يقدم هذا الكتاب ملفا شاملا عن واحد من اهم المستشرقين الفرنسيين في القرن العشرين. ومعروف ان لويس ماسينيون (1883 ـ 1962) كان يجمع في شخصه بين المتناقضات: فقد كان صوفيا كبيرا، ورجلا سياسيا مهما في ذات الوقت. وقد شارك في تأليف هذا الكتاب الجماعي ما لا يقل عن عشرين باحثا. نذكر من بينهم جاك بيرك، صلاح ستيتيه، يواكيم مبارك، وآخرين، واشرف عليه الباحث الفرنسي جاك كيريل، احد تلامذة ماسينيون. يقول هذا الباحث في المقدمة العامة للكتاب: كان ماسينيون يرى المقدس في صميم كل انسان وكل حياة. وكان يعتقد ان علاقة البشرية بالتعالي هي علاقة اساسية. وبالتالي فلا يمكنه ان يتصور وجود مجتمع الحادي او مادي بحت. ولهذا السبب فإن تطور المجتمعات الغربية او قطاعات واسعة منها نحو التصور التكنولوجي والصناعي والوضعي للكون كان يقلقه. لا يمكن فهم ماسينيون إلا اذا اخذنا التجربة الروحية للوجود او التصور الروحي للوجود بعين الاعتبار. كان احد المسيحيين القلائل الذين انفتحوا على العمق الروحي للدين الاسلامي. وقد سبب له ذلك الكثير من المشاكل مع ابناء قومه الذين ورثوا صورة سلبية جدا عن الاسلام.
ثم يردف الباحث قائلا: لقد اعترف ماسينيون بالحضور الالهي لدى غير المسيحيين في وقت كان المسيحيون يعتقدون بأن لا خلاص خارج الكنيسة، وان الايمان الوحيد المقبول عند الله هو الايمان المسيحي. لكن ماسينيون خرج على هذا الاجماع وذلك قبل ان يحصل الاصلاح اللاهوتي الكبير على يد المجمع الكنسي المشهور باسم الفاتيكان الثاني عام (1962 ـ 1965). ومعروف ان هذا المجمع اعترف لأول مرة بالاسلام كدين يؤدي الى الخلاص او النجاة في الدار الآخرة. ان كتابه عن المتصوف الاسلامي الكبير «الحلاج» برهن على وجود النعمة الالهية في الاسلام. وبالنسبة لماسينيون فإن الله كان يعني المحبة: اي العلاقة، الهبة، التواصل مع الآخرين والتعاطف مع آلامهم ومصائبهم. ففيما وراء العقائد والايديولوجيات المختلفة تبقى هناك علاقة اساسية تجمع بين كل البشر: انها علاقة التواصل والتعاطف من خلال الحقيقة المطلقة التي تتجاوزنا جميعا. ثم يختتم الباحث حديثه قائلا: ان ماسينيون، على اثر غاندي، كان يقترح علينا نظاما، اجتماعيا ودوليا جديدا. ولكن اي نظام؟ انه ليس ذلك النظام الذي تريد قوى المال والرأسمال ان تفرضه علينا اليوم بالقوة، ولا ذلك النظام الذي تحاول قوى التزمت والتطرف ان تفرضه علينا ايضا بالقوة، وانما هو ذلك النظام الذي يعترف بتعددية الثقافات والحضارات وبامكانية التعايش فيما بينها من خلال التواصل الروحي والانساني العميق.
اما جاك بيرك فقد كتب بحثا بعنوان «ذكرياتي مع لويس ماسينيون»، ويبدو انه ارسله الى اللجنة المكلفة بتحضير هذا الكتاب قبل بضعة اسابيع فقط من موته عام (1995). وبالتالي فربما كان آخر نص كتبه. ومعروف ان جاك بيرك ينتمي الى الجيل الذي أتى مباشرة بعد جيل ماسينيون والذي يضم مستشرقين كبارا من امثال روجيه ارنالديز، وماكسيم رودنسون، وفانسان مونتيل، ولويس غارديه.
يقول جاك بيرك ما معناه: كان ماسينيون يبدو وكأنه رجل عبقري. وقد وظف عبقريته كلها في خدمة العلاقات الكائنة بين فرنسا والعالم الاسلامي او العربي تحديدا. وكانت علاقات مهددة باستمرار آنذاك.
لقد التقيت بماسينيون بشكل منتظم طيلة الخمس عشرة سنة الاخيرة من حياته. التقيته مرات عديدة في اماكن اخرى غير فرنسا: في مصر، او المغرب، او لبنان، وفرق العمر بيننا كان يمكن ان يجعل منه والدي. والتواضع يمنعني من ادعاء صداقته.. ولكن يبدو لي اننا كنا في تلك الفترة المضطربة نعمل من اجل نفس القضايا: وبخاصة القضية الجزائرية. وكان يشاطرنا نفس الرأي فانسان مونتيل الذي عرف، مثلي، النفي والإبعاد، وكان الرأي العام الفرنسي منقسما جدا تجاه مسألة الجزائر، ولم يكن من السهل ان تتخذ موقفا لصالح استقلالها. ولكننا اتخذناه وتحملنا مسؤوليتنا مع الاستاذ المعلم. ومعروف انه تعرض للضرب والاهانة الجسدية في احد الاجتماعات التي تمت في السوربون. اما بيير روكالف السفير السابق لفرنسا في العراق والمملكة العربية السعودية فيكتب بحثا بعنوان: «لويس ماسينيون ولويس غارديه: صوفيان في حالة حوار». ومما جاء فيه: من بين كل تلامذة ماسينيون يمكن القول بأن لويس غارديه هو الاقرب اليه والى روحانيته. وهو على اي حال كان المفكر الذي فهم عمق شخصية ماسينيون ومدى الشفقة والرحمة الذي تمتليء به. كما انه سار على خطاه فيما يخص الحوار الاسلامي ـ المسيحي الذي كان عزيزا على قلب ماسينيون كما هو معروف.
