تقول الأطروحة الأساسية للمساهمات المتعددة في هذا الكتاب إن تيار العلمانية في بلدان الشرق الأوسط, وخاصة العربية, قد فشل وهو في انحسار مستمر لصالح تيار الفكر الإسلامي. وللتأسيس لهذه الأطروحة يقدم أحد محرري الكتاب, جون إسبوزيتو, بروفيسور الأديان والعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون, تمهيدا استعراضيا لوضع العلمانية في الشرق الأوسط في بدايات القرن الواحد والعشرين، يركز فيه على ما يراه تراجعا مستمرا للعلمانية، ليس فقط على مستوى الغالبية العامة عند الناس في المنطقة, بل وأيضا علىمستوى النخب.

ويلاحظ إسبوزيتو أن النخب العلمانية الحاكمة في أكثر من بلد لم تستطع استيعاب هذا التراجع أو القبول به, خاصة وأن التقدم البديل التعويضي كان يحصل في جانب الحركات الإسلامية واتساع شعبيتها. ويتابع إسبوزيتو بشيء من التفصيل أمثلة الجزائر وتركيا (وتونس إلى حد أقل), مستنتجا بروز ما يسميه “العلمانية الأصولية” في هذه البلدان. ويرى أن خطر هذه “الأصولية” الجديدة يكمن في النظر إلى العلمانية على أنها ليست خيارا من الخيارات بل “الخيار”, وأنها السبيل الأوحد الذي يجب أن تنهجه المجتمعات (ص 9), أو كما تحولت كما يصفها عزام تميمي إلى “دين جديد” (ص 28). والمشكلة الكبيرة هنا هي أن النخب العلمانية الحاكمة لا تريد أن تعترف بالتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية الجذرية التي حدثت ولا تزال تحدث في بلدانها حيث بروز تيارات شعبية غير علمانية وتحديدا إسلامية, ولا ترى وسيلة للتعامل مع هذه التغيرات إلا قطع الطريق عليها وقمعها كما حدث في البلدان المذكورة. والمفارقة الغريبة التي يلتفت إليها أسبوزيتو هي أن العلمانية في الشرق الأوسط صارت متلازمة مع الدكتاتورية رغم أنها تزعم الحرية والانفتاح والديمقراطية الليبرالية. ويضرب أمثلة على ذلك بتحالف الجيش وأجهزة الأمن مع النخب العلمانية الحاكمة لإحباط التحولات الديمقرطية, سواء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر, أو فوز حزب الرفاه في أكثرية المقاعد البرلمانية في تركيا وتسلم أربكان للوزارة, أو فوز حركة النهضة التونسية بعدد كبير من المقاعد في الانتخابات التونسية التي سبقت حل الحركة وإعلان الحرب عليها.

أما من ناحية تاريخية فإن عزام التميمي, مدير معهد الفكر الإسلامي في لندن, يرصد “أصول العلمانية العربية” متابعا السجالات الفكرية التي ميزت أوائل حركة الاتصال الفكري العربي-الغربي. فيعرج على مساهمات “الإسلاميين الحداثيين” الأوائل مثل رفاعة الطهطاوي, وجمال الدين الإفغاني, ومحمد عبده, ومحاولاتهم الاقتباس عن الغرب مع الحفاظ على الهوية والحضارة الإسلامية, ثم يتناول “المسيحيين الحداثيين” الأوائل مثل شبلي شميل, وفرح أنطون, وجورجي زيدان, وسلامه موسى, وغيرهم من الذي دعوا إلى تقديم أفكار مثل حب الوطن والمواطنين على العلاقات التقليدية والدين. ثم ينتقل إلى الجيل الثاني من “الحداثيين” من أمثال أحمد لطفي السيد وقاسم أمين, اللذين كانا من تلامذة محمد عبده, ويلاحظ تأثرهما بطروحات الحداثثين المسيحيين خاصة لجهة النظر إلى الإسلام نفس النظرة التي نظرت من خلالها أوروبا إلى المسيحية, وبالتالي الدعوة إلى فصله عن الحياة العامة.

