بعثت مجلة المنبر الكويتية ( المعروفة با لتوجه الديني ) اسئلة سياسية و اعتقادية الى سماحة الشيخ محمد تقي باقر و قالت في المقدمة :

أرتأت أسرة التحرير في مجلة «المنبر» التي تصدرها الهيئة إجراء استطلاع وافٍ حول موضوع (استعادة الثقة في المشروع الإسلامي) لما له من الأهمية في الحال الحاضر في واقع الأمة ومكانتها لمعرفة الداء وتشخيص مواقع الخلل. وهذه مجموعة من الأسئلة نوجهها لسماحتكم بهذا الخصوص.

على أمل الإجابة عليها سريعاً لقرب موعد إصدار المجلة في 20 ربيع الأول. ولكم خالص الشكر والتقدير.

انطلاقاً من قول أمير المؤمنين (ع) في وصف الرسول الأعظم (ص) الوارد في نهج البلاغة: «ووثقوا بالقائد فاتبعوه».

الاسئلة :

1 – ماهي نظرتكم لهذا الوصف الوارد على لسان أمير المؤمنين (ع) وكيف تفسرون حركة الرسول الأعظم (ص) بناءاً عليه؟

و ما هي الصفات التي توافرت في الرسول (ص) فكانت سبباً لامتلاكه الثقة من جموع الناس على مختلف انتماءاتهم القبلية والعرقية؟

 

ج : الامام (ع ) كان في صدد بيان حقيقة خارجية هي ان الامة عادة لا تستسلم لأي كان ، وإن كانت لديه بعض المعطيات او التوجهات، ولا تسلمه مقاليد الحكم ولا تقر له بالطاعة إلا بعد ان عرفت منه الاخلاص والوفاء والكفاءة والحنكة السياسية وسعة الصدر.

والرسول (ص) بدأ بدعوته منذ صغر سنه وليس كما يقول البعض انه بدأها بعد ابلاغ الرسالة، فهو اثبت جدارته في الاخلاق والصدق والمحبة والوفاء بالوعد وما الى ذلك منذ نعومة اظفاره، وكان تاريخه تاريخ مشرق يعترف به الكبير والصغير فكان معروفا بامانته وكان اذا قال صدق، واذا وعد وفى واذا عمل فاتقن…      

ولذلك وعندما دعى اهل مكة في اول اجتماعه معهم ليعرفهم برسالته اخذ منهم الاقرار فقال لهم (بما مضمونه) : لو اخبرتكم ان وراء هذه الجبال اعداء يريدون       الهجوم او الاعتداء عليكم فماذا انتم صانعون؟ قالوا: نصدق كلامك ونعتمد عليه… الى آخر الخبر.

إذن، هناك ثوابت لمعرفة القائد وعلى مثلها تبنى القاعدة ثقتها به. وهناك شواهد تاريخية على ان الرسول (ص) مع حداثة سنه كان ملاذاً للأحداث وكان مورداً لثقة شرائح مختلفة من الامة.

 

2 – ما هي أهم الاختلافات في اسلوب حركة الرسول (ص) وحركة أمير المؤمنين(ع) ؟

ج : بما ان الامامة تعد امتدادا للنبوة فلا يمكن القول بوجود اختلاف في الاسلوب بين حركة النبي (ص) ، وامير المؤمنين(ع) ، نعم هنالك موارد لا بد ان نتأمل فيها:

1 – كان الرسول (ص) في مرحلة التنزيل والتأسيس وفي هذه المرحلة على الرسول  (ص) واجبات، وكانت الصراعات قبلية اكثر مما هي عقائدية، وكان الصراع العقائدي غطاءً للمسألة القبلية.

فاثرياء مكة لا يهمهم من تعبد، لكن يهمهم النتائج، فلو عبدت الله سوف تكون حراً في افكارك وتصرفاتك اما لو عبدت إله يمتلكه شخص او شريحة خاصة في المجتمع فانت تخضع كاملاً لمالك هذا الاله فردا كان او شريحة.

فقريش وبقية القبائل رأت ان الرسول وبنو هاشم تفوقوا عليهم وأخذ الناس يتهافتون عليهم ويختلفون اليهم ، لذلك اعلنوا الصراع مع الرسول واقربائه، إلا ان الصراع أيضاً كان بدائي ولم يكن متطوراً كما حدث في عهد الامام امير المؤمنين (ع).

