الإنسان مخلوق خلقه الله ليعر هذا المحل الذي حل فيه بما أودع فيه من القدرات العقلية والجسدية ، وفي سبيل هذا العمران سخر الله ما في هذه الأرض ، بل وما في الكون لخدمة هذا المخلوق ـ الإنسان ـ وخدمة هدفه في إعمار الأرض .

   معنى هذا أنه ليس هناك صراع بين الإنسان وبين ما حوله من مخلوقات الله ما دام الجميع مسخر لخدمته وخدمة أغراضه ، ومن هنا نتبين خطأ قول القائل بصراع الإنسان مع الطبيعة هذا الصراع الذي يتناوب الطرفان فيه النصر والهزيمة تباعاً ، فلا صراع مع الطبيعة ، إنما هو تسخير للطبيعة فيما لو تمكن الإنسان كشف أسرارها لخدمته ، وفشل للإنسان في كشف أسرارها فيما لو لم يتمكن هذا الإنسان من تسخيرها وكشف نواميسها .

   هذا بالنسبة إلى ما حول الإنسان من مخلوقات الله التي تشاطره الكون في هذا العالم ، أما بالنسبة إلى الإنسان الآخر الذي يعيش مع أخيه الإنسان جنباً إلى جنب على سطح هذه الأرض فإن مقتضى منح الله تعالى إياه جوهرة العقل أن يكون العقل هو الفاصل والحكم في علاقاته مع أخيه الإنسان في كل أمر ، فالله لم يخلق هذه العقل ـ الجوهرة ـ ليكون مركوناً جانباً وإنما أراد له أن يكون عنصراً فاعلاً ومؤثراً ـ بل له كل الأثر ـ في تسيير وحكم علاقات الإنسان مع أخيه .

   بناءً على ما تقدم يتبين أن اللاعنف الذي هو ضيع العقل البشري هو المنهج الذي تسير وفقه علاقات البشر فيما بينهم ، ولكن هذا لا ينفي أن تكون هناك استثناءات للحالات المستعصية ، وللضرورات ولكن هذه الاستثناءات وفق شروط وضوابط ، وليست مطلقة ، ومن ضمن هذه المستثنيات وجود أدوات الدفاع عن النفس أعني السلاح لدى الإنسان .

   قديماً قيل الضرورات تقدر بقدرها ، والسلاح وملكيته من قبل الإنسان ـ لاشك ـ أنه من الضرورات التي الجيء إليها الإنسان وذلك بهدف الدفع عن النفس في مقابل السير غير الطبيعي من قبل الإنسان الآخر ومن قبل غير الإنسان مما خلق الله تعالى .

   فالسلاح إذن لم يكن هدفاً يسعى إليه الإنسان ويكرس جهوده وطاقاته ليبلا فيه ، إنما هو وسيلة ـ ليس إلا ـ لدفع الإنسان غائلة الشر والانحراف وعدم التوازن عن نفسه ، وعن أخيه الإنسان .

   ولكن الأمر الحاصل ومنذ الخطيئة الأولى في تاريخ البشرية أن هذا الإنسان قد حول السلاح من وسيلة يمكنه الدفاع بها عن نفسه وعن غيره إلى غاية وهدف يسعى إلى تحقيقهما . لقد أخرج الإنسان مسألة ملكية السلاح من ضرورة الجيء إليها بفعل الشر وأدواته ، إلى غرض يسعى إلى تحقيقه بما أوتي من السبل والإمكانات بحيث جند أكثر جهوده ، وإمكاناته وما ملكه الله في سبيل اختراع الأسلحة التي من شأنها الفتك بالبشر ، حتى امتلكت الدول اليوم من الترسانات العسكرية بما يفوق خيال الإنسان قدرة ، وقابلية على الفتك والتدمير والخراب .

   وبمقدار ما يتطور العقل البشري ويتفوق في المجال العلمي تجد هذا التفوق يوظف أساساً وبالدرجة الأولى لخدمة هذا الهدف ـ تضيع السلاح ـ حتى صارت شركات الأسلحة العالمية ـ التي تقتات على الدماء ـ توظف الأموال والقدرات التي تمتلكها لخدمة المبدعين من لدن كونهم في مقتبل أعمارهم لتجرهم بصورة مباشرة وغير مباشرة لخدمة ميادين صنع الأسلحة التي من شأنها القتل والدمار بدلاً من توظيف هذه العقول المبدعة في أعمال ، وصناعات من شأنها خدمة البشرية .

