تم تصميم منصات التواصل الاجتماعي أساسًا لتعظيم التفاعل، لا لتعزيز الانسجام الاجتماعي. ورغم ما توفره هذه المنصات من فوائد لا يمكن إنكارها—مثل التواصل، والتعليم، ونشر الوعي—فإنها تعاني في الوقت ذاته من عيوب بنيوية تسهم، دون قصد، في تغذية التمييز ضد الأقليات، لا سيما من خلال تطبيع المحتوى المتكرر.
يكمن جوهر هذه الإشكالية في حقيقة نفسية بسيطة: ما يراه الإنسان بصورة متكررة يبدأ في الظهور له بوصفه أمرًا طبيعيًا، ومقبولًا، ومعبّرًا عن الواقع. ولا يعدّ هذا افتراضًا نظريًا؛ إذ تؤكد عقود من أبحاث العلوم السلوكية أن التعرض المتكرر يؤثر في المعتقدات، والإدراك، والسلوك. وتقوم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي باستغلال هذه الآلية بطبيعتها التصميمية، من خلال عرض المزيد من المحتوى المشابه لما سبق للمستخدم مشاهدته، بغض النظر عن العواقب الاجتماعية.
التطبيع عبر التكرار
عندما ينقر المستخدم على محتوى بريء—مثل إنقاذ الحيوانات، أو الابتكارات العلمية—تقوم المنصة تلقائيًا باقتراح محتوى مماثل. ويبدو هذا النظام محايدًا من حيث المبدأ، لكنه يصبح خطيرًا عمليًا عندما يُطبّق على مواد ضارة أو تمييزية.
فإذا شاهد شخص، ولو مرة واحدة بدافع الفضول:
محتوى يصوّر الأقليات بوصفها تهديدًا
مواد تدّعي أن المهاجرين يسرقون فرص العمل
مقاطع تربط بين العِرق أو الإثنية أو لون البشرة والجريمة
محتوى يمجّد العنف أو التنمر أو الترهيب
فإن الخوارزمية غالبًا ما تستجيب بتقديم المزيد من المحتوى المماثل.
إن التعرض المتكرر لا يقتصر على نقل المعلومة، بل يؤدي إلى التكييف النفسي. ومع مرور الوقت، يبدأ المشاهد في إدراك هذه السرديات على أنها شائعة، وطبيعية، ومبرَّرة. وهكذا يتم تطبيع العداء للمسلمين، والمشاعر المعادية للأقليات، وسائر الخطابات التمييزية، حتى لدى أفراد لم تكن لديهم هذه القناعات في الأصل.
دورة عالمية من التشويه الإدراكي
يعمل هذا التشويه الخوارزمي في جميع الاتجاهات وعبر مختلف الحدود. ففي البيئات المتطرفة، قد يشاهد الأفراد عددًا محدودًا من المقاطع التي تصوّر الغرب بوصفه منحرفًا أخلاقيًا أو معاديًا للدين. ثم تقوم الخوارزميات بتعزيز هذا التصور، مما يخلق قناعة بأن الغرب بأكمله فاسد وعدائي، وهو ما يغذي مشاعر الاستياء والتطرف. وفي المجتمعات الغربية، قد يؤدي النقر لمرة واحدة على محتوى ينتقد الهجرة أو الأقليات إلى سيل من المواد المشابهة، مما يعزز الاعتقاد بأن الأقليات تشكل تهديدًا للاستقرار الاقتصادي أو الأمني أو للهوية الثقافية.
وفي كلا السياقين، يُحرم المستخدم من الاطلاع على وجهات نظر موازنة، أو أمثلة إيجابية، أو تفسيرات سياقية قادرة على الحد من الخوف أو العداء. والنتيجة هي رؤية ضيقة للعالم، لا تتشكل وفق الواقع، بل وفق تكرار خوارزمي.
