لقد كثرت في القاموس السياسي الاصطلاحات والتعابير التي تلقى على عواتقها بدون ان تحدد لها معانٍ وتعاريف ثابتة حسب ما يحدده علماء المنطق من ان التعريف لأي شيء يجب ان يكون جامعاً يجمع جميع أفراده ومانعاً من دخول الاغيار فيه في آن واحد على الصعيدين النظري والواقعي، لذلك بقيت هذه الاصطلاحات هلامية المعالم والابعاد والالوان فلا يحدها شيء وليس لها الوان ثابتة في العقل والوجدان ولا يمكن تحسسها بالحواس الخمسة فراح كل منّا يفسرها على طريقته الخاصة وحسب ما تتسع لها معلوماتنا في هذا الفن أو ذاك وبما يخدم مصالحنا أو غاياتنا ويتطابق مع مشاربنا الفكرية أو مدارسنا الفلسفية ومن تلك المصطلحات الوطن، الحرية وما الى ذلك من كلمات عجز السياسي والفيلسوف ان يحدد لها ابعاد دقيقة تصبح بموجبها مصداقاً جامعاً لموضوع معين مانعاً لدخول الاغيار فيه.

وأخيراً ظهر مصطلح العنف واللاعنف وبالرغم من انتشارهما السريع في دنيا السياسة الاّ  اني لم أجد في معظم الدراسات العميقة والسطحية تعريفاً محدداً بصورة منطقية لهذين المفهومين يبرزهما بشكل لا يقبل اللبس ويحدد ابعادهما في النظرية ولا في الواقع التطبيقي.

ففيما تستلهم مدرسة اللاعنف نظرياتها ومفاهيمها من سياسة غاندي في الهند إبان نضاله ضد الاستعمار البريطاني وتستشهد بالكثير من أقواله وأفعاله وتقريراته في هذا المضمار نجدها تحدد معنى اللاعنف بنبذ الخيار العسكري والعمل المسلح لتحقيق الاهداف المرجوة في التحرر والانعتاق من نير العبودية للاستعمار أو للوصول الى بعض المطالب النقابية المحدودة وحتى الثورية التغيرية للاطاحة بالانظمة الفاسدة والمستبدة، ولكنها لا تتوانى في تجنيد جميع عناصر القوة الاخرى كالاعلام، الاضراب، المقاطعة.

الاستشهاد والتضحية على هذا الطريق وكذلك المظاهرات والاعتصامات وحتى الاضراب عن الطعام.

بينما ذهب آخرون ممن يدعون الانتماء الى ذات المدرسة السياسية أي مدرسة اللاعنف الى تصويره نوعاً من الاستسلام السلبي ونبذ جميع اساليب استخدام عناصر القوة واعتبروها جميعاً تصب في خانة العنف الذي هو أقبح ما يشوه تاريخ الانسانية كما يعبرون.

يقول جان – ماري مولر:

«الاجدى بنا ان نضع اللاعنف في مواجهة التعاون الذي تقوم به الاكثرية مع الظلم القائم. وفضلاً عن ذلك يجب ان نؤكد من جديد، اذا لم يكن من خيار الاّ بين المقاومة العنيفة وبين التعاون «مع الظالم طبعاً» فانه من الأفضل اختيار المقاومة العنيفة» ص 67.

لماذا استعمال القوة: –

لا بد من الاشارة أولاً الى ان القوة ليس مرادفة للعنف وذلك لعدة أسباب أولها ان العنف حالة نفسية قد ترادف معنى العصبية وثانياً لان القوة لا تعني بالضرورة استعمال الاسلحة النارية أو البيضاء ولو انها قد تكون أحد مصاديق القوة يقول الله تعالى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم».

فلا تعني القوة هنا الاستعداد العسكري فقط: بل تشمل عناصر كثيرة منها الاتحاد ففي الاتحاد قوة، ومنها القوة الاقتصادية والتنظيمية والمؤسساتية التي تعتبر من ركائز المجتمع المدني وأخيراً تعرج الآية الى القوة العسكرية بقولها: «ومن رباط الخيل».

ويقول الحديث الشريف «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف» وبديهي أن الرسول  (ص) لا يقصد بذلك المؤمن العنيف بل المؤمن القوي في ايمانه وفكره وعقله وصبره وما الى ذلك من معان القوة ولا يستثنى منها القوة العضلية الجسمية وحتى التسليحية فيصح ان نقول المؤمن المسلح خير من المؤمن غير المسلح أو نزوع السلاح.

