يروى عن هاورن الرشيد أن غمامة مرت فوق رأسه فخاطبها قائلا: اذهبي حيث شئت فخراجك سيأتيني. إنها قصة ممتعة تدخل نشوة فائقة إلى نفوسنا. ولكن لا نسأل من الذي سيدفع الخراج؟ وعندما نكون في صف من سيأخذ (الخراج) لا تخطر في بالنا عذابات الأقوام وذلهم كي يدفعوا المال للإمبراطور. وبالمقابل فإن طرق إنفاق المال الإمبراطوري تذكرها كتب تاريخنا أنها مفخرة، فعندما تزوج ابن هارون الرشيد (المأمون) من (بوران) أنفق من خزائن أبيه (هارون) كل الخراج الذي سحت به مياه السحابة التي رآها أبوه يوماً. وكان هذا الاحتفال الإمبراطوري للمأمون بعد أن خرَّب بغداد في حرب أهلية دامت 14 شهرا ثم احتزت رقبة أخيه الأمين بالبلطة وجيء بالرأس المقطوع على طبق لصاحب (دار الحكمة) ودشن اضطهادا عقليا بفرض فكر المعتزلة بقوة السلاح، فكان العلماء يحملون إليه أذلاء معتقلين فمن قبل بفكرة خلق القرآن خلوا سبيله ومن رفض كان مصيره النطع والجلاد.
ومن قوانين التاريخ أن كل فكر فرض بالإكراه كان مصيره الفناء. وهكذا اختفى فكر المعتزلة واندثر تراثهم بسبب حماقة المأمون ولم يكن بحاجة للخناجر. وتم اغتيال العقل على نحو منظم على يد الاتجاه النقلي تحت عيون جواسيس السلطان. لينتهي بثلاث كوارث متتابعة: الاستبداد الديني الذي قاد إلى الاستبداد السياسي والذي قضى بدوره على جهاز المناعة في جسم الأمة فانسحبت من التاريخ وانقلبت محاور الأرض وحبس العرب في زنزانة البحر المتوسط وظهرت حضارة الأطلنطي وهي تملك الديمقراطية ومؤسسات البحث العلمي ومصارف المال والقوة الحربية.
إن قصة هارون الرشيد ليست الوحيدة بل هي قانون متتابع للقوى العظمى حينما تسكر بخمر القوة قبل أن تفاجأ بالسقوط بغير استعداد. وعندما كان السلطان العثماني ينبه أن هناك تطورات هامة تحدث في الغرب كان جوابه: سلطان المسلمين لا يزور بلاد الكفار إلا فاتحا. في الوقت الذي كان اسحق نيوتن يكتشف قانون الجاذبية. ونفس هذا المنطق ظهر في الرسالة التي وجهها سفير الملكة فكتوريا لسيدته وهو يصف الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. واليوم تقلصت الإمبراطورية العثمانية إلى تركيا صغيرة. وانحجبت كل أشعة الشمس عن بريطانيا العظمى فهي تعيش في الضباب وحرب داخلية بين الكاثوليك والبروتستانت.
هذا المرض إنساني ويمكن أن يصيب أي طاغية. تعرض لهذا الوباء (نابليون) فحمل مدفعيته بنصف مليون جندي ولم يرجع منهم سوى 5% ومات في النهاية مسموما بالزرنيخ في جزيرة تذكر بجهنم. وأصيب به (هتلر) فهلكت عساكره على ضفاف الفولكا عند ستالينغراد ومات هو في النهاية منتحرا بالرصاص. واستولى هذا الحلم على جندي ألباني مغامر وضع يده على مقدرات مصر بالخناجر والاغتيالات هو (محمد علي) الذي تلقب (بالباشا) ثم حمل جنوده حتى حافة الأستانة فخاب وندم. واليوم يحلم بهذا (شارون) ملك أسبارطة الجديد في دولة ترفض أن يكون لها حدود إلا حيث امتدت قوة السلاح.
ويقف اليوم (بوش) مترنحا بخمر القوة لا يقاوم أغراءه. وهو يستعرض 65 قاعدة عسكرية له في العالم مثل روما. ويتأمل جهنم أرضية في (جنين) وقودها الناس والحجارة بدون أن يطرف له جفن. مذكرا بمذبحة الماسادا اليهودية التي نفذها تيطس عام 71 م.
إنها سخرية التاريخ مع القوى العظمى. كيف تقوم وكيف تنهار وهي في أوج قوتها وعظيم عسكرها وتسلحها. يقول توينبي المؤرخ البريطاني عن علة انهيار الحضارات إن دولة آشور «ماتت مختنقة في الدرع» فلم يكن ينقصها سلاح، وكانت تطور آلتها الحربية باستمرار وإتقان، وأخضعت شعوب المنطقة بذراع عسكرية بطاشة، وسوت العديد من المدن بالأرض، وعندما استنزفت بما فيه الكفاية تحولت إلى جثة في درع ميت. ثم دفنها التاريخ. وبعد قرنين من اختفائها مر (كسينوفون) المؤرخ اليوناني مع فرقة عسكرية فهالته فخامة التحصينات ولم يكن هناك شيء اسمه آشور. والذي نبش هذه الدولة الرهيبة من مرقدها للمرة الأولى في التاريخ كان (هنري لايارد) في منتصف القرن التاسع عشر.
