الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)

الحلقة الأخيرة

وفيما كانت الأرض الإسلامية، منبعاً لروافد مستنقعات الغرب المستعمر، وفدت إليها تيارات من مستنقعات الشرق الكفور، لتنافس المفاهيم التي سبقتها إلى الأرض الخصبة، واشتبك الصراع المرير بين هذين الاتجاهين، على حساب الأمة, وكيانها السياسي والفكري، وكانت معركة فيها الفناء، غير أن المستعمرين قبعوا في أوكارهم البعيدة يوجهون، والأمة هي التي نزلت إلى ساحة الملحمة، للتطوع بالضحايا والخسائر، من أبنائها وأحوالها وتاريخها حتى تجبي القوات المستعمرة نتائجها بعد الاكمال والنضوج.

ولم تكن الأمة تدين بهذا الواقع الخاسر، لولا انخفاض درجة الوعي الإسلامي في عقليتها، وضحولة التجارب في ذاكرتها، وانتكاس القيادة في حياتها، بل كانت صخرة فولاذية تنحسر عنها الاتجاهات الأجنبية خاسئة صاغرة، دون أن تجد مواضع أقدامها، حتى تحاول استغلال الأمة، وقوداً لمعركة خارجية، لا صلة لها بواقع الحياة الإسلامية، ولا تشترك الأمة في نتائجها فازت أو خسرت؟!

ولكن الأمة المسحورة المتحللة، اندفعت بلا شعور وتقدير، خائبة من امكاناتها، وحالمة بما أنجزه المستعمرون، واستيقطت على دمدمة الزوابع الرهيبة، تقصف بها على حساب الآخرين، فنفضت بقايا السكر عن الجفون، ونفايا الاعجاب المزيف عن الأفكار، لتجد واقعها أرض معركة جبارة، تعتبر من أعقد معارك التاريخ، وتطلعت إلى الإسلام، لينتشلها من جاهليتها الثانية، كما انتشلها من جاهليتها الأولى، ويصوغ كيانها العتيد، ويجدد مجدها الغارب، ويكفر عما فرطت وخبطت مائة عام.

وتوامضت في الأفق الغامض، تباشير الأمل الكبير… وتواترت في كل مكان، انتفاضات عنيفة مرهفة، هي آلام المخاض التي بمقدارها يعظم النتاج.. وطفقت هنا وهناك ارهاصات يافعة تتنبأ بنهضة إسلامية شاملة، تتنفس عن فجر جديد لسيادة المسلمين، وتتفتح عن تاريخ جديد لسعادة الحياة.

فأما منذ اليوم، وقد أوشكت الجهود التي أرخصتها الأمة، طوال أعوام مثقلات بظلمات العسف والتمزق والطغيان… فلنكن مفكرين، يعملون بالهام الفكر المدبر، والعقل المتربص، قبل أن نكون عاطفيين، يستخفنا العجب بتراث آبائنا ونتاج أنفسنا، فنتخبط بجهادهم المرير، وجهودنا الكثار.. كي لا نستهلك انتصاراتنا الهائلة، بتبذير مترف، فترة صاخبة، تعقبها قرون عجاف… وإنما لنشيد كياننا المتوقع، من القاعدة حتى القمة، ولا ننقض من القمة على القاعدة… ولنعزز كل مرحلة من مراحل سيرنا الصاعد، بالتعبئة الفكرية المدروسة التي ترحب بالتصحيح والتطوير، قبل أن نعرضها للتعبئة الجماهيرية، التي ترفض الوقوف والتراجع، للتأكد من صحتها وصلاحيتها.

فيجب أن نركز مكاسبنا على قاعدة فكرية واقعية، تؤكد لها التوالد والاطراد، وتمدها بأطول الأعمار.

فالأمة المسلمة اليوم، تطوي فترة من الانتقال من (الردة) الجماعية إلى الإسلام، وتصوغ تيارها الزاحف البنّاء، لتشييد كيانها المردوم، وهي في هذه المرحلة أحوج إلى الوعي والحذق والاتقان، من أمسها الذي كانت تنحدر في (الردة) والهدم والانسحاب.

ولن تخسأ المحاولات البطولية الوفيرة، التي أرخصها أبناؤها البررة المجاهدون، لاستعادة سيادتها البائدة، وسوف تنبثق عن مستقبل أفضل. مهما تطورت الظروف، ولن تشل ضغطها والدافع عقبات الرجعية والاستعمار. غير أنا لو تركناها تبني نفسها بارتجالية الحوادث. والحركات العاطفية في السبخات المنخورة، فإنها تنهار بعد سنوات، لتترك خلفها تجربة فاشلة، تضاف إلى قائمة التجارب الفاشلة، لتبعث الجبن والارتباك في النفوس. وان هذبناها، وركزناها على قواعد الفكر والاجتماع، تعيش قروناً متطاولة، قد يؤيدها التوفيق، للخلود، حتى ينعم في ظلها المسلمون بالسعادة والسيادة، ويمدوا يد النجاة إلى الشعوب المضطهدة، وينشروا ظلال الرحمة والخير، على المعذبين في الأرض.

وأول دراسة تسبق الحركات الإصلاحية، هي التي تبحث عن خيط الانحراف، لتعاكسه بخط الإصلاح، والثغرة التي نخرت في الواقع الإسلامي، حتى انتهت بسقوط الحكم الإسلامي على الصعيد الدولي وعلى الصعيد العقيدي، هي الثغرة التي نشأت من تسلل المتطفلين إلى مراكز القيادة الإسلامية، دون أن يختارهم الله، فلم تكن فيهم الامكانات التي تؤهلهم، للسير بالأمة سجحاً نحو السيادة العالمية، فسقطوا وسقطت معهم، حتى انتهت إلى الدرك الذي تعيشه اليوم.

وهي اليوم، حيث تستشرف الكتل العاملة لانقاذها، وتتطلع إلى السبيل الذي يبلغها الهدف العظيم، تتطلع إليه الأطماع الجشعة من كل مكان، وبكل اسم وصبغة وأسلوب. وهي تئن تحت سنابك الاستعمار، وتئن تحت ثقل الحركات المتطفلة عليها للمتاجرة بجروحها وآلامها، مستغيثة بالإسلام نفسه أن يهديها سواء السبيل… ولابد للإسلام، أن يلبي هذا الأنين المتعب، المتفجر من الأعماق ويطلق كلمته قوية صريحة، لتستطيع أن تعلن ذاتها، وتشترك في المعركة، ثم تكتب النصر للأمة… ولابد أن تكون تلك الكلمة، صادقة عميقة، إلى حين تتقن صياغة المعجزات، وتتيح للأمة أن ترفعها، وتنضوي تحتها، وتؤلب حولها، فتجدد ما أسلفت في فجر تاريخها العظيم.

20/9/1382هـ