وليس في كل ذلك أي معنى من معان العنف التي قد يسيء فهمها البعض ويصنفونها على أنها اشكال من العنف الممقوت حتى ذهب أحدهم الى اعتبار وسائل الدفاع الطبيعية عند الحيوانات مثل القرون، والانياب والابرة عند النحل شكل من أشكال العنف.

«وقد تكون تلك الاساليب بدائية بسيطة تبرز في الشتم والسب والتعيير أو حيوانية تبرز في العض والركل والسقط والنهش والضرب»([1]).

ولكن توينبي يقول ان قانون الحياة قائم على التحدي والاستجابة الايجابية للتحدي، فكلما كانت التحديات كبيرة وقاسية تفتق عقل الانسان عن الابداع في الاستجابة الايجابية لتلك التحديات وعلى هذا الاساس تم إختراع الآلة وتطورت لتبلغ هذا التقدم الهائل الذي وصلت اليه البشرية في التكنولوجيا والعلوم المختلفة، ويستشهد على ذلك بقيام أرقى الحضارات الانسانية على ضفاف أعتى الانهار وأشدها قسوة وصعوبة مثل النهر الاصفر في الصين والنيل في مصر والفراتين في العراق.

هذا القانون الحياتي يشمل جميع نواحي حياة الانسان المادية والمعنوية. وفي القرن الماضي اكتشف نيوتن هذه القوانين الطبيعية وصاغها على شكل معادلات فيزيائية فجاء في احداها «إن لكل فعل فعل مساوٍ له في المقدار ويعاكسه في الاتجاه».

وجاء في قانونه الآخر «إن الجسم يبقى على حالته من السكون او الحركة في خط مستقيم الاّ اذا تعرض لقوة معينة فعند ذلك يضطر الى تغيير تلك الحالة».

فالظلم والاستبداد والاستهتار بالقيم والناس وكرامتهم ومصادرة حرياتهم يستمر على حاله ما لم تعترضه قوة معنية تضطره الى تغيير تلك الحالة.

صحيح ان الله عز وجل يسيّر ويدبّر هذا الكون من غير ان يمارس فيما خلقه وابتدأه لغوباً ولا علاجاً ولكن ليس للبشر تلك القدرة الالهية ولذلك فهو يحتاج لتقويم حياته واستمراريتها وديمومتها الى ممارسة اللغوب والمعالجة، يقول الله سبحانه وتعالى «لقد خلقنا الانسان في كبد»، هذه المكابدة والمعاناة يمكن لمسها في كل قضية صغيرة وكبيرة في حياة الانسان فعندما يحتاج الى طريق سالكة في الجبال الوعرة تسهّل عليه المواصلات، فانه سيضطر الى فتح الانفاق في الجبال..!

بماذا يمكنه ذلك؟!

هل بالعصيان المدني أم باستعمال القوة الكامنة في انفجار اصابع الديناميت؟!

وعندما يريد ان يخترق عنان السماوات والفضاء اللامتناهي ليصل الى المجرات والكرات الاخرى، بماذا يمكنه ذلك؟! وكيف يتمكن من التغلب عل القوة المانعة التي تشده وتجذبه الى الارض؟!

هل هو بالاضراب عن الطعام؟!

أم باستخدام السفن الفضائية التي تخترق كل الموانع بقوة الدفع الناتجة من احتراق الكميات الهائلة من الوقود.

ألم يقل الباري عز وجل «لا تنفذون الاّ بسلطان» والسلطان هو القوة والقدرة والسيطرة ولا تخفى الاشارة الظريفة والدقيقة في استعمال لفظ «السلطان» مع ما يمثله من مظاهر القوة والسيطرة.

فاين العنف أو ما يشير اليه في كل ما تقدم من موارد استعمال القوة بشتى صورها ومعانيها التي راح البعض يصورها على انها من العنف الذي لا تستغيه النفس الانسانية؟!

كيف لا تستيغ النفس الانسانية استعمال القوة في مقارعة الظلم والجور وفي سبيل خلاص العباد من الأغلال والقيود التي كبلها بها طواغيت الارض وقد فطرها الله على رفض الظلم والاعانة عليه ولو بكلمة واحدة، فضلاً عن ان الله سبحانه وتعالى قد شرع ذلك لرسله وانبيائه وأمرهم به «لقد ارسلنا رسلنا بالبينات ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد». بعد ان تعجز الكلمات والمواعظ، والبينات في ترقق قلوب الظالمين وتخشع لذكر الله فيقول عز من قائل «واضربوا منهم كل بنان» وفي آية اخرى «وقاتلوا أئمة الكفر انهم لا ايمان لهم».

فكيف نقاتل أئمة الكفر وبماذا نضرب منهم كل بنان…؟!