ضغط الأقران، والتعلّم الاجتماعي، والتأثير الرقمي
تُظهر أبحاث علم النفس وعلم الاجتماع بصورة متسقة أن الأفراد يتأثرون بشدة بالأعراف الاجتماعية المتصورة. وتشير الدراسات إلى أن:
التعرض المتكرر يزيد من القبول، حتى للأفكار المتطرفة أو الزائفة
التعزيز الشبيه بتأييد الأقران، مثل الإعجابات والمشاركات، يقوي المعتقدات
تؤكد نظرية التعلم الاجتماعي أن الأفراد يكتسبون السلوكيات والمواقف التي يشاهدونها متكررة
في بيئة وسائل التواصل الاجتماعي، تعمل الخوارزميات كـ«أقران غير مرئيين»، يعززون باستمرار سرديات محددة. وعندما يتكرر ظهور المحتوى التمييزي، فإنه يبعث برسالة صامتة مفادها: هذا أمر شائع، هذا مقبول، هذا طبيعي.
وقد انعكس هذا النمط في أضرار واقعية، منها:
تطبيع خطاب الكراهية في مجتمعات رقمية قبل تحوله إلى عنف فعلي
إزالة الحساسية تجاه العنف نتيجة التعرض المتكرر له
إشارة منفذي هجمات متطرفة إلى النظم البيئية الرقمية بوصفها عاملًا داعمًا لأيديولوجياتهم
موقف منظمة اللاعنف العالمية: إنذار بلا اتهام
تنظر منظمة المسلم الحر (اللاعنف العالمية) وقيادتها إلى هذه الظاهرة بقلق بالغ، دون إسناد نوايا خبيثة. فشركات التواصل الاجتماعي قد لا تهدف إلى تعزيز التمييز، إلا أن أنظمتها القائمة على التفاعل تكافئه دون قصد. إن التطبيع لا يجعل الأفكار الضارة أقل خطورة، بل يجعلها أكثر قبولًا اجتماعيًا. فعندما تصبح الكراهية مألوفة، تضعف المقاومة. وعندما يبدو العنف شائعًا، تتآكل القدرة على التعاطف. وعندما يُنظر إلى التمييز بوصفه مبررًا، يتصدع المجتمع.
ويمسّ هذا الضرر الأقليات، والنساء، والأطفال، والانتماءات الدينية، وفي نهاية المطاف الإنسانية جمعاء—في كل بلد، وعبر كل ثقافة.
دعوة إلى إصلاح بنيوي لا إلى رقابة
تدعو منظمة المسلم الحر إلى إصلاحات جذرية في كيفية إدارة منصات التواصل الاجتماعي لأنظمة توصية المحتوى، من خلال:
تعزيز تصفية المحتوى التمييزي والعنيف والضار، حتى عندما يكون ضمنيًا لا صريحًا
الحد من التعرّض المتكرر للمحتوى المرتبط بالعنف أو الكراهية أو التنمر أو السلوكيات الضارة، بغض النظر عن فضول المستخدم
التمييز السياقي بين المحتوى التعليمي والمحتوى الذي يمجّد الضرر
تحقيق توازن خوارزمي، بحيث تُقابل السرديات الضارة بمحتوى إنساني أو تعليمي أو تصحيحي
ترسيخ مبدأ المسؤولية المشتركة، بحيث لا تقتصر المعالجة على صانعي المحتوى، بل تشمل أنماط تفاعل المشاهدين
وإذا كان التعرض المتكرر قادرًا على تشكيل الدماغ—كما يؤكد العلم—فإن على المنصات التزامًا أخلاقيًا بتقليل التكرار الضار.
الخاتمة: التكنولوجيا تُشكّل المجتمع
لا تعكس وسائل التواصل الاجتماعي المجتمع فحسب، بل تسهم فعليًا في تشكيله. فما يتم تضخيمه يصبح مقبولًا، وما يتكرر يصبح طبيعيًا.
تؤمن منظمة المسلم الحر بأن التكنولوجيا يجب أن تخدم الإنسانية لا أن تقسمها. ومن دون إصلاح واعٍ ومدروس، ستستمر الأنظمة الخوارزمية في تغذية التمييز، وتعميق الانقسام، وتطبيع الأذى دون قصد. وهذه ليست دعوة لإسكات الأصوات، بل دعوة لتصميم منصات تحمي الكرامة الإنسانية