ان القرآن انما يفتح الباب على مصراعيه امام الراي و ان صور التضييق و الاضطهاد انما جاءت من الروايات و اقوال الرجال حكاما و فقهاء..

و سوف نعرض هنا نصوص القرآن حول قضية الراي من محورين هما:

ـ حرية الراي..

ـ حرية المعارضة..

و بهذين المحورين تؤكد نصوص القرآن انه سبق جميع التشريعات الوضعية المتعلقة بالحريات. و ان جوهر الدين و اصوله لا تصطدم بحال بحرية الانسان و طموحاته الفكرية. و ان الذي يقف في طريق هذه الحريات و يصطدم بها هم المسلمون لا الاسلام..

و المتأمل في تاريخ المسلمين لن يجد لهذه النصوص أي دور في واقعهم فقد تم حجابها تماما عن ساحة الواقع و التعتيم عليها لعدم قدرة الانظمة الحاكمة التعايش معها..

و بخلو الساحة من هذه النصوص سادت الروايات و اقوال الرجال و التي كانت نتيجها تمكن الاستبداد و سيادة الراي الواجد و البطش باصحاب الراي و المعارضين تلك الممارسات التي انعكست في النهاية على صورة الاسلام و مستقبله.. كما انعكست على القوى الحاكمة المعاصرة الى ديار المسلمين و مواقفها من الراي و المعارضة..

ـ حرية الراي..

اول النصوص التي تفاجئنا بمرونة القرآن و مدة السعة و الحرية التي يطلقها للراي الاخر هي قوله تعالى: (اذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة..). (قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك..). (قال اني اعلم ما لا تعلمون..).

و هذا الحوار الذي دار بين الملائكة و بين الله سبحانه و تعالى و الذي اظهرهم بمظهر المعترضين على امره او المتسائلين عنه و هو ما لا يجوز عليهم و قد جبلوا على الطاعة و الانقياد ـ هذا الحوار تسامح فيه الله و لم يعاقبهم او يوبخهم بل اجاب على استفسارهم و هو يؤكد لطفه سبحانه بمخلوقاته و قبوله الراي و افساح الطريق له..

و اين هذا من حكام اليوم الذي يعتبرون قراءاتهم نصوصا معصومة تلزم بها الرعية و لا يجوز الاخذ او الرد فيها و من اعترض او رفض نبذ او قتل..

و لما خلق الله آدم و امر الملائكة بالسجود له عصا ابليس ربه و رفض السجود لآدم..

فقال سبحانه لابليس:.. (يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي استكبرت ام كنت من العالين؟).

قال: (انا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين..)

قال: (فاخرج منها فانك رجيم و ان عليك لعنتي الى يوم الدين..)

قال: (رب فانظرني الى يوم يبعثون).

قال: (فانك من المنظرين. الى يوم الوقت المعلوم..).

قال: (بعزتك لاغوينهم اجمعين. الا عبادك منهم المخلصين..)

قال: فالحق و الحق اقول: لاملان جهنم منك و من تبعك منهم اجمعين..).

و هذا الحوار الصريح الذي دار بين الخالق و بين مخلوق من مخلوقاته انما يكشف لنا مدى سعة الراي و المناظرة بل و المعارضة التي تنطق بها نصوص القرآن. فعلى الرغم من رفض ابليس تنفيذ امر الله و مناظرته له سبحانه بل و تحديه للقرار الالهي. و على الرغم من ان الله سبحانه اصدر قراره بطرده و لعنه و رجمه الى يوم الدين رغم ذلك قبل سبحانه سماع كلامه و تحاور معه و اجابه الى طلبه بالخلود الى يوم الدين رغم ان هذه الموافقة سوف تاتي على البشرية بشرٍّ عظيم من ابليس و جنده. لكنه مبدا الحرية و الاختيار. فكما مُنِح لآدم. مُنِح لابليس ايضا و ما دام الله قد منح ابليس حق البقاء وسلطة الاغواء فان هذا يعني ان من يتبعه و يسير على دربه و يرفع رايته من بني البشر لهم الحق في البقاء و العيش تحت ظل هذه الراية و وفق المبادئ و المعتقدات التي اعتنقوها. فالمسالة تدور في دائرة الحرية و الاختيار..

و ما دام الله سبحانه منح البشر حرية الاختيار بين الخير و الشر و لم يخلقهم مسيرين فان هذا يعني انعدام العقوبة على سلوك سبيل ابليس و الانحراف عن سبيل الله في الدنيا..

