الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)
الحلقة الثانية
أما الاستفهام الأول وهو: «كيف انحدرت الأمة من قمة الكمال إلى درك الهوان» فهو ما نحاول الجواب عليه في هذه الصفحات، بتحليل الصفحات الغامضة من حياة الأمة، واستنتاج العبر منها، كي لا تكرر المأساة.
لقد سلخت الأمة أدوارها البدائية، متوفرة ضخمة -على خلاف سيرة الأمم التي تنشأ ضئيلة هزيلة- لأن الله قد خصّها بالمقدسات وخصها التاريخ بالحضارات، وخصها الإسلام بمناعة ارتطمت على جبروتها أعتى الأمواج الزاحفة من كل مكان، لطمسها وكبت إرادتها المتدفقة، التي كانت تهدد كل باطل نفضت اللحوم عن العظام، فقد انحرفت قيادتها إلى قادة ما أنزل الله بهم من سلطان، ولم يؤمنوا بالله ولا بالرسول، وجعلوها تراثاً تنتظر بها الحبالا، وتتحكم في مصيرها الإماء -بعد ما كانت قيادة تضمنها العصمة، ويقرها الله بنص صريح- وثار المسلمون بقيادة الإمام الحسين(ع) وواصلوا الكفاح الأعزل حيناً والمسلح أحياناً، حتى انتزعوها عن الأسرة «الأموية المروانية» لكنها انتهزتها «الأسرة العباسية» وكان نتاج عبرتها من العهود المبادة قبلها: أن توغلت في المتاهات وامتنعت من الانحراف. وتتابعت ثورات مخلصة وانتهازية، غير أن المخلصة كانت تفشل، والانتهازية قد كانت تنجح، فتتحكّم فيها الاستئثارات الفردية، فتشغلها بشهواتها، وتجمّدها عن الانطلاق إلى الهدف المصيري الحاسم، وتنحرف إلى حيث تنفضّ عنها الأمة، أو ينقض عليها ثائر، أو لا يبقى لها في الأمة رصيد ولا قاعدة تثبتانها وتسوّرانها عن الاعتداءات، فتتسارع الحكومة العباسية، للطغيان عليها واستدراجها، فيتدل عليها الستار، أو لا يبقى منها إلاّ عبرة، تشهرها «الأسرة العباسية» لتوتير أعدائها، وتضعيف الثورات ضدها.. غير أن اليأس لم يقدر على تجميد الأمة كلها، وإن سيطر على القطاعات الواسعة منها. فبقي الأفق مربداً تتراقص في حواشيه البروق، وتزأر الرعود، ولكنها كانت أعجز من أن تخرق مسامع الحكام المتسلطين، الذين انغمسوا حتى قمم رؤوسهم في السكر والمجون… ووجد المصلحون، الذين حاولوا نصح الحكام بالتي هي أحسن، ولكن عندما أرادوا الاتصال بهم، وجدوا دونهم ألف باب وباب، وحينما رأوا التفاهم معهم، رأو بينهم ألف حجاب وحجاب، وشاءوا تصميم الحركات التأديبية ضدهم، فشاهدوا بانتظارهم ألف تفسير وتفسير، وألف تهمة وتهمة، فاقتنعوا بتسجيل مشاعرهم للتاريخ..
وبعد ما اطمأن الحكام المنحرفون، إلى استقرار مراكزهم، واختناق المعارضة، انصرفوا كلهم إلى اشباع مطامعهم، وسخّروا الدولة الإسلامية كلها، لعملية ارواء هذه الأطماع حتى التخمة، فتوغروا في السكر والمجون… ووجد المصلحون، الذين حاولوا نصح الحكام بالتي هي أحسن، ولكن عندما أرادوا الاتصال بهم، وجدوا دونهم ألف باب وباب، وحينما رأو التفاهم معهم، رأوا بينهم ألف حجاب وحجاب، وشاءوا تصميم الحركات التأديبية ضدهم، فشاهدوا بانتظارهم ألف تفسير وتفسير، وألف تهمة وتهمة، فاقتنعوا بتسجيل مشاعرهم للتاريخ…
وبعد ما اطمأن الحكام المنحرفون، إلى استقرار مراكزهم، واختناق المعارضة، انصرفوا كلهم إلى اشباع مطامعهم، وسخّروا الدولة الإسلامية كلها، لعملية ارواء هذه الأطماع حتى التخمة، فتوغروا في السكر والمجون العابث، الذي تقدر غيبوبته الأسابيع، ونظموا رحلات الصيد، التي تقيس فتراته الشهور، وتواروا في شؤونهم الخاصة عن قضايا الأمة والدولة، مدداً تطاول لسنوات.
وتوسعت القصور التي تمسحها عشرات الأميال، وملأوها بالشعراء الذين تعدهم بالمئات، واستوردوا من أطراف الدنيا كل جميل وجميلة، حتى كان لكل خليفة جحافل من الجواري والغلمان، التي تحصيها بالألوف، واشتروا ملكات الجمال والمغنيات، بمئات الألوف والملايين، ووصلوا أقربائهم بعشرات الملايين، وجمّدوا في خزائنهم خزائن الأرض، التي تقيمها مئات الملايين وألوف الملايين… وأهدروا دماء سلالات، وأبادوا قبائل، واستأصلوا أسراً عن بكرة أبيها وشحنوا السجون وأكثروا الأغلال، وعاشوا مردة جبابرة، أصغر مستخدم عندهم يزيد على أكبر فرعون، باسم الرسول الذي كان رحمة للعالمين.