بسم الله الرحمن الرحيم

«  ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم»(قرآن كريم)

 قول لرسول الله (ص) أو أحد الأئمة…

(وأما أنا فأقول لكم، احبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم احسنوا الى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم. لأنه ان احببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم…)

الشرق الحالم بالحرية… وانسانه الحالم بالسلام… حلم الانسان نحو مدن الحضارة… حضارة الروح… حيث قبول الآخر ليس مستغرباً حينما نؤمن ان الله للجميع… وإن الانسان كفؤ الانسان.

منذ القدم كان هناك الصراع… وكانت الحرب… فكان الموت والدمار… وضياع قيم الانسان واحلامه بأنسانيتهِ… وسيبقى الصراع… ولكن هل ينبغي الغاء الآخر ونفيه من مدن الحياة…!

بين الالم.. والقلق…تولد هواجس الرغبة بحياة تزخر بالود… وانسان يحلم بالعودة الى ذاته.. حيث السكينة هي مخبأ الحقيقة.. وهي أرض الروح في الانطلاق الى عالم يسمو فوق الضغينة… وانشودة الانسان في خلق مدنه الفاضلة الحرة…

ومن بين ركامات الألم… وحقيقة الرغبة في طمأنينة الانسان..

ولد »المسلم الحر«:…

مشروع انساني.. يطرح اللاعنف شعاراً… والامر بالمعروف وسيلة… والاخلاق فضيلة في التواصل والتحاور بين البشر… نحو مجتمع حضاري يسوده الحب واحترام حقوق الانسان.

 قد يبدو نبذ العنف واحتوائه… امراً صعباً.. بل مريباً لدى البعض… ومرفوضاً لدى البعض الآخر.. بل يثير التساؤل عن معنى العنف وجدواه في مجتمعاتنا.. وخاصة الشرقية.. والتي ما زال يتوق انسانها الى عالم حر وعادل… وسط ركامات القمع… والنبذ والعنصرية.. والغاء الآخر..

فالبعض قد يرى العنف حلاً… وأنه ضرورة لحسم الصراع  الناشيء على مر العصور… والحقيقة… قد يتراءى أنه حلا لكنه ليس الحل الاوحد ، وليس حلاً مثالياً… بل ان اصل الذات هو اللاعنف والسلام.. حيث سلام الروح… مثال ابدي، ودعوة اللاعنف… دعوة الى خلق حالة من السلم الذاتي… والشعور برفض القسوة وطرد الوحشية من وجدان البشر وان في الحياة متسع لنا جميعاً.

ان سبيل اللاعنف يبدأ من الذات… أن تخلق حالة من الرضى والتفاؤل في قدرات البشر على تجاوز الشر. لأنه شعور طارئ، ولكن نتائجه وخيمة. يبقى ذاكرة أبدية تعيش صور سوداء وكئيبة.

أما التحرر من الخوف.. خوف الطغيان صفة سامية لأن أقسى وسائل الطغيان لم تمحو الحياة ولم تنزع عامل الخير والمحبة من البشر.

والتسلح بالايمان بقوة اللاعنف هو اللبنة الاولى لخلق روح سامية  تتجاوز الافق المادي المحدود وخياراته الباهتة الجازمة في حل النزاع والتوصل الى محبة الذات… ذات البشر دون خصوصية لعرق او لون أو دين.

قد تبدو روح اللاعنف روحا جديدة ولكنها ليست مستحيلة، اذا التمسنا حقيقة هذه الروح ومعناها وأهدافها الشاملة التي تعني التسامح حيناً والتجرد عن الغضب حيناً آخر والخضوع لحقوق الآخرين وقبولهم أحياناً كثيرة .

لأن الله شاء ان يكون الجميع معاً على هذه الأرض فلننظر كيف نتعاون مع ارادته السامية.

ليس سهلاً أبداً أن نرضخ لحقيقة تأصل العنف في المجتمعات البشرية، ولكن الأصعب أن نرفض أي سبل انسانية تتيح للانسان العودة الى حقيقته كبشر وخليفة يتسامى فوق صغائر السوء.

من المحتم ان رسالة العنف في مجتمعاتنا ستلقى محيطاً عدائياً واستهجاناً أو سخرية، لكن كل ذلك يجعلها حقيقة تضعها الأقدار أمام تحد جاد واختبار لمثالياتها في الذات الانسانية الطيبة… فحينما يكون اللاعنف رسالة الحقيقة في التعامل بأناة وصبر ورحمة،كيف يمكن أن تتشتت وتهدر وتركن البشرية الى القسوة والعنصرية وسلب حقوق الانسان ، واذا كانت رسالة اللاعنف رسالة سلام روحي توفر الطمأنينة والقوة في الذات فلا يعني انها مبدءا صوفياً أو رهبانياً يبتعد بالانسان عن حتمية الصراع في المجتمع بين الانسان وقضاياه. فاللاعنف لا يعني أبداً التوقف عن الصراع أو المطالبة بتحقيق القيم والحقوق المشروعة. فهو ليس دعوة الى التخلي عن المبادىء والاستسلام والخضوع والجمود أمام الخصم، وإنما هي سلوك أخلاقي لتطوير سبل الصراع الى أشكال حضارية قد تأخذ مدى وزمناً. ولكنها الحقيقة في أن نعيش الصراع بروح سامية مترفعة تنزع الى الخير وتنفي العدائية من الذات فيصل نورها الى الآخرين… الخصماء والأعداء ،فليس من واجبنا القضاء على أعدائنا بقدر ما نتمنى اصلاحهم والرأفة بمصير أرواحهم (رب اغفر لهم انهم لا يعلمون) وأي روح سامية تحلى بها الامام الحسين (عليه السلام) حينما سئل يوم كربلاء عن سر بكائه فأجاب: أبكي لمصير هؤلاء وان الله سيعاقبهم بسببي. تلك الروح ان تحب عدوك (ادفع بالتي هي أحسن تجد الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).

ومن اعماق الذاكرة ما زلنا نستخرج الرصاص والبيوت المهدمة والأبواب المثقوبة والاجساد الزرقاء النازفة وصراخ طفل يحبو جنب أمه التي أصابتها شظايا القسوة والوحشية.

تبقى ارادة اللاعنف… ارادة الايمان بالله… الايمان بالانسان… والمستقبل… الايمان بحلم نصبو إليه ونحاول الاقتراب منه بصورة الحب الذي نستشعره.

ارادة اللاعنف لا تعني أبداً أننا لا نغضب وأننا عاجزون عن الحصول على حقوقنا بسبل أخرى… بل هي أبعد من ذلك لأنها رسالة للآخر لاصلاحه أو على الأقل عدم نفيه من مجتمع السلام. فحالة التزمت والتقيد والنكوص الى التقليد والاحتماء بذاته المقهورة لا يعد رسالة لاعنفية. بل هي حالة من قهر مرضّية لا تتعدى الرؤية السلبية تجاه الذات وتجاه الآخرين.

فالاستبداد الذي خضعت له مجتمعاتنا دولاً وأسراً أدخلت الانسان في معادلة قاسية وقلقة من القمع حتى اصبحت استحالة المعارضة والرد المنظم والقانوني. ولهذا تبدو رسالة اللاعنف رسالة موجهة للدولة والمؤسسات والمجتمع. لتجاوز ظاهرة الغاء الحرية وخلق وسيلة للتعبير تتلائم وطبيعة البشر ومكانتهم، لغة أكثر عدالة في الاصغاء والتواصل، لغة بديلة عن تراث القمع واطلاق العقل من احادية مقيتة. ولهذا تبدو رسالة اللاعنف وسيلة مميزة وصريحة في التعبير عن حاجة الانسان واهدافه حيث المحبة والروح السلمية لا تثير الشك والرفض حينما تحتمي الذات بعناصر الطمأنينة لرفض الواقع الموحش الذي توسل العنف لحسم الصراع.

ان الكشف العميق عن الذاكرة المختزنة للتاريخ، وعل مر العصور…يبرز لنا صور اشكالٍ مرة، وصراعات وعذابات وانهيار احلام لا تتسع لها سوى الحياة… لكن نفي الانسان… وتنوع وتعدد اشكال الحلول الجازمة لم تلغ  ارادة الحياة ارادة السكينة…  فثمة روحاً.. تخلق وتبعث من جديد… حين العفو.. والتسامح. لكن التاريخ يبرز لنا صوراً متعددة من ثقافة العنف، ثقافة الثأر، حتى اختلطت فيها كل المفاهيم السامية.. وضاعت رؤية الانبياء واحلامهم يخلق مجتمع تسوده العدالة والسلام والطمأنينة .قدلاتتقلص فيه ارادة التعارض،لكن يشترك الناس فيه بمفاهيم متقاربة في رؤيتها وسلوكها نحو تحقيق القيم.

