الامام الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)

الحلقة الرابعة

ولكن اغرب الظواهر البعيدة عن طبيعة الامة وطبيعة الاحداث كان الانقلاب العقيدي السريع الذي حدث في واقع الامة، فلم تسقط حكومتها، حتى سارعت هي الاخرى، لتسلل من الاسلام، الذي ورثته وجربته، وعاشته ونعمت في ظله طويلاً، واتجهت بكلها نحو حضارة الغرب وآمنت بها ايماناً أعمى، بكل ما في طياتها من مبادئ وافكار.

لقد اعلنت الامة، استسلامها السياسي والفكري مرة واحدة، وكان من المتوقع اعلانها الاستسلامين معاً، حتى تتخلص من حركات ·الحلفاء  من داخلها للقضاء على الاسلام العقيدي في ذهنيتها. ولكن كان من المتوقع ايضاً ان يكون اعلان استسلامها الفكري، سياسة مرحلية تحاول التخلص من ازمة وقتية، دون أن تعرب عن واقع فكري لا يمكن ان يتم إلا بعد محاولات فكرية، وطوال أجيال لأن القضاء على عقيدة دينية في واقع امة، لا تنجز بالنجاح في العمليات العسكرية، التي لا تباشر الافكار من قريب ولا من بعيد، وانما تختصر جهودها في السيطرة الحكومية على البلاد. غير ان الامة كانت صادقة في اعلان استسلامها الفكري للغرب المستعمر،

 فإذا هي تسير في ركاب الاستعمار وتلتقط كلماته وحركاته بالتملق والتمجيد، للاسوة والتقليد، وتتشرب كل ما يصدر من اجهزته بجشع وانتباه رغم انها كانت موتورة بالاستعمار، وحق لها ان تكره كل شيء منه.

غير انا لو درسنا المراحل الفكرية، والهواجس التي عاشتها الامة، لا يساورنا مثل هذا الاستغراب، فـ:

1- ان الامة -رغم تبخر مناعتها ايام الحكم العثماني- كانت مغرورة بقوتها وتفوقها، وترتل اناشيدها وذكريات آبائها، وهي تحسب انها لا زالت تستطيع صياغة المعجزات. فلما تحطمت حكومتها تحت القنابل والمدافع، التي لم تعهدها من قبل. اصيبت بدوار وارتباك، وعرفت انها تواجه صفحة جديدة من البطولات، التي لا قبل لها بها، فاستخفها الارهاب الذي سحق اعصابها وغرورها، إلى الاعتراف بكل ما يصدر من جهتها.

2- ان الامة طفقت تشعر بالتضاؤل، تجاه الثقافات الغربية التي كانت غريبة ورائعة على حس الامة. وبهرها بريق الحضارة التي كانت في باكور التوهج والازدهار. وفي كل يوم كانت تنجز معجزاً يعجز ويغري ويدهش، فيشتد ويعنف اعجاب وانبهار الامة بها، الى حيث تنقاد لكل شيء منها طوعاً، بلا قيد أو شرط.

3- ان الامة خرجت من تحت الكابوس العثماني، بنظرة ممسوخة عن الاسلام، فكانت تظن: ان الحكم العثماني، هو التجسيد العملي الحي لأقصى ما يهدف الاسلام الى تحقيقه، وحيث كرهت الحكم العثماني وجربت عجزها عن العيش الى جانب الحكومات الحية، كانت تحاول التخلص منه، وخوض تجربة المبادئ الاخرى، علها تطيق الحياة المستقلة في ظلها، الى جانب الحكومات الحية.

غير أن هذه العوامل الثلاثة، كانت مغلوطة تستحق التبخر والاندثار، وعاملاً آخراً، باشرت تغذيتها وتأكيدها، حتى نمت وازدوجت وتفاعلت، الى حيث ساهمت في تحريف مجرى الحقبة الاخيرة من تاريخ الامة، وهو:

4- العمل الايجابي الجريء، الذي قامت به القوات الفاتحة، لتركيز عملية الفصل بين الامة ودينها العتيد، فقد استخدم الغزاة الآثمون جميع الطرق والوسائل، والطاقات الخاضعة لهم، لتنفيذ مؤامرات هائلة، سافرة تارة ومستترة احياناً، من أجل القضاء على وعي الاسلام في ذهنية الامة، فسنوا اوسع حملات الدس والتشويه على حقائق الاسلام، بما نثروه هنا وهناك، من مفاهيم وافكار مناوئة للاسلام، وبما اشاعوه في كل فج وصقع من الميوعة والتفسخ، اللذين لن ينكشفا إلا عن التحلل والانفلات، وبتقديس رجال ملحدين او متوغلين في الإنحراف باسم القادة المفكرين، والنيل من ابطال الاسلام الحنفاء الابرار، وبتحقير الحقائق الاسلامية، وتفخيم الزيوف الحديثة .. وببقية القوى والاساليب التي امتدت اليها ايدي وعقول المستعمرين.

فبتلاقح تلك العوامل الثلاثة، وهذه العملية الدقيقة الحاسمة، نجح الاستعمار المشترك، في انجاز الشطر الثاني، من مهمته الكبرى ازاء الاسلام، وهي القضاء على السلام في ذهنية الامة، بعد ما ابرم القضاء عليه في مجال الحكم.

فخرجت الامة من هذه التجربة القاسية، التي مرت بها، وهي تواصل سكرات الاعجاب والارتواء بنعيم الحضارة الغازية، صفرة من كيانها الحكومي والعقيدي، وهي تعدو -باقدام حافية- خلف مراكب المستعمرين علهم يسخون عليها بالثمالة والفتات.