فاطمة المياحي

من حكم الله -تعالى- البالغة ان الانسان هذا الكائن الذي سخر كل شيء في الكون لخدمته يكون اضعف مخلوق أو المخلوق الذي يقضي اكبر مدة وسنوات طويلة بين مواطن ضعفه، فأهون المخلوقات مثلا دودة الارض تجدها بعد فترة وجيزة من تمتعها برحمة الوجود والانشاء مهيأة للقيام بدورها في الحياة كما ان اعضاءها تكون قادرة على القيام بوظائفها واتخاذ كل ما يلزم لدفع الاذى عنها، وهذا مما لا تختص به دودة الارض حسب بل تجده في اكثر الكائنات باستثناء الانسان اما ذكر دودة الارض انما هو للدلالة على المطلوب في اصغر الكائنات الحية لذا فالمطلوب اثبت بما هو اعلى منها.. فالخالق تعالى شاء ان تكون المسيرة التكاملية على هذه الشاكلة فالانسان يولد ضعيفاً متلقياً لفترة من الزمان حتى اذا اكتملت مداركه بدا مما انتهى اليه من سبقه لا انه يبدأ تجربته بنفسه وبمفرده. ومن هنا تأتي خطورة تلك الفترة التي يكون الانسان فيها متلقياً لا يقوى ولا يقدر على محو ما يكتب في صفحة قلبه البيضاء الطاهرة، ولذا كان دور الوالدين في تلك الفترة خطيراً بقدر تلك العظمة التي يتصف بها، فمسيرة الحياة التكاملية في انتظار من يمدها -من الابوين- باللبنات الصالحة والتي تساهم في بناء مجتمع سليم متكامل. وبناء على ذلك يتعين على الوالدين توخي الحذر في بناء شخصية الابناء اذ ان الشخصية تتحدد منذ الطفولة. ولذا أرى من الواجب الاشارة إلى واحدة من الممارسات الخاطئة التي يتبعها الآباء في تعاملهم مع الابناء كي تكون مورد فائدة للآباء من باب التذكرة على عمل الخير.

ان البعض من الآباء يحاولون توحيد المقياس الذي ينظرون به إلى كل من الرجل والطفل، أي انهم لا ينظرون إلى الطفل على انه مخلوق يختلف في مداركه وقابلياته عن الكبار انما ينظرون إلى الطفل وكأنه رجل صغير وهو ما يشير اليه روسو في كتابه (إيميل) اذ يقول فيه (لا يجوز ان ينظر إلى الطفل كأنه رجل مصغر أو إنسان ناقص.. انه طفل وحسب.. له عقليته الخاصة وحاجاته المتميزة وعالمه المستقل، ومن حقه ان يعيش طفلاً يحيا طفولته ويستمتع بها، والطفولة امر ضروري ولا يجوز قياسه بالنسبة إلى الرشد).

ان هذه المسألة اعني مسألة حساب الفوارق وتعدد المقاييس بحسبها اول ما تنبه اليه الاسلام ليس بين البالغ والطفل فحسب بل بين الشاب والشيخ وبين الرجل والمرأة… الخ. وما اختلاف الاحكام بين الناس على حسب اعمارهم واجناسهم الا تجسيد لتعدد المقاييس بحسب القابليات والقدرات. فلو كان الاسلام يوحد المقاييس التي ينظر من خلالها إلى الناس متجاهلاً اختلاف القابليات لرأيت اتحاداً في الاحكام بين الطفل والشاب والكهل والمرأة وهكذا، ولكن الامر يختلف عما قد يتصوره البعض من ان الاسلام تغافل عن مثل هذه الامور بحيث نسي هذا البعض او تناسى بان الاسلام هو الرائد في مسألة النظرة الخاصة للطفل والتي تختلف عن تلك الخاصة بالبالغ حتى تجد هذا البعض ينسب الريادة في ذلك إلى الغرب الذي خطفت مظاهر حضارته البراقة ابصار البعض فاعمتهم عن الكنوز التي جاء بها دينهم.

