نشرت صحيفة يديعوت احرونوت الاسرائيلية مقالا عن الاحداث الاخيرة في العراق حيث قدم الكاتب تحليلا كشف فيه الاهداف الامريكية المبطنة لاثارة اوضاع العنف الاخيرة، وجاء في المقال:

مع كل قتيل يوميا وصور مقتدي المعلقة علي الجدران.. سيغرق العراق في دوامة الانتحاريين

هذه هي طبيعة الحرية. الحرية ليست أمرا منظما ، قال رامسفيلد معلقا علي الأنباء المتلاحقة حول اعمال النهب والسرقة الجارية في بغداد. هناك في العراق أناس لا يفهمون ما هي الحرية ، قال بوش في هذا الاسبوع عندما قتل عشرات الامريكيين ومئات العراقيين في المعارك الأكثر ضراوة منذ سقوط النظام السابق.

الكلمات المستخدمة لا تتغير اذا. الادارة الامريكية تواصل التحدث عن الحرية والديمقراطية واقتصاد السوق والمستقبل الجديد للشرق الاوسط. ولكن علي ارض الواقع يقاتل جنود المارينز في الفلوجة من شارع الي شارع وتسقط الطائرات بقذائفها علي المساجد، وفي النجف يطلق الزعيم الشيعي الشاب، مقتدي الصدر، ابن الثلاثين، تصريحات حماسية حول القتال حتي الموت ضد المحتلين. من يوم لآخر ومن قتيل لآخر تتسع الفجوة بين الكلمات الصادرة في امريكا والرصاصات التي تتطاير في العراق.

الصحافيون يتنافسون في عملية المقارنة بين الأمرين. الاغلبية يتحدثون عن فيتنام طبعا. آخرون ممن حُفرت صور أجساد الامريكيين الاربعة الذين مُثل بهم في الفلوجة، يتحدثون عن مقديشو. مخضرمو الثمانينيات يتذكرون السوفييت في افغانستان، وفي مكاتب الادارة المدنية في بغداد يتناقلون من يد الي يد كتاب اليستاير هورن الكلاسيكي حول حرب الاستقلال الجزائرية حرب وحشية للسلام .

في الاسبوع القادم سيكون شارون في واشنطن، فاذا كان لدي بوش متسع من الوقت وكانت لدي شارون رغبة في الحديث عن الذكريات فسيعطيه تشبيها من واقعنا نحن في لبنان حيث خضنا حربا علي أساس واهن جدا وحاولنا فرض نظام جديد في دولة لا نفهم شيئا من واقعها السياسي، فأثرنا المارد الشيعي وكيف ولد علي رأسه قائد شاب كاريزماتي ذو حماسة قتالية وبني لنفسه سيرة كاملة علي ظهر المحتل لنهرب من هناك وذيلنا بين أرجلنا في نهاية المطاف ـ هربنا نحن واصدقاؤنا الامريكيون الذين كانوا قد جاءوا الي بيروت في عام 1983 لبناء دولة علي أنقاض الدمار المتكدس فيها.

الامريكيون، ويا للغرابة، هم الذين بدأوا الأحداث الدموية في هذا الاسبوع، لماذا؟ احدي الفرضيات تقول انها مكيدة امريكية مدبرة لقناعة واشنطن بعدم القدرة علي تسليم السلطة في 30 حزيران (يونيو) من هنا رغبوا في تدهور الوضع لابقاء ذريعة لمواصلة التواجد هناك.

الامريكيون في كل الاحوال تجنبوا الفلوجة إلا للضرورة والأخذ والرد الي ان جاءت العملية البشعة الأخيرة ضد الامريكيين الاربعة فبدأت العملية الواسعة المتواصلة الآن. ولكن الامر الواضح هو انه حتي لو دخل الامريكيون الفلوجة فستتواصل حرب العصابات فيها. رامسفيلد يقول عن ذلك: لدينا خطة وسننفذها .

وفي الجنوب أشعل الصدر نارا كبيرة، ولكن لم يكن هو الباديء فيها ايضا. الصدر هو نجل آية الله معروف وينحدر من احدي العائلات الشيعية الريادية في العراق، وكان قد قتل علي يد صدام حسين في عام 1999. مقتدي الصدر ليس رجل دين (هو صغير جدا علي ذلك)، ومكانته الجماهيرية ايضا لم تكن ذات قدر حتي الآونة الأخيرة. قلة من الشيعة كانت تصغي له ونسبة أتباعه في الشيعة قليلة بالمقارنة مع أتباع آيات الله الاربعة في النجف وعلي رأسهم السيستاني.

السيستاني حتي هذه اللحظة يواصل التمسك بالديمقراطية واستبدال الاحتلال بحكم ذاتي بالطرق السلمية. السبب واضح: اذا جرت انتخابات ديمقراطية في العراق فهو الرابح. مسألة ديمغرافيا. ومن الواضح ايضا ان الامريكيين لا يريدون ديمقراطية الاغلبية المقررة . الأكراد يستحقون نصيبهم، والسنة لن يوافقوا علي السيطرة الشيعية وايران قريبة جدا. في نهاية المطاف ليس هناك مفر من التصادم بين السيستاني والامريكيين أو حكومة الدمي التي سيتركونها من خلفهم. أساتذة الصدر الروحيين هم من ايران تحديدا. السيستاني انتقده كثيرا، ولكن الصدر صرح في هذا الاسبوع ان تنظيمه، أي جيش المهدي، هو الذراع العسكرية للقائد الأكبر، وقال انه سيقدمه علي طبق من ذهب للسيستاني بعد طرد المحتلين من العراق.