ان الله لم يمنح ابليس سلطة اكراه الناس على اتباعه في امر الشر. كما لم يمنح آدم سلطة اكراه الناس على امر الخير. و هي قاعدة تنطبق على جميع الرسل(ص).

و هو ما يظهر لنا من خلال قوله تعالى: (ان هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا).

و قوله: (انما انت مذكر. لست عليهم بمسيطر).

و قوله: (و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر).

و مثلما تنطبق هذه القاعدة على الرسل تنطبق على غيرهم من الفقهاء و الدعاة و من نصبوا انفسهم ناطقين بلسان الدين..

و اذا كان هذا هو موقف القرآن من الاخرين الذين عاندوه و انحرفوا عن نهجه، فمن اين جاءت عمليات البطش بالراي و اصحابه…؟ و الجواب يتمثل في الانحراف عن نصوصه و الالتزام بالرواية و اقوال الرجال..

فهذه الروايات و الاقوال هي التي جنت على الامة و زرعت بذور الشقاق بين المسلمين و بررت اضطهاد الراي المخالف و اصحابه و في النهاية شوهت صورة الاسلام..

يقول سبحانه: (و اذ قال ابراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى..؟.). قال: (او لم تؤمن..)؟ قال: (بلى. و لكن ليطمئن قلبي..)

قال: (فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا. ثم ادعهن ياتينك سعيا و اعلم ان الله عزيز حكيم..).

و مثل هذا النص انما يكشف لنا ابعادا جديدة في محيط الحوار و الراي و المعارضة. فابراهيم هو خليل الله سبحانه و هو نبي مرسل مؤمن بقدرته و عظمته. و هذا الطلب من قبله يوحي بالشك في قدرة الله. الا ان الله تحاور معه و استجاب لطلبه و اعطاه درسا عمليا و حسيا للبعث..

ان الهدف من هذا النص ليس هو اثبات حالة و حدث ارتبط بابراهيم(ع) بقدر ما هو عملية تعليمية للناس تحمل دلالات لسعة الافق و الحوار. ليس ابراهيم من اهل الشك و لا يجوز هذا في حق الرسل. فسؤاله انما هو عن الكيفية و ليس عن القدرة..؟

لقد كشف لنا هذا النص مدى ما يعيشه المسلمون من ازمة فكر و حوار انعكست على حركتهم و تصوراتهم فاصابتهم بالجمود و الانغلاق و التعصب و ما ذلك الا بسبب الروايات و اقوال الرجال فنحن لا نجد اليوم من بين صفوف الرموز الاسلامية و قادة التيارات و الجماعات التي ترفع راية الاسلام من يحتمل سؤالا نصه: هل يمكن ان تبرهن لنا على مقدار علمك و احاطتك بامور الدين؟

و صيغة السؤال انما تقوم على اساس الاعتراف بان هذه الرموز هي من اهل العلم. أي ان السؤال يدور في محيط الكيفية و ليس في محيط القدرة كما هو حال ابراهيم مع الله سبحانه..

و استطيع ان اجزم ان مثل هذا السؤال سوف يمثل استفزازا كبيرا لهذه الرموز و سوف يعده تحديا لها و تشكيكا في قدرته و من ثم سوف يرفض الاجابة عليه..

و قد ضربنا هذا المثل كي يتبين لنا مدى الهوة السحيقة بين المسلمين و القرآن. و مدى ما يعيشون فيه من عزله عن متحصنين بالروايات و اقوال الرجال التي صورت لهم انهم اهل الحق و الفرقة الناجية من النار و الطائفة المنصورة من قبل الله على مر الزمان..

و نحن لن نناقش هنا من المستحق لان يمثل الفرقة الناجية و الطائفة المنصورة من بين فرق و طوائف المسلمين المتناحرة فيما بينها و ان ما نريد توكيده هو ان التصور برر لكل فرقة من هذه الفرق اضطهاد المخالف لها و استحلاله..

يقول سبحانه معاتبا آدم بسبب عصيانه امره و اكله من الشجرة:

(الم انهكما عن تلكما الشجرة و اقل لكما ان الشيطان لكما عدو مبين..) قالا: (ربنا ظلمنا انفسنا و ان لم تغفر لنا و ترحمنا لنكون من الخاسرين..) قال: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الارض مستقر و متاع الى حين..).