تحالف العلمانية مع الدكتاتورية
ومن زاوية نظرية وتأصيلية فكرية متعمقة في العلمانية نفسها كفكرة فإن جون كين, بروفيسور السياسة في جامعة وستمنستر, يبحث في فصل ممتع ومهم في “حدود العلمانية”. وهو يغوص في جذورها الغربية و”الرسالة” الأساسية التي جاءت بها للحد من تدخل الدين في الشأن العام في السياق الأوروبي, طارحا التساؤل الذي يراه مثيرا لاستفزاز العلمانيين وهو في ما إذا كانت العلمانية تحول دون حرية التفكير في الديمقراطية نفسها, وبأنها تحولت إلى دوغما سياسية. وهو إذ يعود إلى أهم طروحات أبرز المدافعين عن العلمانية في الوقت الراهن ودعوتهم المعتدلة إلى “خصخصة الدين, وليس التهوين من شأنه” كما يقول ريتشارد رورتي, فإنه يرى أن العلمانية تحمل تناقضات داخلية لا يمكن القفز عنها, رغم أنها تناقضات لا تصل إلى حد إسقاط العلمانية من الداخل. التناقض الأول هو دعوتها إلى حرية العبادة وحرية الاجتماع الديني, الذي يقود في نهاية المطاف, كما هو الحال الراهن, إلى زيادة رقعة الدين, والدعوات الدينية للتدخل في الشأن العام والسياسة باعتبار أن للدين دورا مهما يمكن أن يؤديه في السياسة. ففي الوقت الذي لا تستطيع فيه العلمانية إلا أن تعترف وتسمح بحرية الأديان والممارسة الدينية, فإنها تعترف بتناقض داخلي يعمل على تقويضها, وهي لا تستطيع أن تقف في وجهه لأنها تفقد صفتها الليبرالية الأساسية. أما التناقض الثاني فيتمثل في ترافق “عدم اليقين الوجودي” مع العلمانية ليحل محل اليقين الديني عند الأفراد, وهذا لا يشبع التطلعات الإنسانية والروحية عند الناس خاصة في عالم مليء بالضغوط والتوترات حيث يحاول الأفراد الوصول إلى سبل السكينة والراحة الخلاصية على المستوى الداخلي لهم, وحيث تبرز أهمية “التضامن الديني” (ص 33). ويشير كين إلى تناقض داخلي آخر هو تقارب العلمانية مع الدكتاتورية تحت مسميات عديدة. ويضرب مثلا على ذلك تركيا وإلى حد ما فرنسا، ففي الأولى تتحالف العلمانية مع الدكتاتورية العسكرية تحت مسميات حماية الدستور العلماني من تصاعد المد الإسلامي, وفي الثانية تتحالف العلمانية مع ممارسات دكتاتورية مثل منع الحجاب أو التضييق على المسلمين تحت مسمى الاندماج أو محاربة التعددية الثقافية.

تعريف جديد للعلمانية
وفي مساهمة أخرى في الكتاب يناقش عبد الوهاب المسيري, بروفيسور الأدب الإنجليزي المتخصص العربي في الصهيونية والعلمانية, التعريفات الأساسية للعلمانية ويطرح مجموعة مفاهيم جديدة. ففي مقابل التعريف المشهور للعلمانية بأنها “فصل الدين عن الدولة” يدعو المسيري إلى تعريف جديد يصف جوهر النظرة العلمانية إلى العالم عبر التفريق بين العلمانية الجزئية (تقابلية الدين والدولة) والعلمانية الشاملة التي تعني فهم العالم والاجتماع الإنساني وفق نظرة علمانية صارمة وشاملة لجميع جوانب حياتهم, وليس فقط الجانب السياسي المعني بالدولة كجهاز حكم. ويرى المسيري أن هذا التعريف أدق وأكثر عملية في فهم “الصيرورة العلمانية” وفي فهمها كمتتالية وليس فقط كشيء جزئي متسامح مع بقية منظومات الأفكار والمؤسسات الاجتماعية الإنسانية. فالعلمانية، بكونها منهج حياة شاملا, لا تقبل بأقل من السيطرة الكاملة على مناحي الحياة الإنسانية, وهذا يعني تكريس النظرة المادية ليس للأشياء فحسب, بل وللجوانب الإنسانية في حياة البشر أيضا, أو ما يسميه المسيري في كتاباته العربية “حوسبة الحياة” أي جعل كل الأمور وسائل مادية.

رفع القداسة عن العلمانية
أما برويز منصور, كاتب وباحث إسلامي آسيوي, فقد ساهم في هذا الكتاب بدراسة عميقة تدعو إلى تفكيك “القداسة” عن العلمانية, ونقض الادعاء السائد بأنها موئل الحقيقة والعلم. والتفكيك الذي يقوم به منصور عبر الرحلة الفكرية الشيقة لمكونات الفكر الغربي وبالتحديد الفكر النتشوي ثم موضعة هذا الفكر والنظر إلى خلاصاته “العلمانية” كنتاج للتطور والصيرورة التاريخية الغربية, ثم عزل هذا النتاج عن التطبيق القسري على المجتمعات والصيرورات التاريخية لبقية مناطق العالم. وهو يقول بأننا يجب ألا ننظر إلى العلمانية “كنظرية كبرى” قادرة على تفسير الظواهر, أو جاهزة للتطبيق في كل مكان وزمان, كما أنه من غير العملي أن يتم حبس النقاش وكأنه صراع بين قيم الإسلام الإيمانية ومنطلقات الحداثة العقلانية, أو بين رغبة الإسلام للتمكن والنظام العالمي المتمكن, بل بين الإيمان الذي يجسد ما هو متجاوز والافتراض العلماني الثيوقراطي بأن الحقيقة التامة قد تم الوصول إليها (ص 96)