الكامل عنها وعن دارها، يضع المرأة وبشكل مجسد محسوس أمام آثار التمرد والعصيان والصراع مع الزوج وهو الفراق و”الطلاق”، وهذه الخطوة المحسوسة الملموسة تعطي المرأة الفرصة الكاملة أن ترى وتحس وتتمعن في آثار نشوزها ونتائج  سلوكها وعصيانها وهو الفراق و”الطلاق”، وهل ذلك ما تقصده بالفعل من سلوكها وهل حسبت كامل آثاره ونتائجه، أم أنها نزوة جهالة وعناد، عليها أن تعود عنها إلى رشدها وتعيد زوجها إلى دارها قبل فوات الأوان.

فـ “ضرب” المرأة في بيتها معناه الأولي والأجدر في سياق ترشيد العلاقة الزوجية – ووضع أطرافها أمام مسئولياتهم، والعودة عن الشقاق والنزاع غير المقصود – هو “الترك والمفارقة والاعتزال”، أي ترك منزل الزوجية ومفارقة دار المرأة واعتزالها، وذلك كخطوة أبعد، ودرس للمرأة أعمق وأبلغ، كآخر خطوة ممكنة في أي جهد ذاتي يبذل بين الأزواج، لرأب الصدع، ولم الشمل، تتبين فيه أطراف العلاقة، الآثار الخطيرة، المترتبة على العصيان  والتمرد والشقاق، في انفراط عقد الأسرة وانهيارها، ولا يكون بعد خطوة ترك منزل الزوجية، إن بقي للود موضع، إلا التحكيم ومساعدة طرف ثالث من أهل الزوجة والزوج، على إدارة الحوار وامتحان أسباب النفرة والنزاع، واقتراح الحلول وترشيد الأطراف، لوضع حد لتلك النفرة، فلا يتطور الأمر إلى صراع وشقاق وتظالم، ولينهي الشقاق بين الزوجين، إما بالإصلاح أو الفراق والطلاق (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) البقرة: 229.

وهذا الفهم لمعنى “الضرب” بمعنى المفارقة والترك والاعتزال  تؤكده السنة النبوية الفعلية حين فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت زوجاته حين نشب بينه وبينهن الخلاف ولم يتعظن  وأصررن على عصيانهن وتمردهن رغبة في شيء من رغد العيش، فلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى “المشربة” شهراً كاملاً تاركاً ومفارقاً لزوجاته ومنازلهن، مخيراً إياهن بعدها بين طاعته والرضى بالعيش معه على ما يرتضيه من العيش وإلا انصرف عنهن وطلقهن في إحسان ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) التحريم: 5.[11] وهو عليه أفضل الصلاة والسلام لم  يتعرض لأي واحدة منهن خلال ذلك بأي لون من ألوان الأذى الجسدي أو اللطم أو المهانة بأي صورة من الصور، ولو كان الضرب بمعنى الأذى الجسدي والنفسي أمراً  إلهياً، ودواء ناجعاً  لكان عليه السلام أول من يبادر إليه ويفعل ويطيع. و لكنه عليه الصلاة و السلام لم يضرب ولم يامر بالضرب ولم ياذن و لم يسمح بالضرب و قد اراد أبوبكر و عمر رضى الله عنهما ضرب بناتهم اللاتى اغضبن رسول الله الله صلى الله عليه وسلم و نازعنه. و نحن نعلم أن سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم و سنته الفعلية هي الفهم و البيان الاولى في فهم القران الكريم، و قد اثمر السلوك النبوى اثره فعلاً في توضيح الاثار المترتبة على استمرار النزاع و وضع حداً له، وهكذا حين رأت الزوجات جد الأمر وغضب أهليهن وقد افتقدن العشرة النبوية الرضية، كان ذلك كافياً  ليعدن إلى صوابهن و يرجعن عن نشوزهن، ويدخلن في طاعتـه والقناعة بالعيش إلى جانبه على ما يحب ويرضى.[12]