كلمة الذراع العسكرية معروفة لنا جيدا، ويبدو ان الصدر لم يصرح بارتباطه وصلته بحماس وحزب الله عبثا. من حسن نصر الله أخذ نموذج الكاريزماتية باعتباره شخصا أخذ تنظيما شيعيا صغيرا ورفعه الي أعالي المجد والفخار علي أكتاف مقاومة المحتل. أما حماس فقد استمد منها نظرية الذراع العسكرية المقاتلة المنفصلة شكليا عن القيادة الروحية. ليس واضحا سبب قرار امريكا مهاجمة الصدر الآن. ربما أرادوا ان يحولوه كمثل لمن لا ينصاع للتيار، وربما رغبوا بتوجيه ضربة قاصمة ومن ثم الخروج من العراق كما اعتاد جيشنا القول قبل انسحابه من لبنان. من المحتمل ان يكونوا قد أرادوا تسوية الحساب علي قتل عبد المجيد الخوئي الذي عاد الي العراق من لندن بفضل الامريكيين.

الجانبان يسيران علي حبل رفيع. آيات الله الاربعة الكبار في النجف ما زالوا يظهرون موقفا موحدا يدعو لعدم الانضمام للكفاح المسلح. ولكن مع كل قتيل وكل يوم وصور مقتدي المعلقة علي الجدران سيكون من الصعب عليهم تحمل مشاعر الناس الملتهبة واحتوائها. وفي هذه الحالة سيغرق العراق في دوامة من الانتحاريين والارهاب.

الامريكيون يبذلون جهودا يائسة للحفاظ علي ائتلافهم. المرشح المتصدر في استراليا، مارك لاتام، وعد باعادة قواته قبل عيد الميلاد القادم علي غرار حكومة اسبانيا الجديدة. القوات الامريكية والبولندية أصيبت بخسائر في هذا الاسبوع وحكومة كوريا الجنوبية أمرت جنودها بعدم مغادرة قواعدهم.

النغمات الشاذة من صفوف الامريكيين انفسهم تتعالي وهي لا تطري السامعين في واشنطن. القادة يقولون انهم سيرسلون المزيد وان النصر قريب مع القليل من الصمود. هذه النغمات هي التي تدفع قادة سياسيين مخضرمين مثل السناتور تيد كينيدي للتحدث عن فيتنام بوش . وهي التي تدفع رامسفيلد للقول ان الجنود سيحصلون علي كل ما يريدونه.

وعلي الارض تنغلق القوات علي نفسها ومناطق تحركها آخذة في الانكماش. عمليا تنغلق الاغلبية الحاسمة من الجنود (115 ألفا) في اربع مناطق أساسية بما فيها المنطقة الخضراء المعروفة في بغداد. أما خارج هذه المناطق فالجحيم يعربد.

أكثر من شخص يدعون ان أحمق قرار اتخذه بول بريمر كان حل الجيش العراقي في أيار الماضي. بريطانيا عارضت بينما قال غاي غارنر المسؤول السابق لبريمر: لقد اشترينا لانفسنا 400 ألف عدو بهذا القرار . بعض الجنود أصبحوا اليوم جزءا من النواة الصلبة لحرب العصابات الدائرة.

أما سبب حل الجيش فيعود لان حرب العراق غير قابلة للتفسير اذا لم ترجع لايديولوجية الجالسين في واشنطن. بوش يؤمن بنظرية محور الشر في أعماقه ويعتبر مهمة امريكا في العالم إلهية. آخرون من الأقل تدينا يقولون ان امريكا هي رمز الخير وهي التي يجب ان تحكم العالم. العنف والفوضي يسيطران علي اغلبية العراق ومحاولة بناء نظام جديد لها يسير علي ما يرام. (632) شرطيا عراقيا قتلوا خلال الستة أشهر الاخيرة. كل هذا تحول الي مشاعر غضب هائلة ضد المحتل الاجنبي. رامسفيلد يطلق علي ذلك “الحرية ليست امرا منظما”. مجموع القتلي الامريكيين في العراق اجتاز خط الـ 600 مائة. من الذي قتلهم؟ لا أحد يعرف بالضبط. عدد الهجمات الرسمي ضد قوات التحالف 27 في اليوم. ولكن العدد الحقيقي أكثر من ذلك بكثير. البنتاغون يقدر عدد مقاتلي العصابات المختلفين بخمسة آلاف. ولكن ليست لديه احصائيات حقيقية. فعلي سبيل المثال تحدث الامريكيون عن تدفق الارهابيين من كل العالم نحو العراق ولكن عدد من ضبطوا من الاجانب بين الـ 12 ألف معتقل هو 150 اجنبيا فقط.

الامر الواضح: انه اذا غير السيستاني ومحمد سعيد الحكيم وبشير النجفي أو أي أحد غيرهم من رجال الدين المهمين في العراق رأيهم وأيدوا الانتقال الي المقاومة العنيفة فان العدد سيتضاعف عشرات المرات. الادارة الامريكية، بتعبير وزير خارجيتها باول، تعتبر بأن النجاح سيكون اذا كان العراقيون لن يكرهوننا . وفي مسافة أقل من شهرين قبل نقل السلطة الموعودة الي أيد عراقية، قبل سبعة اشهر من دعوة بوش الي الوقوف أمام الناخب، يبدو ان هذا الهدف المتواضع أبعد ما يكون عن التحقق ايضا.

عوفر شيلح – (يديعوت احرونوت) ـ 9/4/ 2004