ولهذا فأن رسالة اللاعنف… هي رسالة تغيير في مفاهيم وثقافة المجتمع  بعدما انجزت البشرية شوطاً طويلاً وعميقاً من دورات العنف على مر العصور ، لم تحقق فيها الانسانية المفاهيم الحقيقية للمثل العليا التى تتوخاها وتؤمن بها.

ان  استيعاب معنى اللاعنف… كمعنى أصيل ومشروع.. لن تجعله يقف موقفاً سلبياً أمام كثير من الظواهر في المجتمع.. والتحديات.. والارهاب الذي يقع على عاتق مجتمعاتنا.. إذا  ما ادركنا ان الرسالات السماوية.. مفهوماً اخلاقياً وروحياً قبل أن يكون  سياسياً.. وبالتالي يلزم دعاة اللاعنف – القدرة على طرح مفهوم اللاعنف بصيغة سليمة لا تثير حفيضة المجتمع.. بل ينبغي توضيح امر اً هاماً: وهو ان اللاعنف رسالة شاملة موجهة الى الجميع دون استثناء لأحد.. هو دعوة الى الدولة والمؤسسات والافراد والجماعات الى التحلي بالصبر وروح العظماء في فهم الآخر وتجاوز خطيئاته ..

 ولعلها خطوة محفوفة بالمصاعب ، فمواجهة الأصدقاء.. واقناعهم بسلوك اللاعنف هو أصعب بكثير من اقناع الاعداء بانتهاج سبل هذا المفهوم السامي… لكنها بداية معقدة في توضيح مفهوم هذه الرسالة الى محيط مركب يعج بالرغبة بالثأر بسبب مبررات حقيقية جعلته يعيش دهوراً تحت وطأة قمع وحشي.. انتقص من السيادة.. من الانسانية ومن مستوى معيشة البشر ، مما جعل هكذا مجتمع يختزن في اعماق ذاته.. مساحة واسعة من العنف والرغبة الثأرية بطريقة حاسمة ونهائية.. لكن الواقع يشير الى أن قوة التدمير وبمستوى جبروتها وطغيانها لن تلبث أن تتراجع امام ارادة الخير والوئام.. ارادة الانسان الممتلىء بقوة الارادة.. ارادة الانتصار على فوضى الذات التي اثارتها سنوات العنف والاغتصاب..

 

ولهذا نحن نؤمن ان رسالة اللاعنف رسالة حضارية تتجاوز الافق المحدود للبيئة ، الى تواصل المجتمعات بشكل تتقلص فيه الفجوات الانسانية الى حدٍ يصبح العيش المشترك للجميع ليس حلماً مستحيلاً..

وليس اعجازاً أن تسهم هذه الرسالة في تكوين ثقافة المجتمعات التي تتوق للحرية والانطلاق..نحو ابداع حضاري يتيح للانسان القدرة على نبذ العنف والسمو فوق الأنا ، لكنها بداية هاجساً حقيقياَ.. لمشروع تغيري في سلوك المجتمع وذهنيته واعداده لمعنى قد يبدو بداية استخفافاً: لكنه في الحقيقة رسالة  اصلاح.. يحفظ حالة من التوازن بين حاجة الروح للسكينة وحاجة الواقع للصدام والمنافسة وخلق الية تشيع التواصل في العلاقة بين الجماعات المتنافسة من خلال بناء ارادة الخير في الذات كسلطة تحد من حالة الغضب وتمنع روح الثأر من السيطرة على المجتمع .

  ولن تعد رسالة حقيقية واصيلة تنبع من حاجة الروح البشرية، الا اذا اخضعت لاختبار حاد ودقيق  وذلك بتناولها بيئة الآخر وتحقيق هدفها في زرع الحقيقة بتفاؤل ورضى.. وما يستلزمه هذا التواصل من حرية ووعي لطبيعة اللاعنف الذي يستقي معانيه من اصول سامية اشتقت من الرسالات السماوية – ،رسالات لم تتجاوز الانسان بل تمنحه حالة من السمو والارتقاء فوق الأنا.