«اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، «العلم كالماء والهواء»

حينما دخلت مكتبة الواسع رأيت هاتين اللوحتين خلفه على الجدار معلقتين ومخطوطتين بخط كوفي.. وعلى يمينه وقفت مكتبة شاهقة على وسع الجدار احتوت نفائس الكتب ومراجعها.. اجتاحتني رغبة أن أمد يدي وأتفحص أحدها، لكنه بادرني:

– أهلاً بك.. تفضل. أدركت أن لا وقت لديه ويجب عليّ أن اقول ما اريد وأمضي بسرعة..

تلعثمت قليلاً وشعرت أن أحشائي تلتهب، حاولت أن أستجمع قواي وأقول ما جئت من أجله.. لابد أنه لن يسيء فهمي ويظنني استغل اسمه الكبير. قلت له وأنا أحاول الهروب عن عينيه المحدقتان بي وكأنهما أفواه تحاول أن تلتهمني..

– إني آسف لإزعاجك.. ولكني فقدت كل حيلة.. وأنا أحاول تسجيل ولديّ في المدرسة.. ولكني لم أستطع دفع حتى رسم التسجيل!

أجابني مقاطعاً وشعرت أنه أراد أن يقطع عليّ حرجي في شرح الموضوع..

–    إنها مشكلة واسعة.. يعاني منها الكثير في هذا المجتمع.. والحقيقة أنني لا أستطيع أن أفتح باباً في هذا المجال..

–    ماذا.. ولكن..

فهمت ماذا يعني.. خرجت دون أن ألمح وجهه الذي غاب في ضلال ضبابية كشبح غائر في العتمة… تبخرت كل مزاياه وصفاته التي كنت أسمع عنها وبصقت على كل كتاباته التي قرأتها.

و خرجت وأنا ألهث – وفي الخارج توقفت قليلاً وأشعلت سيكارتي وتنفست بعمق.. بماذا سأجيبه؟ وبماذا سأكذب عليه هذه المرة..؟

هل المدرسة ما زالت مقفلة؟.. وهو يرى أقرانه يذهبون كل صباحٍ إلى المدرسة.. ويرجعون ظهراً وهم يتضاحكون ويعبثون في الشارع يحملون حقائبهم الحبلى.. هل سأخبره أن المدرسة تحت الصيانة وسيتأخر قليلاً؟..

أسئلة كثيرة كنت أتوقعها منه.. ولد ذكي.. وقد اعتدت أن أشاطره الحديث كصديق لي بكل حرية..

حاولت أن أسلك طرقاً ملتوية وبعيدة عن المنزل.. أتمشى هنا وأقف هناك، لكن نظراتي كانت تصطدم بجمهرة من التلاميذ وهم يمرحون وابتساماتهم العريضة تروي فرحهم الطفولي.. تمنيت لو أنه أحدهم. وهو يعود ظهراً وعلى وجهه «طبعة» تطبعها معلمته له لأنه «شاطر» ويخرج لي ورقته التي نال فيها 19/20.. لكني أبعدت الصورة عني.. فلست ممن يحلمون تحت الشمس، هززت رأسي ومشيت وضحكت في سري.. فتمة تناقض كبير نعيشه.. فرغم اشكالاتنا واعتراضاتنا على النظام العراقي لكن القسم الذي كنت أدرس فيه كان يضم عشرات الطلبة من العرب الذين يدرسون مجاناً.. وكانت الدولة  توفر لهم المسكن والراتب الشهري..! وفي هذا الشهر بالذات.. بداية العالم الدراسي لن ترى طفلاً واحداً يقف خارج المدرسة متطلعاً الى التلاميذ ومتحسراً لأن ابيه لا يملك رسم التسجيل!

وضحكت وأنا أهز رأسي.. حتى التفت إلى بعض المارة وهم يرقبونني بدهشة.. حاولت أن اقطع ضحكتي وأمضي.. لكني وجدت نفسي أضحك بصوت عالٍ هذه المرة.. حينما برز سؤال في داخلي.. لو أنني سافرت إلى أمريكا أو اوروبا.. هل سأجد أطفالي وبعد شهر من بداية العام الدراسي دون مدارس..؟ وهل كنت سأتحايل على إبني وأسمعه أكاذيباً وقصصاً وهمية كي لا يشعر بالنقص عن أقرانه..

و هل ستضطر زوجتي أن تخادع المرض كي لا تقف كالمتسولة على عتبات مستشفى «قلب يسوع»، أو «الرسول الأعظم» أو «الزهراء» وانتحيت زاوية لكي أستريح من لهاثي.. وأدخن سيكارتي ببطء.. وأنا أحاول أن أستجمع كل أكاذيبي كي أجد عذراً يرضي إبني.. حاولت أن أهرب عن البيت بخطوات بطيئة وغبية..، لكني وجدت نفسي في آخر النهار خائراً.. ومتعباً.. وحينما وصلت.. طرقت الباب.. وسمعت من خلف الباب خطواته العجلى وصوته يصرخ «جاء بابا.. جاء بابا» وحينما فتح الباب بادرني سائلاً وهو يتطلع إلى وجهي: هل سجلتني في المدرسة يا بابا؟»

فأجبته دون أن أنظر إلى عينيه: كلا.. فمدرستك لم تبدأ بعد..