«ادفع بالتي هي احسن تجد الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (قرآن كريم)

(وأما أنا فأقول لكم، احبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيؤون إليكم ويطردونكم، لأنه أن احببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم)… متي 5/44 ـ 54.

الشرق الحالم بالحرية… وانسانه الحالم بالسلام… حلم الإنسان نحو مدن الحضارة… حضارة الروح… حيث قبول الآخر ليس مستغرباً حينما نؤمن أن اللـه للجميع.. وإن الانسان كفؤ الانسان….

منذ القدم كان هناك الصراع… وكانت الحرب… فكان الموت والدمار…. وضياع قيم الانسان واحلامه بانسانيته…. وسيبقى الصراع….. ولكن هل ينبغي الغاء الآخر ونفيه من مدن الحياة…!

بين الالم… والقلق…. تولد هواجس الرغبة بحياة تزخر بالود…. وانسان بالعودة إلى ذاته…. حيث السكينة هي مخبأ الحقيقة…. وهي أرضت الروح في الانطلاق إلى عالم يسمو فوق الضغينة…. وانشودة الانسان في خلق مدنة الفاضلة الحرة….

ومن بين ركامات الألم…. وحقيقة الرغبة في طمأنينة الإنسان….

كان لابد من طرح فكرة اللاعنف قد يبدو نبذ العنف واحتوائه… أمراً صعباً.. بل مريباً لدى البعض…. ومرفوضاً لدى البعض الآخر… بل يثير التساؤل عن معنى العنف وجدواه في مجتمعاتنا…. وخاصة الشرقية… والتي ما زال يتوق انسانها إلى عالم حر وعادل…. وسط ركامات القمع…. والنبذ والعنصرية…. والغاء الآخر.

فالبعض قد يرى العنف حلاً… وأنه ضرورة لحسم الصراع الناشئ على مر العصور… والحقيقة… قد يتراءى أنه حلاً لكنه ليس الحل الاوحد، وليس حلاً مثالياً…. بأن أصل الذات هو اللاعنف والسلام… حيث سلام الروح…. مثال ابدي، ودعوة اللاعنف…. دعوة إلى خلق حالة من السلم الذاتي…. والشعور بـرفض القسوة وطرد الوحشية من وجدان البشر وان في الحياة متسع لنا جميعاً.

أن سبيل اللاعنف يبدأ من الذات… أن تخلق حالة من الرضى والتفاؤل في قدرات البشر على تجاوز الشر. لأنه شعور طارئ، ولكن نتائجه وخيمة. ويبقى ذاكرة أبدية تعيش صور سوداء وكئيبة.

أما التحرر من الخوف… خوف الطغيان صفة سامية لأن أقسى وسائل الطغيان لم تمحو الحياة ولم تنزع عامل الخير والمحبة من البشر.

والتسلح بالايمان بقوة اللاعنف هو اللبنة الأولى لخلق روح سامية تتجاوز الافق المادي المحدود وخياراته الباهتة الجازمة في حل النزاع والتوصل إلى محبة الذات… ذات البشر دون خصوصية لعرق أو لون أو دين.

قد تبدو روح اللاعنف روحاً جديدة ولكنها ليست مستحيلة، إذا التمسنا حقيقة هذه الروح ومعناها وأهدافها الشاملة التي تعني التسامح حيناً والتجرد عن الغضب حيناً آخر والخضوع لحقوق الآخرين وقبولهم أحياناً كثيرة.

لأن اللـه شاء أن يكون الجميع معاً على هذه الأرض فلننظر كيف نتعاون مع ارادته السامية.

ليس سهلاً أبداً ان نرضخ لحقيقة تأصل العنف في المجتمعات البشرية، ولكن الأصعب أن نرفض أي سبل انسانية تتيح للانسان العودة إلى حقيقته كبشر وخليفة يتسامى فوق صغائر السوء.