ولكن كلا منهما اعطى للتصوف مفهوما لا يتطابق تماما مع الآخر. فماسينيون ركز على الناحية النفسانية للتصوف، هذا في حين ان لويس غارديه ركز على الناحية اللاهوتية او العقائدية. في عام 1922 اصدر ماسينيون كتابه المعروف عن «المعجم التقني للتصوف الاسلامي». وفيه يقول ما يلي: اننا نحدد التصوف على طريقة الغزالي ونقول بأنه عبارة عن استبطان منهجي ومنتظم للتجربة الدينية وانعكاساتها لدى المؤمن.
ولكنه فيما بعد القى محاضرة في السوربون تحت عنوان: هل كان ابن سينا الفيلسوف متصوفا ايضا؟ وهذه المحاضرة القيت عام 1954 بالضبط. وفيها يقول ما معناه: ان التصوف هو تجربة غير مثارة عمدا. انها تجربة عفوية تنتج عن احتكاكنا بما هو غير متوقع، بما هو فريد من نوعه، بما لا يمكن تفسيره، بما هو فردي وآني سواء أكان فرحا وابتهاجا، أم ألما وعذابا.. انها تجربة ذاتية بدون شك، ولكن متلقيها يظل سلبيا ومنبهرا بها. ان من يتعرض لها يظل خاشعا امامها، وهو خشوع يعتبره معظم الاطباء والمحللين النفسانيين بمثابة موقف عقيم وغير فعال تجاه الواقع. ولكن هذه التجربة الصوفية ادت بأناس عديدين الى العثور على شخصيتهم الحقيقية والنهائية. كما ادت بهم الى التعاطف مع بؤس البشرية وآلامها.
والآن نطرح هذا السؤال: ما هي علاقة طه حسين بلويس ماسينيون؟ والجواب عليه نجده في بحث كتبته سارة دوكام واصف تحت عنوان: الصداقات المصرية للويس ماسينيون.
نفهم من هذا البحث ان طه حسين كان تلميذا لماسينيون عندما كان هذا الاخير يلقي محاضراته عن الفلسفة الحديثة في الجامعة المصرية. وكان يلقيها مباشرة بالعربية على الرغم من انه كان ينطقها بصعوبة بالغة.. ولكن الموضوع كان شيقا جدا بالنسبة لطه حسين الذي يريد الانفتاح على العالم الحديث بأي شكل.
ثم يقول عميد الادب العربي: «لا اعرف لماذا كان يتوجه اليّ بالخطاب اولا دون غيري من الطلبة، ثم دعاني الى زيارته في مكتبه بالمعهد الفرنسي في القاهرة. وقد التقينا هناك مرات عديدة، وتشكلت بيننا اواصر صداقة متينة. وقد اختارته جامعة القاهرة كمسؤول عن الطلبة الذين ارسلتهم في بعثة دراسية لاكمال شهادة الدكتوراه في فرنسا. وكنت من بينهم. وقد ساعدني كثيرا هناك».
ثم يردف طه حسين قائلا: «بعد نهاية الحرب العالمية الاولى كنا نلتقي سنويا اما في القاهرة واما في باريس. فهو كان يجيء الى القاهرة شتاء، وانا كنت اذهب الى باريس صيفا. وفي كل مرة كنا نتناقش طويلا. كانت تعجبني معرفته الكبيرة بالدراسات الاسلامية وبخاصة التصوف الاسلامي، كان يهتم بالشؤون الاسلامية، وقد اصبح استاذا لعلم الاجتماع الاسلامي في الكوليج دو فرانس. كان يحب المسلمين كما لو انه احدهم دون ان يتخلى عن ارتباطه العميق بايمانه المسيحي الذي راح يعمقه حتى اصبح صوفيا. كان يكره الاستعمار الاجنبي للبلدان الاسلامية. واشد ما كان يكرهه هو استعمار فرنسا لافريقيا الشمالية: اي المغرب والجزائر وتونس».
في الختام يمكن القول بأن ماسينيون ينتمي الى الجيل القديم من الاستشراق. فعلى الرغم من عظمته واهميته إلا ان ابحاثه تظل اسيرة المنهجية التقليدية، وربما المثالية. ونقصد بذلك انها سابقة على الثورة المعرفية التي شهدتها فرنسا طيلة الاربعين سنة الماضية. وهي ثورة قلبت طريقة فهمنا للتراثات الدينية ايا تكن وذلك عن طريق الربط بين العقائد وبين المشروطيات الاجتماعية والتاريخية التي تشهد انبثاقها. فلا توجد عقيدة واقفة في الفراغ، او افكار مجردة تتعالى على الواقع ومشروطياته. وهذا ما علمتنا اياه العلوم الانسانية الحديثة: كعلم الاجتماع، وعلم الانثربولوجيا، وعلم التاريخ، وعلم الاديان المقارن. بهذا المعنى فان لويس ماسينيون تم تجاوزه حاليا

* لويس ماسينيون ومعاصروه Louis Massignon et Ses Contamporains
* مجموعة من الباحثين تحت اشراف: جاك كيريل Jacques Keryell.

* دار النشر: كارتالا ـ باريس Karthala – Paris