فهذا تاريخ المسلمين يحدثنا بان رسول الله(ص) كان يوماً يصلي بالمسجد إماماً وعلى غير العادة ادرك المسلمون بان الرسول قد اطال احدى سجداته حتى ظن البعض أن الله قد قبضه اليه. وبعدها اكمل الرسول صلاته، فلما انفتل منها هب المسلمون لسؤاله عن سبب اطالة السجود فأجابهم قائلاً: (لقد ارتحلني -أي صعد على ظهري كأنما جعلني راحلة له- ولدي الحسن فكرهت ان أتعجله). ان مثل هذه الرحمة لم يسبق اليها في تلك العصور وانما هي مثال رائع في تعامل الاسلام مع الطفل. اننا لا نريد ان ننكر الدور الذي قامت به الحضارة الغربية في سبيل ارساء قواعد التعامل مع الطفل، بل على العكس نحن نقر بذلك انما نريد ان نشير إلى ان ما جاءت به الحضارة الاوربية لم يكن سبق لم يدركه قبلها احد.

ان توحيد المقاييس هذا والذي يتضمن (النظر إلى الطفل على أنه رجل صغير كان يقود المربين والآباء إلى مشاهدة النقص في الطفولة والاطفال، وان نظرة خاطئة كهذه تحول الاذهان لأخذ الصغار بمقاييس الكبار، وبالتالي لمحاسبة الصغار على كل تصرفاتهم التي تبتعد عن الرشد والكمال، وقد ادت هذه النظرة إلى الطفل إلى ان تغدو التربية عملية انقاذ الصغار من الطفولة ونقائصها بأقصى سرعة… وجعلهم كباراً بشكل فجائي وسريع، وهذا هو الخطأ بعينه) بل يعد هذا اكبر الخطأ. انه لا يكون خطأً نزول الوالد او المربي او المعلم إلى مستوى الطفل فينسلخ من كونه رجلاً حتى يعود طفلاً صغيراً يدخل إلى كوامن نفس الطفل، ولكن الخطأ كل الخطأ سلخ الطفل عن كونه طفلاً والصعود به إلى مصاف الكبار والبالغين والتعامل معه على هذا الاساس، ان هذا ليس خطأ فحسب بل يعد من الحالات التي لا يمكن تحصيلها. (ان الطفل طفل ويجب ان ينظر اليه بمقاييس الطفولة لا بمقاييس الكبار، والطفولة مرحلة ضرورية وطبيعية، وليست مرحلة نقص أو شر طالما ان كل انسان يمر بها في مقتبل حياته).

يقول روسو: (يشكو الناس من حال الطفولة، ولا يرون انه لو لم يبدأ الانسان حياته طفلاً لهلك الجنس البشري) ان نتائج البحوث الحديثة التي توصل اليها علم النفس التربوي هي انه من الواجب احترام الطفولة. فلا بد ان يترك السبيل حراً امام حركات الطفولة العنيفة. (ومن الخطأ ان تعد هذه الحركات شيئاً يجب قمعه.. ان الوقت الذي نصبر فيه على الاطفال كي نفهمهم وندعهم فيه يتصرفون كاطفال هذا الوقت يبدو للمتزمت أنه وقت ضائع ولكنه في الحقيقة وقت مكتسب..

أليس ثمة قيمة لأن يكون الطفل سعيداً؟

أليس ثمة قيمة للقفز واللعب والعدو طيلة النهار؟

بلى ان الامر لكذلك).

ان الدار التي لا يهز جدرانها صدى صريخ الاطفال لا تعد في واقعها داراً انما اجدر ان نسميها قبراً.

والمجتمعات التي تضيق ذرعاً بهذر الأطفال الذي يضفي على الحياة أنغاماً عذبة لهو ابعد المجتمعات عن الحضارة.

فليس الطفل إلا الكبد وهل يضيق الانسان ذرعاً بالحركة التي يقوم بها كبده اثناء تأدية واجبه في داخل بدنه؟