لقد زين ابليس لآدم معصية الله و دفع به الى عصيان امره بعدم الاكل من الشجرة. لكن الله سبحانه استمع لآدم و قبل توبته. و لم يجرم فعله و لم ينزل به عقابا كما لم يتعرض لابليس. و هذا الامر ان دل على شئ فانما يدل على ان الله سبحانه لا يريد ان يبدل ما جبل عليه خلقه. فابليس خلق للشر و تزعم حركته. و آدم خلق للخير و تزعم رايته لكن كلاهما حر مختار. و قد مارس ابليس حريته في اغواء آدم. و مارس آدم حريته في قبول اغواء ابليس و بالتالي وقع في العصيان.

و الفرق بين آدم و ابليس. ان آدم لديه القدرة و الارادة على التراجع و التوبة. بينما ابليس قد تحدَّى الله و اقسم ان يستمر في طريق الغواية و العصيان أي انه قرر عدم التوبة و التراجع..

ان آدم و ابليس كلاهما حر و قد اقر الله سبحانه هذه الحرية و تعامل مع كلاهما على اساسها.

و اذا كان الله سبحانه قد منح ابليس و آدم حرية مخالفته. اليس من الاولى ان يمنح المسلمون للاخرين حرية مخالفتهم..

و اذا كان الله سبحانه قد اعترف بوجود الشر متمثلا في ابليس و ذريته و الخير متمثلا في آدم و ذريته. اليس من الاولى ان يعترف المسلمون بوجود الاخرين متمثلين في أي فكر و أي اعتقاد..

و السؤال هنا هو: هل التجريم يقع على المخالف لله. ام المخالف للمسلمين..؟

و الاجابة هي ان التجريم يقع على المخالف لله..

لكن الله سبحانه لم يجرم المخالف له و الكافر به في الحياة الدنيا و ارجأ امره الى الاخرة اليس من الاولى على المسلمين ان يتبنوا فكرة الارجاء و يتركوا مخالفيهم و شانهم و يكلوا امرهم الى الله تعالى…؟

 ان تبنِّي الحكام و الفقهاء و التيارات الاسلامية تجريم الراي و الفكر في محيط الدنيا انما هو اعتداء على سلطة الله سبحانه و خروج على كتابه الذي انزله هداية ان شاء من الناس..

ـ الحرية المعارضة..

ان الادلة القاطعة التي جاء بها القرآن حول قضية الراي تلك النصوص التي تتحدث عن المعارضين لله سبحانه و لرسله الرافضين لدينه. فهؤلاء جميعا لا يؤاخذهم الله بشئ في الحياة الدنيا. و طوال حياتهم يملكون الحرية في معارضة شرعه و رفض رسالاته دون ان ينزل بهم أي عقاب..

و القرآن قد ضرب على ذلك الكثير من الامثلة في الوقت الذي لم يحدد فيه اية عقوبة دنيوية او تشريع يعترض طريق هؤلاء المعارضين او يحجر عليهم..

يقول سبحانه: (و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة و لكن يؤخرهم الى اجل مسمى. فاذا جاء اجلهم فان الله كان بعباده بصيرا).

و يقول سبحانه: (و رحمتي وسعت كل شئ).

و امام هذين النصين لا مكان لتلك النظريات المتطرفة المعادية للراي الاخر و للمعارضين و التي ابتدعتها السياسة. فالرحمة و الاعتدال هما الاساس في مواجهة الاخرين لا البطش و السيف و التضييق و المصادرة..

و لقد اعلن اليهود معارضتهم لله جهرة و قالوا في الله سبحانه الكثير:

يقول تعالى، (و قالت اليهود يد الله مغلولة). و يقول: (لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير و نحن اغنياء). و يقول (لقد سالوا موسى اكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة). و قالت النصارى عن الله مثلما قال اليهود.

يقول سبحانه: (لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح بن مريم). و يقول: (لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة و من اله الا اله واحد). و يقول: (اتخذوا احبارهم و رهبانهم اربابا من دون الله). و يقول (و قالت اليهود عزير ابن الله. و قالت النصارى المسيح ابن الله).

ان اليهود و النصارى قد عارضوا الله سبحانه و نازعوه الى الوهيته و نسبوا اليه الولد و هو امر عظيم صوَّره الله سبحانه بقوله: (و قالوا اتخذ الرحمن ولدا. لقد جئتم شيئا إدَّا تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الارض و تخر الجبال هَّا ان دعوا للرحمن ولدا).

