هناك مذهبان في العالم لا ثالث لهما : يقوم الأول على العنف وتدمير الآخر وإلغائه، ومصادرة حقه في الوجود، والثاني على احترام الإنسان والحفاظ عليه، و خلف كلا المذهبين عواطف متباينة، فالأول يُسقى بالحقد والثاني يُغَذَّى بالحب، والحقد عملياً هو الانكفاء والارتداد على الذات ولذا فهو مدمر لأنه يحذف الآخر، والحب مشاركة وهو حياة ونماء وثقافة العنف موت وقتل، وثقافة اللاعنف حياة وسلام ووئام وحب. وكأن الاثنتين مثل آدم والشيطان، فثقافة السلام روح وريحان وجنة نعيم، وثقافة العنف من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟

إن أول تساؤل وجهته الملائكة لحظة خلق الإنسان عن جدوى وجود هذا الكائن القاتل ” أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟”. فلم تقل أتجعل فيها من يكفر بك بل أتجعل فيها من يقتل؟وهذا يعني أن مسالة العنف واللاعنف مسألة وجودية. وهذه المسـألة (الوجودية) أقلقت الملائكة منذ بداية الخلق الإلهي،وهذا (الظن) الملائكي عن حقيقة الإنسان يصيب الإنسان بالإحباط ورؤية الوجود خالياً من المعنى، ولكن الجواب الإلهي عن معنى وجود الإنسان جاء مختلفاً فقال الله: (إني أعلم ما لا تعلمون). فهذا الجدل بين (ظن) الملائكة و(علم) الله هو الذي يملك سر التاريخ. وأول جريمة قتل حدثت على الأرض كانت بين ولدي آدم، فقال الأول: لأقتلنك وقال الثاني: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. ومن هذه القصة تتولد تلقائيا طريقتان لحل المشاكل: من يهدد ويقتل. ومن لايهدد، ولا يخاف من التهديد، ولا يمد يده بالقتل، ولا يدافع عن نفسه أمام القتل أي أن هناك مذهبان في العالم: العنف والسلامي وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف هي مسألة التاريخ. وعندما قتل ابن آدم الأول أخاه كان بسبب العجز. والإحباط يقود إلى العدوانية. والعواطف دارات متداخلة. ومن أقدم على الجريمة ليس الناجح بل الفاشل، فلم يتقبل منه قربانه فقال لأخيه لأقتلنك. وهذه القصة حافلة بالرموز لمن (يتأملها). وهي تعرض أسلوبا جديدا في فك الصراعات بالتخلي عن القوة من طرف واحد.. ولكن هذا يحتاج إلى وعي مختلف نحن بعيدون عنه مسافة سنة ضوئية