وهكذا فقد لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصّرت  زوجاته على عصيانه إلى مفارقة منازلهن واعتزالهن لمدة شهر ليدركن النتائج المترتبة على العصيان والتمرد دون أن يلجأ إلى  أي شيء من اللطم أو الإهانة، فهجر منازل زوجاته واعتزلهن لمدة  شهر  قبل أن يعلم أهليهن بالأمر، وأن يخيرن في الأمر بين الطاعـة وبين الفراق، فأدركن جد الأمر، وخبرن آثار الفراق، فعدن إلى صوابهن، فيكون معنى “الضرب” في السنة الفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم هو المفارقة والترك والاعتزال، وهو ما يتسق وطبيعة الأمر النفسـية من ناحية ومع الروح العامـة لاستعمال اللفظ “ضرب” ومشتقاته مجازا  في القرآن الكريم ، ولا يتعارض مع تأويل ابن عباس رضي الله عنه في نصح الزوج أن لا يتعدى تعبيره عن عدم الرضاء والغضب على اى حال من الاحوال أكثر من اللمس بالسواك وما شابهه لما قد يكون فيه من معنى الغضب ولكن ليس من الواضح كيف يكون مثل هذا اللمس  في هذه المرحلة المتقدمـة من النزاع كاف لإظهار مزيد من جدية الموقف وآثاره الوخيمـة، ونقله إلى مرحلة أبعد وأكثر فعالية مما سبق من خطوة “هجر المضجع” باتجاه الحل بالوفاق أو الفراق.

ولذلك فإنني أرى أن المعنى المقصود بـ “الضرب”  في السياق القرآني بشأن ترتيبات إصلاح العلاقـة الزوجية إذا أصابها عطب ونفرة وعصيان هو مفارقة الزوج زوجته وترك دار الزوجية، والبعد الكامل عن الدار كوسيلة أخيرة لتمكين الزوجـة من إدراك مآل سلوك النفرة والنشوز والتقصير في حقوق الزوجية ليوضح لها أن ذلك  لابد أن ينتهي إلى الفراق  و “الطلاق”  وكل ما يترتب عليه من آثار خطيرة خاصة لو كان هناك بينهما أطفال.  إنّ معنى الترك والمفارقة أولى هنا من معنى “الضرب” بمعنى الإيلام والأذى الجسدي والقهر والإذلال النفسي لأن ذلك ليس من طبيعـة العلاقـة الزوجية الكريمة ولا من طبيعة علاقـة الكرامة الإنسانية، وليس  سبيلاً مفهوماً إلى تحقيق المودة والرحمة والولاء بين الأزواج خاصة في هذا العصر وثقافته ومداركه وإمكاناته ومداخل نفوس شبابه، ولأنّ هذا المعنى كما رأينا  تؤيده السنة النبوية الفعلية كوسـيلة نفسـية فعّالـة لتحقيق أهداف الإسلام ومقاصده في بناء الأسرة على المودة والرحمة والعفة والأمن،  ومحضناً أميناً على تربية النشء روحياً ونفسياً ووجدانياً ومعرفياً على أفضل الوجوه لتحقيق السعادة وحمل الرسالة.

 لا شك أن كثيراً من مفاهيم الأمة اليوم قد جانبها الصواب بسبب ما علق بفكر الأمة من غابر موروثات ثقافاتها وفلسفاتها وتقاليدها وبسبب ما نشب بين فرقها وعصبياتها من صراعات، غامت بها الرؤية، وبلغت بالأمة الى ما هي عليه اليوم من حال.

 وإذا علمنا ايضاً أن الرؤية الفكرية ومفاهيمها تتأثر بالسقف المعرفي المتاح زماناً ومكاناً في عملية ادراكها لمعاني الوحي وغاياته ومدلولاته في شئون الحياة، لذلك فان على طلبة العلم والمعرفة مواصلة النظر والاجتهاد في شئون الشريعة في سعيٍ دؤوبٍ مستمرٍ لتحرير المفاهيم وتوضيح الرؤية لكشف اسرارها وادراك دلالاتها المعرفية المتجددة في واقع متغيرات الحياة والكون، وذلك حتى يتحقق بشكل حى متجدد، جوهر غايات الرسالة ومقاصد الشريعة.

إن ما ذهبنا اليه في هذا البحث، وكثير من القضايا مثله، هو – في حسباننا – مما يتسع له جهد  التفكير والاجتهاد، بل انه مما يجب على طلبة العلم والمعرفة – في ضوء السقف المعرفي المتاح وفي ضوء الظروف والأحوال والمتغيرات المستجدة – ان يواصلوا البحث والدرس والاجتهاد في مثل هذه القضايا حتى يتحقق في عالم العصر غايات الوحى ومقاصد الشريعة. 

 أسأل الله السداد والرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح.  وآخر دعوانا أنّ الحمد لله رب العالمين.

 


[1] ارجع إلى: عبد الحميد أبو سليمان: “ظاهرية ابن حزم وإعجاز الرسالة المحمدية: مجلة  “التجديد” تصدر عن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا،  السنة الثانية، العدد الثالث، فبراير 1998م.

[2] أنظر كتاب: “النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية”، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية. وترجمه إلى العربية الأستاذ الدكتور ناصر البريك – الرياض – المملكة العربية السعودية 1993م.