من المحتم ان رسالة العنف في مجتمعاتنا ستلقي محيطاً عدائياً واستهجاناً أو سخرية، لكن كل ذلك يجعلها حقيقة تضعها الأقدار أمام تحد جاد واختبار لمثاليتها في الذات الانسانية الطيبة…. فحينما يكون اللاعنف رسالة الحقيقة في التعامل بأناة وصبـر ورحمة، كيف يمكن أن تتشتت وتهدر وتركن البشرية إلى القسوة والعنصرية وسلب حقوق الانسان، وإذا كانت رسالة اللاعنف رسالة سلام روحي توفر الطمأنينة والقوة في الذات فلا يعني أنها مبدءاً صوفياً أو رهبانياً يبتعد بالانسان عن حتمية الصراع في المجتمع بين الانسان وقضاياه، فاللاعنف لا يعني أبداً التوقف عن الصراع أو المطالبة بتحقيق القيم والحقوق المشروعة، فهو ليس دعوة إلى التخلي عن المبادئ والاستسلام والخضوع والجمود أمام الخصم، وإنما هي سلوك أخلاقي لتطوير سبل الصراع إلى أشكال حضارية قد تأخذ مدى وزمناً. ولكنها في الحقيقة في أن نعيش الصراع بـروح سامية مترفعة تنزع إلى الخير وتنفي العدائية من الذات فيصل نورها إلى الآخرين… الخصماء والأعداء، فليس من واجبنا القضاء على اعدائنا بقدر ما نتمنى اصلاحهم الرأفة بمصير أرواحهم (رب أغفر لهم انهم لا يعملون) واي روح سامية تحلى بها الامام الحسين (ع) حينما سئل يوم كربلاء عن سر بكائه فأجاب: أبكي لمصير هؤلاء لأن اللـه سيعاقبهم بسببي. تلك الروح أن تحب عدوك (ادفع بالتي هي أحسن تجد الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).

ومن أعماق الذاكرة ما زلنا نستخرج الرصاص والبيوت المهدمة والأبواب المثقوبة والاجساد الزرقاء النازفة وصراخ طفل يحبو جنب أمه التي أصابتها شظايا القسوة والوحشية.

تبقى ارادة اللاعنف… ارادة الايمان باللـه… الايمان بالانسان…. والمستقبل…. الايمان بحلم نصبوا اليه ونحاول الاقتراب منه بصورة الحب الذي نستشعره.

ارادة اللاعنف لا تعني أبداً أننا لا نغضب وأننا عاجزون عن الحصول على حقوقنا بسبل أخرى…. بل هي أبعد من ذلك لأنها رسالة للآخر لاصلاحه أو على الأقل عدم نفيه من مجتمع السلام. فحالة التزمت والتقيد والنكوص إلى التقليد والاحتماء بذاته المقهورة لا يعد رسالة لا عنيفة. بل هي حالة من قهر مرضية لا تتعدى الرؤية السلبية تجاه الذات وتجاه الآخرين.

فالاستبداد الذي خضعت له مجتمعاتنا دولاً وأسراً أدخلت الإنسان في معادلة قاسية وقلقة من القمع حتى أصبحت استحالة المعارضة والرد المنظم والقانوني. ولهذا تبدو رسالة اللاعنف رسالة موجهة للدولة والمؤسسات والمجتمع. لتجاوز ظاهرة الغاء الحرية وخلق وسيلة للتعبير تتلائم وطبيعة البشر ومكانتهم، لغة أكثر عدالة في الاصغاء والتواصل، لغة بديلة عن تراث القمع واطلاق العقل من احادية مقيتة. ولهذا تبدو رسالة اللاعنف وسيلة مميزة وصريحة في التعبير عن حاجة الإنسان واهدافه حيث المحبة والروح السليمة لا تثيري الشك والرفض حينما تحتمي الذات بعناصر الطمأنينة لرفض الواقع الموحش الذي توسل العنف لحسم الصراع.

أن الكشف العميق عن الذاكرة المختزنة للتاريخ، وعلى مر العصور…. يبـرز لنا صور أشكال مرة، وصراعات وعذابات وانهيار احلام لا تتسع لها سوى الحياة…. لكن نفي الانسان… وتنوع وتعدد أشكال الحلول الجازمة لم تلغ ارادة الحياة ارادة السكينة…. فثمة روحاً…. تخلق وتبعث من جديد…. حين العفو… والتسامح. لكن التاريخ يبـرز لنا صوراً متعددة من ثقافة العنف، ثقافة الثأر، حتى اختلطت فيها كل المفاهيم السامية… وضاعت رؤية الانبياء واحلامهم يخلق مجتمع تسوده العدالة والسلام والطمأنينة قد لا تتقلص فيه ارادة التعارض، لكن يشترك الناس فيه بمفاهيم متقاربية في رؤيتها وسلوكها نحو تحقيق القيم.