و رغم ذلك كله لم يكن هناك من سبيل لمواجهتهم سوى الرد عليهم و دحض حججهم و تبديد شبهاتهم فقط. هذا هو القرار الذي اتخذ في مواجهتهم..

و ليت المسلمين التزموا بهذا النهج في مواقفهم و ممارستهم تجاه المخالفين على مر التاريخ و اذا كان القرن قد تبنى هذا الموقف تجاه اليهود و النصارى. فكيف للاسلاميين ان يتبنوا ما هو اشد. و اكثر تطرفا و ارهابا تجاه المسلمين المخالفين لهم..؟

اما موقف القرآن من المنافقين الذين يتبنون موقف المعارضة السرية لله و الدين و الرسول فهو موقف غاية في الاعتدال و المرونة.

يقول سبحانه: (و اذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله الا غرورا). و يقول: (و لئن سالتهم ليقولن انما كنا نخوض و نلعب. قل ابالله و رسوله كنتم تستهزئون). و يقول: (و اذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا انؤمن كما آمن السفهاء الا انهم هم السفهاء و لكن لا يعلمون. و اذا لقوا الذين آمنوا قالو آمنا و اذا خلوا الى شياطينهم قالو انا معكم انما نحن مستهزئون).

و يقول: (يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد اسلامهم و هموا بما لم ينالوا و ما نقموا الا ان اغناهم الله و رسوله من فضله).

ان موقف المنافقين هو موقف عقائدي يتمثل في رفض الدين و الرسول و الكفر بالله من اناس يشهرون الاسلام. فمن ثم هم اخطر من اولئك الذين يعارضون شاهرين كفرهم و مع ذلك فان القرآن لم يطلب من الرسول او المسلمين مواجهتهم و استئصالهم من المجتمع و انما ترك امرهم الى الله سبحانه. و التزم الرسول امامهم بالحوار و الحجة و الحذر منهم.

و اذا كان القرآن قد تسامح مع المنافقين و هم يتبنون موقفا عقائديا من الاسلام و من المسلمين و التزم امامهم بالحجة و الحوار املا في هدايتهم. فكيف يكون الموقف تجاه المسلمين اصحاب الراي و التوجه المخالف..؟

لا شك ان موقف القرآن سوف يكون اكثر سعة و اكثر مرونة. بل ان نصوصه باركت الاي الذي ينشا عن التعقل و التدبر والتفكر..

و لقد جسد لنا رسول الله(ص) هذا السلوك عندما طالبه البعض بقتل المنافقين فكان جوابه: لا يقال ان محمدا يقتل اصحابه.

و هذا الموقف من قبل الرسول انما يجسد قاعدة اساسية في مواجهة المخالفين و هي ان الجزاء يرتبط بالجرم لا بالفكر او الراي..

لقد تعامل الرسول(ص) مع المنافقين على اساس مبدا حرية الراي و الاختيار فهو حق قد منح لآدم و سائر البشر من قبل الله سبحانه و لا يجوز للرسول او غيره ان يسلبهم هذا الحق..

و اذا ما جاء الحديث عن المشركين فأنَّا نجد ان القران التزم في مواجهتهم بنفس الموقف الذي التزمه في مواجهة المنافقين..

يقول سبحانه: (و اذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها اباءنا و الله امرنا بها. قل ان الله لا يامر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون).

و يقول سبحانه: (و قال فرعون ايها الملاء ما علمت لكم من اله غيري. فاوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي اطلع الى اله موسى و اني لاظنه من الكاذبين).

و من خلال النص الأول نرى الله سبحانه يرد على المشركين الذين نسبوا اليه سبحانه الفحشاء بنفي هذا الادعاء و التاكيد علىانهم قوم يجهلون و يدعون بلا علم و لا اساس مبينا ان الله لا يامر بذلك (قل امر ربي بالقسط).

اما فرعون فهو صاحب سلطة و جنود و يقف موسى في مواجهته لا يملك سوى عصاءه التي يبرهن بها على صحة ادعائه النبوة و حمله الرسالة. فمن ثم دفع هذا الموقف بفرعون الى الغرور و استضعاف موسى و قومه ثم ادعاؤه الالوهية على الملاء دون ان يجد معارضة من قومه الذين دانوا له و عبدوه.