   لقد كان يبرر صنع الأسلحة وامتلاكها بكون غزو الشعوب والأمم لبعضها غزواً عسكرياً ، وبالقوة فكان لابد لمواجهة القوة العسكرية ودفعها من امتلاك السلاح اللازم والقوة العسكرية بالمقدار الذي يمكن من الوقوف بوجه القوة العسكرية الغازية .

   أما اليوم ، ومع هذا التطور بالنسبة للعقل البشري فلا شك أن غزو الأمم والشعوب لبعضها لم يعد غزواً عسكرياً بالدرجة الأولى وإن كان الغزو العسكري لازال يحتل موقعاً في عقليات بعض الأمم ولكن الدرجة والمكانة الأولى قد أصبحت اليوم للغزو الثقافي ، وخصوصاً في ظل العولمة التي حولت العالم المترامي الأطراف إلى فزية صغيرة ، فبعض الدول المتفوقة تحاول اليوم فرض ثقافتها على الأمم الأخرى ، وفرض الثقافة لم يكن بحاجة إلى السلاح بقدر ما يحتاج إلى العقل وتوظيف العلم لخدمة هذا الغزو فإذا كان الغزو غزواً ثقافياً ، وكان السلاح قد أعطى محله للعقل والعلم ليكون الوسيلة التي يمكن من خلالها السيطرة على الآخرين ، وتحقيق أغراض المسيطر من وراء هذه السيطرة ، فأية حاجة تبقى اليوم لصنع السلاح والسعي إلى الحصول عليه وخزنه ، وبذل الأموال بإزاء تلك التي يمكن أن توظف لإعمار الأرض بما يحولها إلى جنة يتمرغ الإنسان في ربوعها .

   نحن لا ننكر وجود دعوات وأصوات تنادي بالتخلي عن صناعة الأسلحة ، ونزع أسلحة الدمار الشامل ، ولكن هذه الأصوات ـ مع الأسف ـ ضائعة في زحمة الأصوات التي تدعو إلى التسليح وتوظف إمكاناتها لخدمته ، ولكن هذا العوم عكس التيار لا يجب أن يصيب الراعين بالتخلي عن الأسلحة بالإحباط بل لابد من السعي والسعي لكسب المزيد من الأصوات إلى جانب أصواتهم ، وقد رأينا كيف أثمرت تلك الأصوات في مؤتمر دولي من قبل حكومات ومنظمات دولية يدعو إلى نزع الأسلحة الخفيفة ومنع بيعها وتداولها ، وهذه خطوة هامة في الحقيقة يجب أن تستتبعها خطوات في هذا المجال ، إذا المشكلة كل المشكلة لم تكن تتمثل في الأسلحة الخفيفة ، وإنما المشكلة الأكبر تتمثل في الأسلحة الثقيلة ، أسلحة الدمار الشامل التي تستبطن الفتك والدمار والتخريب لهذه الأرض التي أراد الله لها أن تعمر بالعلاقات الودية بين الذين يتقاسمون العيش على سطحها .

   فمن الذي يضمن عدم استخدام هذه الأسلحة في تدمير الأرض بأهلها بدافع نزوة يمتلكها من بيده استخدامها ؟

   ثم هب أن هناك ضماناً في عدم اللجوء إلى استخدام هذه الأسلحة في تدمير الأرض فما المبرر يا ترى في تكديس هذه الأسلحة التي تكلف البشرية أموالاً طائلة يمكنها أن ترفع المستوى المعيشي لكل سكان الأرض من القدر المتدني الذي هو عليه الآن إلى المقدار الذي ينعمون به بخيرات الله الواسعة .

   لقد انتفى اليوم مبرر وجود هذه الأسلحة ، ومبرر صرف الأموال الطائلة لصناعتها ولابد من توحيد الجهود وضم الأصوات إلى بعضها للوقوف بوجه أولئك الساعين إلى صناعة هذه النوع من الأسلحة ، والذين يتاجرون بدماء الناس وقوتهم في سبيل خدمة أغراضهم المشبوهة والموبوءة .

   لابد من تكوين رأي عام عالمي ضاغط من شأنه الحد من جموع أصحاب هذه الصناعة وتجارها حتى بلوغ الهدف في وقف صناعتها ، والتخلص من الموجود منها وتحويل الأموال التي تصرف على صناعتها لخدمة أغراض البشرية السامية .

   فقد انتفى مبرر وجودها وصناعتها ، ولا يحتاج الأمر سوى الضغط العالمي للحد من هذه الصناعة الحقيقة ، فلم يعد العالم اليوم بحاجة إلى هذه الأسلحة بقدر ما هو بحاجة إلى السعي إلى  نزعها فطالما كانت ولازالت فتيلاً خطيراً في قنبلة موقوتة تهدد العالم ما لم يتم نزعه .

حيدر البصري