يقول عالم النفس السلوكي (ف. ب. سكينر) إن العنف يبدأ في الرؤوس قبل استخدام الفؤوس. وما وراء الإرهاب هو فكر الإرهاب. وما يحصل لنا هو صناعة أيدينا، فهذه حقيقة سيكولوجية. العنف يبدأ فكرة في الذهن أو شعورا بتحقير الآخر والانتقاص منه والاستخفاف به واعتباره الأدنى الذي يجب تطهير الأرض من دنسه، وينتهي بسفك الدماء على الأرض وفسادا في البر والبحر والعنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وأغصانها الخوف وثمرتها الجريمة. والتعصب أوله إغلاق لمنافذ الفهم وآخره حرب أهلية. والتشدد أوله تدين خاطئ، ووسطه حماس بدون وعي، وخاتمته قتل وسفك دماء. إن الثورة الزراعية حررت الإنسان من الجوع للمرة الأولى في تاريخه وكان ذلك قبل تسعة آلاف سنة فمع اكتشاف المرأة للشجرة ونظام الزراعة كما أشار إلى ذلك (ديورانت) في (قصة الحضارة) حصلت وفرة في الغذاء وبدأت أعداد البشر تتزايد والمدن تعمر والأنظمة السياسية في الولادة. ومع ولادة النظام السياسي ولد (عنف الدولة). فبقدر ماكان إشباع حاجات الإنسان (الاقتصادية) من السلع والخدمات يتم بطرق سلمية فإن الفعالية السياسية هي على النقيض من ذلك وتمارس بالضغط على الآخرين وبتعبير عالم الاجتماع (ماكس فيبر) في كتابه (الاقتصاد والمجتمع) في وصفه للدولة أنها:( تحتكر العنف الجسدي الشرعي). ومع احتكار الدولة (آلة العنف) ظهرت (القوانين) التي تنظم علاقات الأفراد. يرى (بيير فيو): (أن الإضاءة التي تسلطها العلوم الإنسانية على العنف غنية بالعبر لان العنف ليس حادثا عابرا بل هو وضع مألوف من التوترات والمجابهات ولأن العلاقات الإنسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات وبذلك يكمن العنف كتهديد دائم قابل للانفجار دوما). ويرى (ابن خلدون) أن المجتمع الإنساني يشكل (ضرورة) انطلاقاً من حجتين (تأمين الغذاء) و(نظام الحماية) وتحت المبرر الثاني نشأت مؤسسة العنف بكل أذرعتها من الجيش والبوليس والاستخبارات. إن مشكلة وجود الإنسان في المجتمع كما يقول (لالند) في كتاب (المجتمع والعنف):( إن الإنسان شخص مستقل يحدد بنفسه القوانين التي يخضع لها وأن المجتمع جماعة منظمة تطالب أعضاءها باحترام عدد معين من القواعد والاكراهات وإن وضع الإنسان النزاعي يلخص بالتوازن غير المستقر والضروري لهذين المطلبين المتضاربين). أو كما يرى الفيلسوف (برتراند راسل) في كتابه (السلطان):(تجد المخلوقات البشرية أن من المجدي لها أن تعيش في جماعات ولكن رغباتها خلافا لرغبات النحل تظل فردية إلى حد كبير ومن هنا تنشأ المتاعب في الحياة الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومة إذ بدونها لاتستطيع إلا نسبة صغيرة من السكان في البلاد المتحضرة أن تأمل في البقاء وأن يكون بقاؤها في وضع من العدم يدعو إلى الإشفاق. ولكنها تنطوي على عدم تكافؤ في السلطان إذ أن من يملكون أكثره يستخدمونه لتحقيق رغباتهم التي تتعارض مع رغبات المواطنين العاديين. وهكذا فإن الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة ومن الضروري العثور على نوع من التفاهم على حل وسط إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادة). ويذهب (علي الوردي) في موسوعته عن المجتمع العراقي تحت عنوان (الطبيعة البشرية) أن مشكلة الدولة أنها استطاعت باحتكار العنف أن تضمن (أمن الأفراد) ولكن المشكلة أن الأرض فيها العديد من الدول ولايوجد دولة عليا تضمن (أمن الدول) بين بعضها البعض كما فعلت الدولة بين الأفراد. وهذا هو سر اندلاع الحروب في التاريخ فالحرب هي ظاهرة اصطدام مربعات الدول أو مرافقة لتفكك الدول في الحروب الأهلية

إن مشكلة العنف هي في قلب البدايات كما عبر الشاعر الألماني (غوته):(في البدء كان الفعل) في الوقت الذي ابتدأ الإنجيل بالكلمة (في البدء كان الكلمة) أي (اللوغوس) وأول كلمة نزلت في القرآن كانت(اقرأ). ومن هنا فإن أعظم الأضداد الإنسانية في الوجود هي (اللوغوس) مقابل (العنف) وكما يقول (ب.ريكور):( إن القول والعنف هما أعظم الأضداد الإنسانية في الوجود الإنساني وإن تأكيد ذلك باستمرار هو الشرط الوحيد لاكتشاف العنف في مكمنه). إن العنف في الثورة الفرنسية انطلق من تصور مفهوم حماية المواطن الصالح كما عبر روبسبير:(أن الحكومة الثورية ملزمة بتوفير الحماية الوطنية للمواطنين الصالحين أما أعداء الشعب فليس لهم إلا الموت). أما الماركسية فرأت في العنف وسيلة وحيدة لهدم البنى القديمة كما جاء في البيان الشيوعي وطبقه ستالين بموت عشرين مليون إنسان.