إن علة اختفاء هذه الامبراطوريات من التاريخ هي نفس علة اختفاء الديناصورات التي حكمها عقل قاصر مع جبروت مذهل من قوة العضلات فاختفت من وجه البسيطة وبقيت عظامها العملاقة تدل على مرورها في الزمن السحيق قبل 65 مليون سنة. هذا الاصطدام مع قانون التاريخ ساحق ماحق وارتدادي. لكن يبدو أن الديناصورات عديمة الفهم فلا تتعظ بما يحدث. فبقدر ضخامة أبدانها ضآلة عقولها. وأمريكا اليوم باعتبارها الديناصور اللاحم الأكبر لم تتعظ بحادث البرجين فلم تراجع نفسها: لم حدث ما حدث؟ وعندما تفقد آلية النقد الذاتي تتوقف آلية التصحيح والنمو. وهناك ارتباط عضوي ما بين قدرة مراجعة النفس والتوبة وتصحيح المسار في الاتجاه السليم. ولكن قدرة النقد الذاتي هي قدرة أخلاقية وليس تكنولوجية. وقد تستطيع التقنية تركيب كمبيوتر بتريليون عملية في الثانية لكنها لا تستطيع رفع المستوى الأخلاقي نصف درجة. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وعندما انتقل التحدي في وجه الحضارة

الفرعونية من (البيئة) إلى (النفس) كما يقول المؤرخ توينبي قصرت عندها الطاقة الإبداعية ووضع الموت يده الباردة عليها. ولعل هذه المرحلة هي التي واجهها موسى عليه السلام حيث انقلبت الحضارة الفرعونية من حضارة (حياة) إلى ثقافة (موت) وكان الشعب كله يسخّر لإقامة قبر هائل لشخص فان، فصب عليهم ربك سوط عذاب. هارون الرشيد والملكة فكتوريا وجنكيز خان والجندي المغامر محمد علي الذي تلقب بالباشا وشارون وبوش كلهم يرضعون من نفس الثدي الملعون من ثقافة الإمبراطورية والاستعلاء، وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين. واليوم تتحرك مظاهرات في العالم العربي تريد تكسير المرافق العامة. لكن التظاهرات هي حالة إعلان الوعي أكثر من الانزلاق للفوضى. والجماهير مع الحكام لا يؤمنون الا بالثقافة الإمبراطورية، فإذا صار الأمر إليهم تحولوا إلى جبارين. إن الداء الدوي الخفي هو وضع القوة فوق العقل، ومع أن اليابان تشبه آية الشمس حينما تحررت من القوة فصعدت بدون سلاح لكن (السوبرنوفا) مع كل استعارها الأعظم لا يراها من كان أعشى يمشي بعصا وكلب. والثورة الفرنسية لم تحل المشكلة كونها جاءت بالقوة ورجعت الملكية بعد الإمبراطورية ولم تولد الديمقراطية في فرنسا إلا بعد هزيمة نابليون الثالث عام 1870 أي بعد قرن من احتلال الباستيل. والديمقراطية لا تولد مرة واحدة بل هي شجرة تكبر مع الزمن وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.وإذا صارت لنا القوة مثل هارون الرشيد فلسوف تسيطر علينا (ذهانات) القوة للسيطرة على العالم. والقضية الفلسطينية لا تخرج عن هذا التصور. كما أن تركيبة العالم السياسية هي ضمن هذه المنظومة. فنحن واليهود نؤمن بالقوة سبيلا للخلاص. وأفغانستان نموذج فاقع لونه لا يسر الناظرين. ولم يستطع الأفغان حل مشكلة بلادهم بأيديهم. وتم حل المشكلة (مؤقتا) بقانون الديناصورات، أي أن من يعتمد على القوة يأت من هو أشد منه بأسا فيقضي عليه، ويتم تبادل الأدوار وفق قانون العضلات وتغييب الوعي. وقانون الأنبياء يسلك طريقا مختلفا بتحرير الإنسان ليس بالقتل بل بالحياة. لذا اعتبر القرآن الشهادة نوعا من الحياة، والشهادة معنى ضخم فيها يموت الإنسان من أجل أفكاره فيدفن صاحبها في التراب مثل البذرة لتنمو الفكرة. لكن القتل لا يأتي إلا بالقتل. والحضارة الغربية اليوم عجزت عن صنع (كلمة السواء) لأن العالم مبني على (الشرك) أي حق (الفيتو) وما لم يتشكل برلمان عالمي يوافق بأغلبية الأصوات على قرارات قابلة للتنفيذ فسوف تبقى إرادة العالم مصادرة بيد ديناصورات القوة. وطالما كان العقل مغيبا فإن العالم سيعيش حالة الغابة وسوف يدفع الثمن في صورة حروب أهلية وعالمية وعرقية ودينية وربما نووية حتى يرجع، بعد أن يعبر جسراً من المعاناة فوق نهر من الدموع. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.