و لم يكن موسى يهدف الى القضاء على فرعون بل كان يهدف الى تحرير بني اسرائيل من النظام الفرعوني. فعلى الرغم من طغيان فرعون و ادعائه الربوبية و الالوهية فان التوجيه الالهي لموسى عندما ارسل فرعون نص قوله تعالى:

(اذهب الىفرعون انه طغى).

و لما انضم هارون الى موسى ليشد م ازره قال لهما سبحانه: (اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى).

(قالا ربنا اننا نخاف ان يفرط علينا او ان يطغى..

قال: لا تخافا انني معكما اسمع و ارى).

لكن فرعون تجاوز حدود العناد و الخصومة مع الله و رسوله و دخل في صدام مع موسى و عمل على عرقلة الدعوة و قتل المؤمنين و تشويه الحق و البطش بالناس مما ادى الى تدخل القدرة الالهية التي قضت عليه و جعلته آية لطواغيت الارض.. ان الله سبحانه لم ينتقم من فرعون بسبب كفره و عناده و انما انتقم منه بسبب محاربته لرسوله و بطشه بالمؤمنين.. لقد تجاوز فرعون حدود الكفر و الاعتقاد و الجدل بالحسنى الى حدود التامر و القتل و المطاردة فكان جزاؤه القتل بسبب جرمه لا بسبب الكره و عناده.. و من معارضة الله سبحانه الى معارضة الرسل(ص)..

يقول سبحانه: (و اذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا و ما الرحمن انسجد لما تامرنا).

و يقول: (كذلك ما اتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر او مجنون).

و قال قوم هود(ع): (ان نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء).

و قال قوم نوح(ع): (فقال الملاء الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد ان يتفضل عليكم و لو شاء الله لا نزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين ان هو الا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين).

و قال قوم صالح(ع): (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا اتنهانا ان نعبد ما يعبد اباؤنا و اننا لفي شك مما تدعونا اليه مريب).

و قال قوم شعيب(ع): (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول و انا لنراك فينا ضعيفا و لو لا رهطك لردمناك و ما انت علينا بعزيز).

و قال قوم لوط(ع): (قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم اناس يتطهرون).

و قال قوم محمد(ص): (قد نعلم انه ليحزنك الذي يقولون فانهم لا يكذبون و لكن الظالمين بايات الله يجحدون).

(و قالوا ان هذا الا سحر مبين، أإذا متنا و كنا ترابا و عظاما ائنا لمبعوثون).

(و قال الكافرون هذا ساحر كذاب. اجعل الالهة الها واحدا ان هذا لشئ عجاب).

 و من امثلة هذا في القرآن الكثير و هو يدل دلالة قاطعة على اعتراف القرآن بالحوار و الجدل و المناظرة و الحرة المعارضة و الراي الاخر.

و من جهة اخرى هو يؤكد على ان الراي الاخر و اصحابه من اقوام الانبياء او اهل الكتاب او المشركين و غيرهم لم يضطهدوا بسبب رايهم و انما حل على بعضهم غضب الله و انتقامه و اجرامهم و سلوكهم سبيل المقاومة المادية لدعوة الرسل..

ـ الراي و القرآن..

مثلما اوضح لنا القرآن فيما سبق حرية الراي و المعارضة لله سبحانه و لدينه و لرسله يؤكد لنا القرآن ايضا حرية الراي و المعارضة لآياته من قبل الكفار و المشركين و هو ما يظهر لنا من خلال النصوص التي تعرض للصدام الفكري الذي وقع مع قوم الرسول(ص).. الذين اعلنوا رفضهم للقرآن..

يقول سبحانه: (و قد نزل عليكم الكتاب ان اذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره انكم اذا مثلهم).

و يقول سبحانه: (و قال الذين كفروا ان هذا الا افك افتراه و اعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما و زورا. و قالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و اصيلا).

و يقول: (و لقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذين يلحدون اليه اعجمي و هذا لسان عربي مبين).

و يقول: (بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر).

و يقول: (و اذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين).

و مجموع هذه النصوص يؤكد لنا موقف الرفض الذي تبناه قوم الرسول من القرآن ذلك الرفض يقوم على تكذيب نصوصه و الاستهزاء بآياته..

و القرار الالهي الذي صدر في مواجهتهم هو وجوب اعتزالهم و مقاطعتهم و الرد على ما اثاروه من شبهات حول القرآن..