وأنّى لغصن الزيتون ان يحلّ محل الحديد في بأسه الشديد الذي آثر الله رسله ان يستعينوا به في مواجهة ظلم الظالمين وتعسف المستبدين وقسوة المجرمين.

نرى من كل ذلك ان استعمال القوة بمختلف اساليبها هو من ضروريات استمرار الحياة وديمومتها على الصعيدين التكويني والكوني وتتوافق مع سنة الحسن الكوني وتتناغم مع قاعدة الترغيب والترهيب التي جعلها الله لاستقامة الحياة والعباد فكان من هذا المنطلق خلق الجنة والنار التي هي أشد مظاهر القسوة في العقاب ولكنها من جملة الحسن الكوني في فلسفة الوجود وقد اعتبرها الله من أنعمه وآلآئه التي انعم بها على البشر حيث يقول في سورة الرحمن «هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، يطوفون بينها وبين حميم آن، فبأي آلاء ربكما تكذبان».

وهذه جهنم مع ما فيها من القسوة وما تمثله من مظاهر القوة الالهية لا يرفضها العقل ولا الوجدان الانساني لكونها للعاصين ولانها تعتبر العقاب الذي يستحقه الظلمة والطواغيت.

والسؤال اين سيضع رواد اللاعنف النار في خانة العنف أو اللاعنف مفهوم مبهم: –

سيبقى بناءاً على ما اسلفناه معنى العنف واللاعنف يتأرجح في ضبابية فكرية وسياسية وفلسفية ما لم يتعين التعريف الدقيق لهذين المصطلحين. وعند ذلك يمكن مناقشتها باسلوب رصين وعلى ضوئه ستنفرز المدارس المذهبية والفكرية والسياسية وتحدد انتماءاتها، فلا يكفي ان نتهم البعض بالعنف في الوقت الذي لا يحمل الا الحجارة للدفاع عن نفسه وعرضه أو ماله فيما يوصف المقابل المدجج بكافة انواع الاسلحة الفتاكة وأكثرها تطوراً وتقنية بانه عنيف ايضاً ونجعلها على قدم المساواة.

أو نعرف العنف: «بأنه استعمال اساليب القوة المباشرة والقهر والقسوة ضد الآخرين لتحقيق غايات العنف في الواقع»([2]).

فهذا التعريف يفتقر الى كثير من الدقة والجامعية والمانعية وذلك لعدة اسباب:

1 – ليس كل استعمال للقوة بصورة مباشرة أو غير مباشرة يعبر عنه بالعنف.

2 – ليست غايات العنف على ارض الواقع واحدة في كل الظروف والازمان.

3 – ليست كل عناصر القوة تعني الاسلحة النارية أو غير النارية.

4 – لم يحدد التعريف من هم أولئك الآخرين هل هم الظلمة والمتجبرين أم طلاب الحق والمظلومين.

بل ان الكاتب يذهب الى ان السبّ والشتم والتعيير هي من اساليب العنف ولم يحدد ايضاً ظروف استعمال هذه الالفاظ النابية وقد شرع الله لعباده المظلومين الاستفادة من القوة الكامنة في بعض الكلمات والالفاظ وان كانت سيئة فيقول «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الاّ من ظلم». وارى ان الله يحب ذلك للمظلوم لما فيه من ترويح للنفس المظلومة. فهل سنشرع خلافاً لشرعة الله.

ويسترسل الكاتب فيتهم الوسائل الدفاعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى عند الحيوانات كالعض، والرفس، والنهش، والنطح، اساليب بدائية من العنف الممقوت.

عجباً هل اتسعت دائرة مفهوم العنف لتشمل وسائل الدفاع الطبيعية عند الحيوانات، فيصبح الحمل الوديع عنيفاً لانه يمتلك قرنين قد ينطح بهما من يهاجمه. وكيف يرفض ان تتسلح النحلة بأبرة تلسع بها من يهاجم خليتها.

لا أظن ان الكاتب صار يتخبط خبط عشواء وهو المعروف بكتاباته العميقة المعاني والبليغة الالفاظ ولكني القي اللوم على عدم وضوح المعنى الدقيق لمفهوم العنف، واني لا أخاله يتسع في الحقيقة حتى لهذا النوع من السلاح البدائي البسيط الذي أودعه الله تعالى في خلقه ليحافظ على التوازن الطبيعي في الكون ضمن سنة الحسن الكوني.