[3] أنظر للمؤلف كتاب: “النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية”، مرجع سابق في تفسير قوله تعالى: “يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون..” ص161-169 أو الأصل باللغة الإنجليزية ص 69 – 75. .

[4]  أنظر : “جامع البيان في تفسير القرآن”  لأبي جعفر محمد حرير الطبري (ت 310هـ) وبهامشه “تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان” لنظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري في تفسير قوله تعالى: “وأضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً”. طبعه دار لبنان – بيروت – المجلد 4 الجزء 5، الصفحة 40-44 .

[5] قام الرجل على المرأة أي “مانها” بمعنى احتمل مؤونتها (تهذيب لسان العرب لابن منظور) “قوام أهل بيته” أي الذي يقيم شأنهم (مختار الصحاح). “القيم سائس الأمر” (المعجم الوسيط). القوام ج قوامون أي المتكفل بالأمر، والقوي على القيام بالأمر (المنحد في اللغة والإعلام 1997م).  

فاذا كانت القوامة هي احتمال المؤونة، واصلاح الشأن والقيام على الأمر والتكفل به، فان من المهم إدراك أن قيام الرجل بشأن اهله وولده واسرته هو دور هام واساسي لكفالة شأن الأسرة وعون المرأة الأم على أداء دورها وتنشأة أبنائها فكان ذلك )مساعدة المرأة الأم وطفلها( من اهم اسباب منح الخالق سبحانه وتعالى الرجل القدرة على العمل والتفرغ له، ولذلك أسند دور القيادة للرجل والزم به، وقد نظمت الأسرة ودور الرجل (الأب الذكر) والمرأة (الأم الأنثى) فيها بما يضمن ولاء الرجل للأسرة والأم والطفل وانتمائهم اليه بما يضمن فطريا قيام الرجل بالدور في حماس واخلاص وتضحية، والبديل هو تحطيم مؤسسة الأسرة وانحلالها وما يعنى ذلك من مشقة بالغة على الأمومة والطفل، وما تلقاه المرأة والطفل من معاناة نفسية ومادية تهدد رفاهيتهم وامنهم، وتمزق هوية الطفل وانتمائه الانساني، على ما نشاهده في المجتمعات التي تفككت فيها الأسرة  وشاع فيها أمر الأسر التى تفتقد الأباء وادوارهم، واصبح أبناء هذه الأسر في قاع السلم الاجتماعي وباتوا مرتعا للانحراف والجريمة والفساد، ولكن من الخطأ الشائع سحب أدوار الذكورة والانوثة في مؤسسة الأسرة آليا على سواها من الأدوار في وجوه الحياة والمؤسسات الأخرى التى تحدد الأدوار فيها القدرات الفردية لكل رجل وكل امرأة بعينيهما، وما تتطلبه تلك الأدوار من القدرات والمهارات والقدرة على أداء الدور بكفاءة بغض النظر  عن جنس القائم بالدور ذكرا كان أو أنثى، ولكن من المهم ايضا ملاحظة أن أداء المرأة لاي ادوار أخرى الى جانب دور الأمومة الذي هو الأصل الانساني في كيانها الذي لا تستغني عنه ولا غنى عنه عاطفيا وحيويا لبقاء المجتمع، يجب أن ينسجم مع حاجات أمومة المرأة ودورها ولا يضحي به ولا بأولويته في حياة المجتمع الذي يجب أن يوفر له كل أسباب التمكين والازدهار.   

[6]  من المهم  ملاحظة أنه و ان لم تتعرض آية الخلع “فلا جناح عليهما فيما افتدت به” لمقدار الفدية إلا أن الحكم النبوي قد قرر حدها الأعلى لحكمة بالغة بمقدار المهر  الذي قدمه الزوج أو ما يكافئه “أتردين عليه حديقته…” لا زيادة، لأن السماح بالزيادة قد يؤدي هو أيضا أن يكون المال دافع تفكك الأسرة بأن يعمل الزوج على مضايقة زوجته و اذاها ليبتزها و يدفعها إلى طلب الخلع طمعاً لما عندها  لتفتدي نفسها و لذلك كانت حكمة الفدية في حدود المهر حتى لا يكون المال سببا لدى  الزوجة أو الزوج لتفكك الأسرة  سوا ءً بسواء. و اي حكم باي تعويض مالي للزوج اكثر مما دفعه مهرا يجب أن يكون له أسبابه المحددة المبررة غير عدم رغبة الزوجة في عشرة الزوج مما يحق للزوج التعويض عنه، يستوى في ذلك الزوج و الزوجة في كل الأحوال.