ويرجع صراع الإفراد إلى تركيب الدماغ، فدماغ أحدنا مركب من ثلاث طوابق، أعلاه الحديث وعمره نصف مليون سنة، أما الدماغ السفلي والمتوسط وهما مسئولان عن المراكز الحيوية والعواطف فعمرها أكثر من مائة مليون سنة، وبينهما قدر من التفاهم، وبذلك فإن دماغ أحدنا فيه ثلاث أدمغة وليس واحداً وبثلاث لغات وبدون ترجمان، والانسجام موجود بين الدماغين السفلي والمتوسط منذ مائة مليون سنة، خلافا للدماغ الجديد المتشكل منذ نصف مليون سنة، وغير المنسجم والمتفاهم مع الدماغين الآخرين. وهذا يعني أن العدوانية مغروسة في البيولوجيا ولسبب حيوي فالغضب والانفعال آليتان للحفاظ على الحياة، ولولا الغضب ما عاش الإنسان، ولكن المشكلة كما جاء في كتاب (الذكاء العاطفي) أن تكون العواطف بما فيها الغضب تحت سيطرة الدماغ العلوي، الأحدث والأكثر تطورا والتي تميز الإنسان عن البهيمة، وهو أمر تربوي، وهذا الوعي الخاص كسبي،والإنسان يولد من بطن أمه لا يعلم شيئا، ثم يبدأ العقل السنني في التكون، وهذا يحتاج إلى تأسيس كل مرة، ومن ينظر في كيفية أكل الحيوانات بعضها بعضا، يدرك أثر هذا في تصرف البشر، الذين هم ثلثان من تمساح وسبع ضاري، فوقه ثلث من كائن عاقل يحاول ضبط الوحشين. وحسب كتاب (الذكاء العاطفي) لـ (دانييل جولمان) فإن الدماغ المتوسط موضع العواطف مهم جدا للتصرف، ومركزه في الأميجدالا في الفص الصدغي، ولكنه مرتبط بالدماغ العلوي، وعدم انضباط هذا المركز العاطفي مع قشرة الدماغ العليا، هو الذي يقود للانفجارات العاطفية وكوارث الانفعال وبالتالي يفسر (لا منطقية) الإنسان. وكما وجد الصراع وعدم الانسجام في البيولوجيا فهو في علم الاجتماع أشد، فالفرد حينما خرج من الغابة ودخل الدولة لم يعد في مقدوره حل نزاعاته مع الآخرين بالقوة، مع كل زخم اندفاع القوة الحيوانية من التمساح والسبع، بسبب أن الدولة تحتكر القوة فتحكم بين الأفراد فيما كانوا فيه هم مختلفون. ولكن كما يقول عالم الاجتماع العراقي (الوردي) فإن هذا لم يوجد بين الدول، فالدولة تملك الإفراد، ولكن لايوجد دولة عليا تملك الدول. وهنا وفي هذه النقطة تنشب الحروب وصراعات الدول. والدولة بوظيفتها الأساسية من (توفير الأمن) للأفراد تجعل الحياة متحملة، وأي نزاع ينشب بين الأفراد تتدخل الدولة ولو بالقوة المسلحة العارية فتفضه، ولكن لاتوجد مثل هذه القوة بين الدول، فاستمرت الحرب بين الدول حتى اليوم، وأي مراقبة للصراع البشري في ظاهرة الحرب تتبدى هذه الظاهرة على شكل واضح. وجمعية الأمم المتحدة وما شابه هي محاولات متواضعة لإنشاء مثل هذه القوة العالمية التي تفك النزاعات بين دول المعمورة، ولكن لم يتحقق هذا حتى الآن، وأعظم مرض أصيبت به البشرية هو ولادة مجلس الأمن المشئوم، الذي أعاق ولادة العدل حتى اليوم، وربما وقد تكون الوحدة الأوربية نواة مثل هذا المشروع التاريخي. والعنف لا يحرر الإنسان بل يأسره لعبودية القوة، والعنف يعتمد الجهاز العضلي ويلغي الجهاز العصبي العقلي، وبالعنف لا يمكن بناء أي ديمقراطية، والعنف وصل إلى نفق مسدود ويودعه العالم اليوم كأسلوب فاشل، اللاعنف هو أسلوب الأنبياء في صناعة المجتمع

ومشكلة العنف تدور في مثلث من (العدل والأمن والحريات) ينعكس كل طرف على الآخر، فلا يمكن أن تنطلق الحريات في مجتمع بدون قدر كاف من الأمن، ولا يترسخ الأمن بدون وجود العدل،

العنف لا يحل المشاكل بل يعقدها أكثر ويولد المزيد من العنف، أما السلم فلا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم ولو على المستوى الزمني البعيد(ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)·

وفي حقل التغيير العنف لا يغير لأنه لا يلامس الوتر الذي يجب أن يعزف عليه أهل الإصلاح والتجديد وهو وتر تغيير ما بالأنفس و هناك علاقة تلازم بين العلم والسلم؛ فكلما ازداد الإنسان نضجا ورشدا وتسلحا بالعلم مال إلى حل المشاكل سلميا والعكس بالعكس وقد وصل الغرب إلى إدراك هذه الحقيقة من خلال معاناة شديدة وكلفة باهظة من الضحايا والدماء ولكنه مازال متخلفاً أخلاقيا ويبيع السلاح للدول الفقيرة أو الجاهلة مع معرفته الأكيدة أنها عتاد ميت؛ وهكذا فإن الحرب توقفت ولكن الوهم مازال قائما إنه يمكن الاستمرار بحل المشاكل بالحرب كما ظن ميلوسوفيتش وصدام وشارون وبوش وكثير من العرب، فحق عليهم العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يريد·