2 – مرحلة التأسيس كانت بحاجة الى ترغيب الناس وبيان الصفات الكمالية للدين والعمل المثالي لكسب الآراء. ولذلك كان الرسول (ص) كما قال الله سبحانه في الكتاب الكريم – رحمة للعالمين – حياً وميتاً.

فالمرحلة التأسيسية دائما تحتاج الى ترغيب الناس.

3 –   أما في عهد علي (ع) كان من المفروض ملاحظة بعض الامور:

الف – مرحلة التأويل وما يسمى بالجانب التطبيقي للقوانين الالهية على مختلف شرائح الامة بأذواقها وطبائعها ومصالحها المختلفة وهذه المرحلة بحاجة الى نظام يلاحظ فيه الترهيب والترغيب.وكان من المفترض ان يكون عمل الامام (ع) هو الانموذج والمثل الاعلى للنظام الاسلامي .بناء على ذلك لايمكن للامام (ع) ان يساوم أوأن يتمادى .

باء – الخلافات التي حصلت بعد عهد الرسول (ص) والتي وصلت الى اراقة الدماء بين الفصائل المتنازعة وانتهت الى استشهاد بضعة الرسول (ص)       فاطمة الزهراء (س) من جهة والى تضعيف المعنويات في المسلمين وفقدان الثقة بالقيادة الحكيمة عبر نشر الاشاعات المغرضة من جهة ثانية ، مما ادى الى ظلم القائد وتشويه سمعته في المجتمع، حتى ان البعض كان يشك في مصداقيته وكان يترقب حتى يحصل على ثغرة ضد الامام (ع) و عندما قتل (ع)  قال اهل الشام : مالعلي والمسجد ؟!!!

وقد نرى في التاريخ ان بعض وجهاء القوم الذين كانوا يعترضون على الرسول (ص) في ما يختص بعلي (ع) تآمروا على اسرة النبي وعلى علي (ع) خاصة.

وفي كثير من القضايا بذلوا جهدهم ليستفزوا علي (ع) وبعض اقرباء الرسول (ص).

منها ما ذكره ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه على النهج يقول:

لما قبض رسول الله (ص) واشتغل علي (ع ) بغسله ودفنه وبويع ابو بكر، خلا الزبير وابو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي (ع)       لأجالة الرأي، وتكلموا       بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج، فقال العباس (ع) : قد سمعنا قولكم، فلا لقلة نستعين بكم، ولا لظنّة نترك آراءكم، فامهلونا نراجع الفكر…

(إلا ان العباس عندما رأى تحركات وتصاريح الجماعة قال): والله لولا ان الاسلام قيد الفتك (الاغتيال) لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلى.

فكانت هناك استفزازات لكي يبدأ اقرباء الرسول (ص) بالصراع السياسي والمطالبة بالحكم مطالبة مسلحة او بطريقة تؤدي الى تضعيف النظام او تزحزح الدولة حتى تكون هناك ذريعة قانونية للقضاء على الدين وبشكل اسهل واسرع.

إلا ان الامام (ع) وبأساليبه الحكيمة كان يمنع مثل هذه الامور كي يبقى الدين ويستقر النظام مع انه (ع) كان من جملة المعترضين على اسلوب الحكم وادارة البلاد.

وخلاصة الكلام: ان في عصر الرسول (ص) كان المهم التعريف بالاسلام وبناء الأسس السليمة و السلمية للدعوة، لكن في زمن الامام علي (ع) كان تطبيق المفاهيم بحذافيرها وتبيين القانون الاسلامي هو الأهم.

4 – ومن الامور التي ينبغي التأمل فيها هي: ان صراع المعارضة مع علي (ع) كان متستر بغطاء شرعي وبعبارة أخرى: الطرف المعادي استغل ضعف الفهم الاسلامي عند الجمهور وشوه مسألة الامامة والخلافة حتى ان الاغلب التبس عليهم امر الولاية والخلافة فظنوا ان الخلافة التي اوكل امرها رسول الله (ص) الى علي (ع) كان من باب انه اولى، لا انه الولي والخليفة. ولذلك اصبحت شبهة عند الكثير من المسلمين.

وفيه قال علي (ع) : انما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق.