ومثلما لم تتمكن التعاريف من تحديد معنى العنف وقعت في المطب ذاته عندما تصدت الى تعريف اللاعنف، وكان من المفروض على من يعرف العنف عندما يسأل عن تعريف اللاعنف ان يقول: قد فعلت، كما قال الامام علي (ع) حينما سأله سائل مّنْ العاقل؟ فأجاب «إنه من يضع الشيء في محله» فقيل ومّن المجنون؟! فقال: قد فعلت.

وذلك لان ظاهر لفظ «اللاعنف» يدل على إنه نقيض للعنف.

ولكن المسألة في غاية البساطة فعندما يعجز الانسان عن تعريف الشيء لا يمكنه التعرّف على نقيضه وهو امر طبيعي.

يقول جان – ماري مولر في تعريف اللاعنف:

«اللاعنف ليس محبة، كما كتب ميلر، بل هو طريقة لادارة نزاع اجتماعي ينسجم مع المحبة»([3]).

بينما يعرّفه الاستاذ محسن وهيب العيد هكذا:

«اللاعنف اسلوب موحد للاخيار في استعمالهم القوة غير المباشرة الموجهة من العقل والمستندة الى الاقناع والمشفوع بالمحبة والرحمة من أجل تحقيق غايات السنن الكونية في سيادة النظام»([4]).

فاللاعنف اذن هو طريقة لادارة نزاع اجتماعي، وهو استعمال القوة ولكن بصورة غير مباشرة، واذا اصبح استعمال القوة بصورة مباشرة فانه سيصير عنفاً تمقته النفس البشرية والانسانية ولعل ميكافيلي عندما أشار على الأمير ان يوحد الامارات الايطالية المتنازعة بدون اللجوء الى الحل العسكري بل بوضع خطة محكمة سلمية ولكنها شيطانية كان يشير الى مبدأ اللاعنف الذي ساد أخيراً في القاموس السياسي.

والخلاصة التي نخلص اليها انه ليس هناك تعريف دقيق لهذين المصطلحين الذين وردا القاموس السياسي في فترة متأخرة نسبياً ولا يمكن الاحتكام اليهما لتشخيص ايهما العنيف وايهما غير العنيف وسوف لا يستقيم لهما على ارض الواقع أية مصداقية. اللهم الاّ ما يتهم به اعداء الأمة بعض الدول والاحزاب والحركات التي تقف بوجهها بانها عنيفة أو غير عنيفة بما يصب في مصالحها العامة وليستنى لها محاربتها دولياً وفق الاسلوب اللاعنفي طبعاً.

ولعل المقصود من العنف هو الخيار العسكري والعمل المسلح وهذا من المسلمات في عالم السياسة والدين والاخلاق ولا يختلف عليه اثنان من العقلاء باعتباره آخر اسلوب يلجأ اليه العقلاء للحصول على المطالب المشروعة بعد ان تستنفذ الاساليب اللاعنفية كالعصيان المدني والاضراب والمسيرات السلمية وغيرها من الاساليب المعروفة، يقول الله عز وجل «كتب عليكم القتال وهو كره لكم» وعندما يكون الامر مكروهاً لا تستقبله النفس الانسانية بانشراح وطيب خاطر، ولكنه أمر لا بد منه في الحياة البشرية من باب «آخر الدواء الكي». ويقول المثل العربي «عندما تتوقف العقول تتحرك الأيدي».

فهذا الذي يصطلح عليه باللاعنف يشكل بحد ذاته نوعاً من العنف (أي استعمال القوة) الراقي.

يقول جان ماري مولر:

«فان معرفة ما اذا كان العمل اللاعنفي يشكل «عنفاً ما» تبقى سؤالاً مطروحاً ففي سياق النقاش غالباً ما يطرح علينا هذا السؤال في محاولة لاظهار اللاعنف هو في النهاية الشكل الارقى للعنف. نحن نعتبر في الواقع انه يمكن القبول بفرصة العمل هذه شرط ان نشدد عندها على ما يجعل هذا الشكل المعين من العنف مختلفاً عن الاشكال الاخرى وان نثبت بان هذا الشكل وحده يستطيع بلوغ الهدف الذي يدعيه العنف دوماً، ألا وهو الحدّ من الظلم وتوفير فرص الحرية والابداع»([5]).

 بقلم

 م. عباس الشمري

 ([1]) مجلة الرأي الآخر العدد 56 – محسن ونصيب العيد – نظرة قرآنية الى العنف والسلم.

 ([2]) مجلة الرأي الآخر العدد 65 محسن وهيب العيد.

 ([3]) استراتجية العمل اللاعنفي – ص 5.

 ([4]) مجلة الرأي الآخر العدد 56 محسن وهيب العيد.

 ([5]) استراتجية العمل اللاعنفي – ص 65.