[7] روى ابن كثير في تفسير “آية القوامة” من سورة النساء عن الحسن البصري أنّ سبب نزولها أنّه “جاءت امرأة  إلى النبي صلى الله عليه و سلم تشكو أنّ زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “القصاص”، فأنزل الله عز وجلّ (الرجال قوامون على النساء) فرجعت بغير قصاص. وفي رواية أخرى “أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خيراً”. ولو صحّ الحديث – لأنه يظن به الضعف ولم يتم العثور عليه في بحثنا لا في النسائي ولا في المعاجم ولا في المسانيد – ومع ذلك فإنّه لا يعطي مشروعية “اللطم” والضرب ولكنه يعني أنه إذا حدث “اللطم” والاعتداء البدني فإنّ العلاج في حالة الأسرة والزوجية ليس هو “القصاص”، لأنّ القصاص وما يتعلق به من شأنه التشهير وعلانية المهانة وليس ذلك هو العلاج ولا السبيل إلى إصلاح ما بين الأزواج ورعاية حق الأبناء، لأنّ مثل هذا العلاج في أغلب الأحوال قد يكون السبيل المؤكد إلى الفراق والطلاق. فالآية على كل الوجوه لا تعني إعطاء مشروعية “للطم” والأذى والألم والمهانة، فذلك أمر آخرً، وقد كان حس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر واضح الرفض والإنكار، وكل ما يمكن أن يفهم من الآية بالضرورة أنّه إذا حدث اعتداء من الزوج على الزوجة بشيء من “اللطم” فإنّ إصلاح ذات البين لا يكون بـ “القصاص”، لأنّ القصاص من الزوج مدعاة للفراق لا للوفاق. وما لميبلغ الضرر الحد الإجرامي فالأولى أنه إذا أصبح استمرار الحياة الزوجية غير ممكن،  وأن يكون  الفراق – بتدخل من القضاء، ت إن اقتضى الأمر أو بدونه – أن يتم ذلك بروح الإحسان وتواصل المودة ورعاية مصالح الأطراف المستقبلية، خاصة مصالح الأبناء.

[8]  أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن وهامشه تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن ابن محمد بن حسين القمى النيسابوري، مجلد 4، جزء 5، ص 40 -44. والحقيقة أنّ كلمة “الضرب غير المبرح” لم تأت كما جاء في سياق تفسير الطبري بصدد النشوز والنزاع بين الزوجين، ولكنها جاءت في سياق آخر يتعلق بـ “الفاحشة”  والكناية عنها “وطىء الفراش بمن تكرهونه” وهو موضوع آخر يتعلق بالامانة والكرامة الزوجية مما يصيب العلاقات الزوجية في صميمها بالعطب، خاصة أنه من الصعب على الأزواج  والأباء والأبناء الإعلان عن مثل هذه الأمور لما ينتج عنها من آثار اجتماعية مدمرة لا تقف عند حد الأزواج بل تتعداهم إلى أبائهم وأبنائهم وأهليهم، ولذلك فهي تستحق من علماء الاجتماع الشرعي النظر في وجوهها المختلفة  والوجوه الشرعية للتعامل معها في حالاتها المختلفة، ومن قبل الأطراف المعنية المختلفة، من الأقرباء ومن جهات السلطة العامة، وتحريرها بشكل شمولي يعين على الحفاظ على الأسرة وروابطها المقدسة ومصالح أطرافها وقيم العفاف والشرف فيها، ويوضح المقصود بالخطاب والمخاطب واساليب التأديب والتقويم في احوالها وظروفها المختلفة.

كما يجب ان نلاحظ ان ذكر  “الضرب غير المبرح” جاء في أحاديث حجة الوداع هذه، ومن المهم في فهم السياق وما قصد اليه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أن تتكامل روايات هذا الحديث وتستقيم على ضوء القرآن لاستدراك ما قد يكون أصاب الروايات من سقط أو خلل أو غفلة أو وهم.

والمهم في الأمر هو ما نلاحظه على جميع هذه الأحاديث التي وردت في مسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد، وتحدثت عن “الضرب غير المبرح” أنها تحدثت عنه إما في سياق صريح عن إتيان النساء بـ “فاحشة مبينة” أو بالكناية عن ذلك في “يوطئن فرشكم من تكرهونه” أو بالجمع بينهما.