فان الغلاة من جهة والاعداء السياسيين ( لا المعارضة السياسية) من جهة اخرى شوهوا الصورة الحقيقية لمسألة الخلافة ومن الصعب ان تُفهم الجمهور ان بعض هؤلاء الصحابة ذو الشيبة البيضاء الذين كانوا مع رسول الله (ص) وكانت لهم مواقف مشرفة انقذت الامة الاسلامية في بعض الغزوات، اليوم التبس عليهم الامر واستحوذ عليهم الشيطان واصبحوا في معسكر اعداء الاسلام.

حتى ان معاوية بعث الى الحسن بن علي (ع)       ليغوية بان البيعة ستكون له (ص) اذا ترك والده ، واستند الى ان اباك قتل بعض المسلمين ولم يبايعه الناس !!

واقول : لا المعارضة .. لان المعارضة ربما تختلف مع النظام لكن لاتقول بالاباطيل والتهم ، فعلي (ص)       كان من المعارضة للحكم القائم باسم الاسلام لكنه مشفق للنظام ومخلص للاسلام .

 

3 – ما هي آليات استعادة الثقة في المشروع الاسلامي؟

ج : بداية لا يصح اطلاق مصطلح (المشروع) على الرسالة الاسلامية، فالمشروع يدل على شيء يراد اقامته ولم يقم بعد اما الشريعة الاسلامية فهي قائمة وقابلة للتطبيق منذ اكثر من 14 قرناً. فاللازم اطلاق (المبادىء والاسس الاسلامية) بدلاً من المشروع الاسلامي، هذا أولاً، وثانياً تتجسد آلية استعادة الثقة بالمبادىء الاسلامية بطرح المبادىء والاسس الصحيحة للأسلام وتنحية غيرها جانباً.

والأسس       على سبيل المثال لا الحصر هي : الأخوة الاسلامية ،الشورى واحترام الرأي الآخر، التعددية السياسية، مشاركة الناس في تفاصيل الامور، خصخصة الاقتصاد ضمن اطار حر يضمن للجميع حقوقهم. وما الى ذلك.

وأتصور لو تعاملنا مع الاسلام على أساس تطبيق المبادىء التي طرحها كقانون، بالاضافة الى تزكية النظام المرجعي والحفاظ عليه وعدم السماح للتهجم عليه ودعمه دعماً كاملاً (بما للكلمة من معنى) حينئذ يمكن استعادة الثقة.

4 – كيف يمكن للمرجعية الدينية أن تستعيد الثقة في أوساط المسلمين وغير المسلمين؟

ج : ان الجواب على هذا السؤال يتمثل بتبني الآلية التي مر ذكرها أولاً، ثم بنزول المؤسسة المرجعية الى الساحة العملية واظهار قدرتها في هذا المضمار، وعدم التوقف عند حدود النظريات، وهذا النزول الى الميدان لم يتوفر الا عند القلة.

5 – شعار (الإسلام هو الحل) هل تبقت له موقعية في المجتمعات الإسلامية؟

ج : ان المبادىء الاسلامية جاءت منسجمة تماماً مع الفطرة الانسانية، ونحن إن كنا نرى نزوعاً وتمرداً على هذه المبادىء فانما يعود السبب فيه للسعي الحثيث نحو تلويث هذه الفطرة ولكن هذه الجهود لا يمكنها ان تدوم طويلاً لعدم انسجامها مع فطرة الانسان وبمحض اكتشاف زيفها سيعود الانسان الى المنقذ ألا وهو الاسلام.

نعم، لا يمكننا نكران ما حصل بالنسبة الى سمعة الاسلام، فالاسلام الذي كان هو الرائد في سعادة الانسان اصبح اليوم مانعاً من التقدم في بعض المجالات. وكان ذلك نتيجة جهود جبارة بذلها اعداء الاسلام. لكن كما يقول الامام الصادق (ع): (لو عرف الناس محاسن كلامنا لاتبعونا).

6 – لماذا فقد رجل الدين أهليته في حل مشاكل المجتمع في نظر الناس بعد إذ كانوا يرجعون إليه في حل المشاكل؟

ج : اتصور نحن كرجال دين لم نتحمل المسؤولية كما ينبغي، وما حصل في بعض الدول باسم الدين عبر التاريخ ايضاً له الاثر الكثير في تشويه سمعة رجال الدين.