يقول سبحانه: (فلا اقسم بما تبصرون و ما لا تبصرون. انه لقول رسول كريم. و ما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون. و لا بقول كاهن قليلا ما تذكرون).

و يقول: (و ما تنزلت به الشياطين. و ما ينبغي لهم و ما يستطيعون. انهم عن السمع لمعزلون).

ان القرآن يحدد في صراحة و وضوح ان من حق الفرد ان يبدي رأيه في آياته و يقرر ما يتبناه من معتقد تجاهه. و ان على المسلمين ان يتبنوا في مواجهة المخالفين لهم حول القرآن و نهج الحوار و الاعتدال على اساس الاحترام المتبادل. و على اساس حق الحرية و الاختيار الذي منحه الله سبحانه للناس اجمعين..

يقول سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخروجكم من دياركم ان تبروهم و تقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين).

و هذا النص الصريح القطعي الدلالة انما يوجب على المسلمين التزام الادب و الاخلاق و اللين و البر مع مخالفيهم في حدود الراي و الاعتقاد طالما ان هؤلاء المخالفين لا يشهرون السيف في مواجهتهم و لا يعادوهم في شئ..

و في محيط النصوص القرآنية الصريحة ينبغي ان نلقي الضوء على قضية الناسخ و المنسوخ التي يتسلح بها انصار الرؤية الآحادية اهل السنة القدماء و المعاصرين في مواجهة هذه النصوص..

فقد شهر الفقهاء و الرواة سلاح النسخ امام هذه النصوص بهدف تطويقها و الحيلولة دون ان تكون سندا للتيارات الاخرى المناهضة للخط السائد و اصحاب الراي بشكل عالم.. و نحن نقول ان فكرة الناسخ و المنسوخ هي فكرة مختلفة تصطدم بالقرآن والعقل و ان صحت فهي خاصة بفترة نزول القرآن في عهد الرسول(ص)..

اما تبني هذه الفكرة بعد تمام القرآن و كمال الدين فهذا من شانه ان يؤدي الى تعطيل الكثير من نصوص القرآن فضلا عن كونه سوف يؤدي الى القضاء على حرية الراي و العقيدة و سيادة تيار التطرف و العدوانية. اذ ان تبني هذه الفكرة سوف يؤدي الى تعطيل ذلك الكم من النصوص التي عرضناها و غيرها بحجة انها منسوخة. و سوف تحل محلها نصوص السيف..

و لقد تمادى اهل النسخ في موقفهم حتى نادوا بجواز نسخ النص القرآني بالرواية و بهذا يكونوا قد اوصدوا الابواب في وجه الراي الاخر و حرموه من حق الاختيار و وضعوه ما بين السيف و التراجع..

ان القرآن يقدم لنا الدليل على بطلان مثل هذه الفكرة و انه لا يجوز تطبيقها على قضايا الراي خاصة..

يقول سبحانه: (انك ميت و انهم ميتون. ثم انكم يوم القيامة تختصمون).

فهذ النص يعطينا دلالة قاطعة على ان الخصومة في امر الدين بين الذين يرفضونه و يعادون الرسول لن يفصل فيها الا بين يدي الله سبحانه يوم القيامة. و هذا يعني استمرار هذه الخصومة في الحياة الدنيا و انه لا عقوبة لها و لا اعتراض عليها. و هذا يعني ان تشريع الحوار و الجدال مع خصوم الدين قائم لم ينسخ..

و ما دام الله سبحانه قد منح البشر حق الاختيار و حرية الارادة في الحياة الدنيا. فمن الظلم ان هذه الحرية و يصادر منهم هذا الحق.

و الذين يقولون بالنسخ انما ينسبون الظلم الى الله اذ ينسبون اليه التراجع عن هذه المنحة و انزاله العقاب على من يمارسون حريتهم في الاختيار و الاعتقاد..

ان القرآن يزدحم بشتى النصوص التي تعرض راي خصوم الدين من يهود و نصارى و مشركين و منافقين حتى و لو كانت تمس الله سبحانه او الرسول او القران. و فتح لهم الابواب ليقوموا بما يعتقدون في حرية..

من جهة اخرى ازدحم القرآن بكثير من النصوص التي ترد على ادعاءات الخصوم و تفند شبهاتهم. و هذه النصوص انما تعطي درسا بليغا للمسلمين في تعاملهم مع الاخرين..

الكتاب: الكلمة و السيف

المؤلف: صالح الورداني

الناشر: مركز الحضارة العربية – القاهرة.