واذا جمعنا كل هذه الروايات فان من اليسير ايضا ملاحظة أن بعض الاضافات في بعض روايات هذا الحديث (حديث حجة الوداع) تبدو وكانها اضافات توضيحية من قبل الرواة اختلطت بالاصل أو حلت محله، ومثل ذلك يجب التنبيه اليه بشأن الروايات السماعية وذلك حين تظهر مؤشرات توحي باختلاط الأصل بالشرح والتوضيح، ولعل هذا أوضح ما يكون في رواية الإمام أحمد (19774) حين زادت وتفردت عما اورده بقية الرواة الفاظاً وجملاً تبدو وكأنها شرح وربط بقضايا توهمها وتواردت الفاظها القرانية على خاطر أحد رواة سلسلة الحديث خاصة قوله “فان خفتم نشوزهن” فمن أشد دواعي الاستغراب ورود مثل تلك الألفاظ والجمل في خطاب عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ذلك في أي رواية أخرى من روايات هذا الحديث، ومع ذلك فأنه يجب ملاحظة أن هذه الرواية، مثل كل باقي روايات “حديث حجة الوداع” والتي تتحدث جميعها عن “وطىء الفراش”، لا تكرر الخطوات القرانية لنشوز الخلاف والعصيان المذكور في “اية القوامة” وهي “الوعظ والهجر في المضجع والضرب” بل انها تتحدث عن قضية اخرى لها بعد “تأديبي” وهو فيما اشارت اليه الروايات الأخرى “الفاحشة المبينة”، وذكرته هذه الرواية بالكناية، وهو “وطىء الفراش”، واقتصرت على البعد التأديبي وهو “الضرب” والذي وصف وحددت طبيعته في الحديث واجمعت عليه كل الروايات وهو “غير المبرح”،  اي تأديبي غير إنتقامي.   

[9]   “الضغث” هو  “الحزمة” و يذكر المفسرون أن المقصود به هو شمروخ النخل و ما به من الأغصان الرهيفة الكثيرة، أي أن الله الذي كرم بني ادم وجه نبيه أيوب الذي غضب من زوجته و هو يعاني صابراً من المرض أن يبر قسمه في ضرب زوجته مئة ضربة بأن “يهشها باغصان الشمروخ” المئة كناية عن “الضرب”. فابر قسم نبيه أيوب دون أن يرتكب أيوب خطئاً أو جرماً بان  يضرب زوجته لما إعتبره قد صدر عنها من تصرف خاطىء دون أن ينال الزوجة بالاذي و المهانة، كما نجى المؤمن المسلم اسماعيل إبن المؤمن المسلم ابراهيم من الذبح فصدّق رؤية ابراهيم دون أن يذبح ابنه بان فداه “بِذِبْحٍ عظيم”. الصافات:107.

[10]  يلاحظ أن القرآن الكريم لم يعبر بلفظ “الضرب” و لكن بلفظ “الجلد” (بفتح الجيم) حين قصد إلى “الضرب” بمعنى الأذى الجسدي بقصد العقاب و التأديب و ذلك في قوله تعالى “الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدة …”. النور:2  و ذلك من الجِلد (بكسر الجيم) لانه هو موضع الإحساس بالاذى و الألم و هو المقصود “بالضرب”.

[11]   لم يلجأ الرسول صلى الله عليه وسلم الى تحكيم طرف  ثالث في النزاع بينه وبين نسائه، ولا يمكن أن يفهم ذلك على أنه تجاهل من النبي صلى الله عليه وسلم للتوجيه القراني بالتحكيم إذا لم تتراجع الزوجة او الزوجات عن نشوزهن بعد استنفاذ كافة الخطوات التي وجه القران الكريم الأزواج الى الأخذ بها، بل ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلجأ اليه لانه لا يناسب مقام الرسالة.

فوعظ النساء وهجر مضاجعهن وترك دورهن مما يعينهن على مراجعة مواقفهن، اما التحكيم بين الأزواج، فان الغاية منه هو نظر طرف ثالث في النزاع وتحرير قضاياه والحكم فيه بتحديد وجوه الخطأ والصواب في موقف كل زوج من الأزواج وترشيدهم فيما شجر بينهم من نزاع، ومثل هذا لا يصح في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الرسول الذي ينزل يز عليه الوحي، وهو اعلم الناس بالحق ومؤيد في ذلك بالوحي، وقد جاء الوحي بالفعل مؤيدا لموقفه صلى الله عليه وسلم ومخيرا نساءه بين طاعته والرضى بعيشه او طلاقهن، وإذا جاء حكم الله فليس لإنسان ان يرده او ان يجادل فيه (عسى ربكم ان طلقكن ان يبدله ازواجا خيرا منكن) التحريم 5.

[12]  أنظر صحيح البخاري الحديث 5395 وصحيح مسلم الحديث رقم 2704 وسنن الترمذي الحديث 3240 ومسند أحمد الحديث رقم 24588 .