فرجل الدين من المفروض ان يلتزم بالدين اولاً ويفهم السياسة ثانياً، لا ان يضحي بالدين لاجل السياسة، وفي الحديث الشريف: (لا يطاع الله حيث يعصى) واليه اشار رسول الله (ص) في وصيته لعلي (ع):( يا علي، ان من اليقين ان لا ترضي احداً بسخط الله) .

والمستفاد من كلام علي (ع) في سبب التزامه بالحكم انه كان يريد احقاق الحق ودفع الباطل وإلا النظام والحكومة لا تساوي عنده (ع)       عفطة عنز…

7 – ما هي أسباب افتقاد الثقة في المشروع الإسلامي؟ هل بسبب:

أ – تجارب أنظمة الحكم الإسلامية؟

ب       – الجماعات الدينية؟

ج – البيئة الاجتماعية؟

د – الغرب والعولمة والثورة المعلوماتية؟

ج : هناك عوامل كثيرة تضافرت،وساعدت على طرح الثقة بالمبادىء الاسلامية أهمها الممارسات الخاطئة في بعض التجارب، ومنها المواقف المتطرفة التي قادت الى النفور من هذه المبادىء اذ ان الناس ليسوا قادرين جميعاً على التمييز بين الاسلامي وغيره، ثم الفهم الخاطىء للاسلام، والحملات العدائية له، اما العولمة فانه أمر جديد مع التسليم بخطورة دوره على كل ما هو غير غربي بغض النظر عن كونه اسلامياً أو غير اسلامي.

وبصراحة اقول: ان الذين حكموا باسم الاسلام في العصور السابقة هم السبب الاول في فقدان الثقة. لانهم حكموا باسم الرسول (ص) وقتلوا الابرياء لانهم قالوا: ربنا الله. وبنوا القصور على جثث الرأي الآخر. واعطوا القصور والذهب المصفى واللآلىء والمجوهرات للشعراء والادباء لشعرهم او هجوهم.

اما الجماعات الاسلامية فانها كانت تحت ضغوط سياسية وحاولت في بادىء الامر ان تدافع عن وجودها لكنها واجهت المتاعب من قبل السلطات لذلك التجأت الى العنف والعمل السياسي الدموي مع الاسف ونسوا انه (لا يطاع الله من حيث يُعصى).

فالقتل والدمار واخذ الرهائن كما يفعله جماعة ابو سياف او كما حصل في اليمن وغيرهما كلها حرام قطعاً ومن دون خلاف. لان الفقهاء اقروا المعاهدات الدولية وقانون الجوار كما في الآية المباركة : (وان أحداً من المشركين استجارك فأجره…) حيث ان الكافر دخل دار الاسلام ضمن اتفاقية دولية وعلى المسلمين ان يحفظوا دمه وعرضه وماله. وحاله حال سائر المسلمين. إلا اذ ثبت صدور أي عمل عدواني منهم.

وأتصور وحسب الفتاوى الموجودة عندي من جل علماء الاسلام ان كافة الاغتيالات والاعمال الارهابية والعنف والخطف الذي حصل وسيحصل في المستقبل لا محالة (ما دامت الظروف السياسية باقية على حالها والرأي الآخر لايحترم ) حرام قطعاً .

والحل هو: تشكيل لجان من قبل الدول والحكومات للتفاوض مع الرأي الآخر (وإن كان جارحاً) ، وعقد ندوات واجتماعات لطرح فكرة اللاعنف.

لكن مع الاسف نرى بعض الدول تفاوض اسرائيل وتعقد معها علاقة التطبيع لكنها وفي نفس الوقت تدخل في صراع مرير مع ابنها (الذي هو بمثابة الرأي الآخر) وتزجه في السجون وتلغي دوره ومن ثم تقول : انهم زمرة ….. وعملاء !! وماالى ذلك من الكلام.

فكما نقول نحن للجماعات الاسلامية : كفوا عن الارهاب والعنف واتخذوا نهج اللاعنف ، فكذلك نقول للدول الاسلامية العامرة وزعاماتها:كفوا عن …

ونسأل الباري تعالى ان يوفقنا واياكم لما هو خير وصلاح للامة الاسلامية. انه سميع مجيب.