ولهذا فأن رسالة اللاعنف… هي رسالة تغيير في مفاهيم وثقافة المجتمع بعدما انجزت البشرية شوطاً طويلاً وعميقاً من دورات العنف على مر العصور، لم تحقق الانسانية المفاهيم الحقيقة للمثل العليا التي تتوخاها وتؤمن بها.

أن استيعاب معنى اللاعنف…. كمعنى اصيل ومشروع… لن تجعله يقف موقفاً سلبياً أمام كثير من الظواهر في المجتمع.. والتحديات… والارهاب الذي يقع على عاتق مجتمعاتنا… إذا ما ادركنا أن الرسالات السماوية… مفهوماً اخلاقياً وروحياً قبل ان يكون سياسياً.. وبالتالي يلزم دعاة اللاعنف ـ القدرة على طرح مفهوم اللاعنف بصيغة سليمة لا تثير حفضية المجتمع… بل ينبغي توضيح أمراً هاماً: وهو أن اللاعنف رسالة شاملة موجهة إلى الجميع دون استثناء لأحد….. هو دعوة إلى الدولة والمؤسسات والافراد والجماعات إلى التحلي بالصبـر وروح العظماء في فهم الآخر وتجاوز خطيئاته…

ولعلها خطوة محفوفة بالمصاعب، فمواجهة الأصدقاء… واقناعهم بسلوك اللاعنف هو أصعب بكثير من اقناع الاعداء بانتهاج سبل هذا المفهوم السامي… لكنها بداية معقدة في توضيح مفهوم هذه الرسالة إلى محيط مركب يعد بالرغبة بالتأثر بسبب مبـررات حقيقة جعلته يعيش دهوراً تحت وطأة قمع وحشي… انتقص من السيادة. من الانسانية ومن مستوى معيشة البشر، مما جعل هكذا مجتمع يختزن في اعماق ذاته… مساحة واسعة من العنف والرغبة الثأرية بطريقة حاسمة ونهائية… لكن الواقع يشيري إلى أن قوة التدمير وبمستوى جبـروتها وطغيانها لن تلبث أن تتراجع أمام ارادة الخير والوئام… ارادة الإنسان الممتلئ بقوة الارادة… ارادة الانتصار على فوضى الذات التي أثارتها سنوات العنف والاغتصاب.

ولهذا نحن نؤمن أن رسالة اللاعنف رسالة حضارية تجاوز الافق المحدود للبيئة، إلى تواصل المجتمعات بشكل تتقلص فيه الفجوات الانسانية إلى حدٍ يصبح العيش المشترك للجميع ليس حلماً مستحيلاً..

وليس اعجازاً أن تسهم هذه الرسالة ـ رسالة اللاعنف ـ في تكوين ثقافة المجتمعات التي تتوق للحرية والانطلاق.. نحو ابدا حضاري يتيح للانسان القدرة على نبذ العنف والسمو فوق الأنا، لكنها بداية هاجساً حقيقياً…. لمشروع تغيري في سلوك المجتمع وذهنيته واعداده لمعنى قد يبدو بداية استخفافاً: لكنه في الحقيقة رسالة اصلاح.. يحفظ حالة من التوازن بين حاجة الروح للسكينية وحاجة الواقع للصدام والمنافسة وخلق اليه تشيع التواصل في العلاقة بين الجماعات المتنافسة من خلال بناء ارادة الخير في الذات كسلطة تحد من حالة الغضب وتمنع روح الثأر من السيطرة على المجتمع.

ولن تعد رسالة حقيقية واصيلة تنبع من حاجة الروح البشرية، إلا إذا اخضعت لاختبار حاد ودقيق وذلك بتناولها بيئة الآخر وتحقيق هدفها في زرع الحقيقة بتفاؤل ورضى… وما يستلزمه هذا التواصل من حرية ووعي لطبيعة اللاعنف الذي يستقي معانيه من اصول سامية اشتقت من الرسالات السماوية ـ، رسالات لم تتجاوز الإنسان بل تمنحه حالة من السمو والارتقاء فوق الأنا.