جون ويتبك 


كانت نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي فترة مؤلمة للذين ما زال يراودهم الامل في تحقيق العدل والسلام في الشرق الاوسط. ففي 24 يونيو ألقى الرئيس جورج بوش خطابا محبطا للآمال حول «رؤيته» لقضية السلام في الشرق الاوسط، صاحبه انحياز سافر لاسرائيل ومنطق مناف للعقل وتميز بعدم الاتساق. (وصف جوناثان فريلاند في مقال كتبه بصحيفة «الغارديان» حديث بوش بأنه «خطاب خيالي» بمعنى انه يعج بالوهم والخيال من بدايته حتى النهاية).
هذا الخطاب، الذي عول عليه العالم، وتوقعه ان يعيد الامل والتفاؤل، عمق البؤس وزاد من وتيرة العنف والموت والدمار. وبات من الواضح الآن ان أي تقدم باتجاه السلام لا بد ان ينتظر تغير الادارة الاميركية الحالية والحكومة الاسرائيلية على السواء.
بعد مرور يومين على هذا الحدث، شطبت محكمة بلجيكية الشكوى المقدمة ضد آرييل شارون، بسبب تهم تتعلق بارتكابه جرائم ضد الانسانية على دوره في مذابح صبرا وشاتيلا، اذ اوردت المحكمة في قرارها ان سلطات القضاء البلجيكية تشمل الاشخاص المقيمين بالفعل داخل بلجيكا، فيما يتعلق بالجرائم ضد الانسانية، ومن الواضح ان المحكمة استندت في قرارها المذكور الى اساس اجرائي (وبلا شك الى ضغوط سياسية).
ماذا يمكن ان يفعل الساعون الى السلام والعدل، بعد كل ذلك، ازاء احتواء تدهور الوضع على الاقل؟ القانون الدولي والضمير الاخلاقي للبشرية ظلا على الدوام مصدر القوة الوحيد للفلسطينيين. مصادر القوة هذه تغلب عليها مبدأ ومنطق القوة للنظام الاستبدادي الجديد، ورغم ذلك ثمة فرصة الآن للاعتماد على مصادر القوة هذه.
فبالحصول على مصادقة ما يزيد على 60 دولة في ابريل (نيسان) الماضي، انشئت المحكمة الجنائية الدولية ابتداء من اول يوليو (تموز) الماضي، ومن المقرر ان يكون للمحكمة سلطاتها ازاء مرتكبي جرائم الحرب، (وهي تتضمن كذلك النشاط الاستيطاني)، والجرائم ضد الانسانية بعد 14يوليو. هناك بالطبع العديد من الاستثناءات التي اصرت على معظمها الولايات المتحدة الاميركية كشرط لتوقيعها على الميثاق الخاص بإنشاء المحكمة، وفي نهاية الامر اصبحت الولايات المتحدة واسرائيل من ضمن سبعة دول ـ من بين 127 دولة ـ رفضت التوقيع على الاتفاق في ختام مؤتمر روما الذي انعقد لهذا الغرض، اذ يبدو واضحا ان هذا الموقف ربما جاء بسبب الفشل في استثناء موضوع إدراج النشاط الاستيطاني في جرائم الحرب.
من ضمن الاستثناءات التي نجحت الولايات المتحدة في فرضها، جانب يتعلق مباشرة بالشرق الاوسط. فلكي يكون للمحكمة سلطتها القضائية، يجب ان يكون المتهم من رعايا احدى الدول الموقعة على الاتفاق، كما يجب كذلك ان ترتكب الجريمة داخل اراضي احدى الدول الموقعة. وبما ان اسرائيل لم توقع على اتفاق إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وبما ان فلسطين لم توقع (حتى الآن على الاقل)، فإن هذه الثغرة القانونية التي صنعت بمكر وعناية تعني ان اسرائيل ستستمر في ارتكاب جرائم حرب في الاراضي الفلسطينية المحتلة دون خوف من ان تقود الجريمة مرتكبيها الى المحكمة في لاهاي.
ولكن ما الذي يمنع دولة فلسطين، التي اعلنت عام 1998، واعترفت بها دبلوماسيا 120 دولة ذات سيادة، من التوقيع عل الاتفاق الخاص بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وعرض آلية التصديق على الامم المتحدة، حيث تتمتع فلسطين بوضع مراقب دائم مع غالبية حقوق الدولة العضو، رغم انها لم تتقدم للحصول على وضع دولة كاملة العضوية؟
وبينما تستطيع الولايات المتحدة الاعتراض على منح فلسطين وضع دولة كاملة العضوية في منظمة الامم المتحدة، لا يمكنها مطلقا الاعتراض على انضمام دولة الى اتفاقية دولية لم توقع عليها هي، لكنها ربما لجأت الى استخدام سياسة لي الذراع مع كوفي انان لإبعاد فلسطين، ولكن على أي اساس؟
ظل الرئيس بوش يصر بقوة، وعلى نحو مستمر، على انه يتوجب على القيادة الفلسطينية ان «تفعل المزيد لمكافحة الارهاب». إذا كانت فلسطين من الدول الموقعة على اتفاقية روما الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، فإن أي فلسطيني، مهما كان مستواه، يرتكب عملا «ارهابيا» يعتبر جريمة حرب او جريمة ضد الانسانية، سيمثل امام المحكمة الجنائية الدولية، بيد ان أي شيء من ذلك لن يحدث في حال غياب الموافقة الفلسطينية.
كيف تعارض الولايات المتحدة ذلك؟ واذا حاولنا ان نضع السؤال بصورة اكثر تحديدا، كيف تفسر الولايات المتحدة اعتراضها؟ هل لأن جعل الفلسطينيين عرضة للمثول امام المحكمة الجنائية الدولية سيؤدي، بصورة غير مباشرة، الى جعل جرائم الحرب الاسرائيلية وجرائم اسرائيل ضد الانسانية داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة عرضة ايضا للمقاضاة وفق القانون الجنائي الدولي؟ ام أن عمليات الاغتيال المدبر والاعدامات، خارج نطاق القضاء، مفضلة لدى الولايات المتحدة على حكم القانون؟
موافقة الجانب الفلسطيني على اتفاق روما، ربما يؤدي الى الاعتراف بفلسطين، رسميا من جانب منظمة الامم المتحدة، كـ«دولة» قائمة اليوم، ليس فيها أي شيء «مؤقت». أي سياسي اسرائيلي وأي جندي وأي مستوطن سيعرف ان الاستمرار في الممارسات الحالية سيضعه في مخاطر الاتهام او الاعتقال في دول اخرى، والمثول امام محكمة جنائية دولية. إدراك هذا الجانب يمكن ان يكون له اثر رادع على سلوك بعض هؤلاء.
اللجوء الى القانون الدولي لا يبطل، بأية حال، المبدأ القائم على منطق القوة، لكنه يمكن يخفض الى حد ما حدة العنف والموت والدمار، التي يعاني منها الفلسطينيون والاسرائيليون.

* خبير في القانون الدولي وكاتب في قضايا النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني