منذ اللحظات الأولي بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول على مركز التجارة العالمي في نيويورك ووزارة الدفاع الأميركية في واشنطن، بادرت أغلب الحركات الإسلامية عبر العالم إلى إدانة الهجمات.. وينبع هذا الموقف – في ما يبدو لنا – من اعتبارين:

أولهما: اعتبار أخلاقي يجد جذوره في فلسفة الجهاد في الإسلام، التي ترفض استهداف غير المقاتلين، وتمنع قتل النساء والأطفال، وإتلاف الأموال بغير حق.

والثاني: اعتبار سياسي وهو أن الطريقة التي تم بها الهجوم يعسر تبريرها والدفاع عنها من وجهة نظر سياسية، مهما يكن الموقف الأخلاقي منها، نظرا لإطباق العالم كله على رفضها.

الخلفيات الفكرية والتنظيمية

لكنه لم تنقشع سحب غبار الهجومين حتى تكشفت عن تباينات شتى في مواقف هذه الحركات من التفجيرات.. ولم يبق الموقف شبه الإجماعي على حاله، بل تكشف عن تباينات عديدة تبعا لاختلاف الخلفية الفكرية والتنظيمية.. فالمعروف أن مسمى الحركات الإسلامية يشمل في الوقت الحالي ثلاثة أصناف:

أولا: الحركات الإسلامية السياسية، والمقصود بها هنا ذات الخلفية الإخوانية.. وهذه حركات سلمية، تميل إلى العمل من داخل النظام السياسي والاجتماعي السائد، وتسعى إلى دفعه إلى التغيير بروح إصلاحية لا ثورية. ويمكن القول إن هذه الحركات اتخذت قرارا إستراتيجيا منذ السبعينيات بتفادي الصدام المباشر مع خصومها، واعتماد منهج التدرج والنضال المدني، بالتعاون مع القوى القومية والوطنية المعارضة.. لذلك لا عجب أن أطبقت هذه الحركات على إدانة الهجمات يوم 11 سبتمبر/ أيلول، لأن هذا الأسلوب من المنازلة لا ينسجم مع رؤيتها ومنهجها في العمل.

ثانيا: الحركات الاسلامية السلفية، وهي تقليديا ذات منحى تعليمي إرشادي، ولم تكن تهتم بالسياسة كثيرا ولا تحسن ألاعيبها.. لكن التطورات الاجتماعية والسياسية في الجزيرة العربية خلال العقد الأخير تكشفت عن مخاض جديد في الحركات السلفية، جعلها أكثر تسيسا وأعمق وعيا بالحدث اليومي.. وقد تبنت هذه الحركات – بعد تجاوز أيام الصدمة الأولى – موقفا أكثر “تفهما” لما حدث ضد أميركا، دون أن تؤيده بشكل صريح.. وربما كان من أسباب ذلك أيضا موقف تلك الحركات السلفية من الوجود العسكري الأميركي في الخليج.

ثالثا: الحركات الجهادية الثورية، وهي سلفية الفكر في الغالب الأعم، لكنها تختلف عن السلفيين التقليديين في موقفهم من الحكام، وميلهم إلى الخضوع للأمر الواقع، وعزوفهم عن السياسة. كما تعتبر أن الحركات السياسية الإخوانية تغالي في التحوط والمحاذرة، مما حولها إلى جزء من الواقع، لا بديلا عنه كما هو المفترض.
وتتبنى الحركات الجهادية طريق “ذات الشوكة” في تعاملها مع الحكام ومع القوى الأجنبية الموجودة في المنطقة.. وهي في العادة قليلة العدد، لا تجد تعاطفا كبيرا بين جماهير الشعب العريضة، نظرا لأن خروجها على الدولة تحول في بعض البلدان إلى خروج على المجتمع، فأضر برسالتها وجاذبيتها، كما أن جهدها الحربي لا تصاحبه مظلة سياسية مناسبة، تسدده وتجني ثمرته.
وقد لزمت هذه الحركات الصمت في الأيام الأولى التي تلت الهجمات -ربما لصعوبة الدفاع السياسي عنها– لكنها عادت فتحمست للهجمات وبررتها، خصوصا بعد بدء الحرب ضد أفغانستان.
ونحن هنا نتحدث عن المواقف الرسمية المعلنة، لا عما تهمس به الألسنة في المجالس. ولو أردنا أن نتحدث عن ذلك لقلنا إن مواقف الحركات الإسلامية –وربما الجماهير المسلمة في مجملها- لا تختلف كثيرا عن الموقف الذي عبر عنه أحد الكتاب الفرنسيين في صحيفة “لوموند” حين قال “إن ضحايا الهجمات يوم 11 سبتمبر/ أيلول أبرياء، لكن أميركا ليست بريئة”، بمعنى أن الحركات الإسلامية ترفض العملية من الناحية الأخلاقية، لكنها مترددة في الحكم عليها من الناحية السياسية، نظرا لاقتناعها بضرورة الضغط على أميركا بأي وسيلة ترفع الظلم الأميركي الواقع على الفلسطينيين والعراقيين، وغيرهم من الشعوب المسلمة..وقد أجمعت الحركات الإسلامية في تصريحاتها وبياناتهاعلى تحميل أميركا المسؤولية –كليا أو جزئيا– عن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، واعتبرت السياسات الأميركية تجاه الشعوب الإسلامية سببا رئيسيا في بذر الحقد والكراهية، وتعميق الجفاء بين العالم الإسلامي والغرب.. وتواترت الإشارة في تلك البيانات إلى السياسة الأميركية في فلسطين والعراق، ومساندة أميركا لبعض الحكام الذين تكرههم شعوبهم.. كما أجمعت الحركات الإسلامية على رفض الحرب ضد أفغانستان، والدعوة إلى نصرة الشعب الأفغاني في محنته، رغم أن جل تلك الحركات لا تربطها علاقة ودية بطالبان أو بأسامة بن لادن وجماعته.

غزل أميركي وتجاوب سوداني إيراني

لكن ما يثير الانتباه تعامل إيران والسودان مع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول وما تلاها، وكل من الدولتين تحكمه سلطة تقف وراءها “حركة” إسلامية بمعنى ما، وتشترك السلطتان مع الحركات الإسلامية الأخرى في مجمل رؤيتها الفكرية والسياسية.. فقد أنتجت الظروف التي أعقبت حوادث 11 سبتمبر/ أيلول تقاربا وتفاهما بين الدولتين وأميركا لم يسبق له مثيل من قبل.. ويدل ذلك على أن منطق الدولة هو الذي يسود في النهاية، حتى ولو كان الحاكم إسلاميا.. كما يدل على أن ظاهرة “طالبان” – التي ظلت تتعامل بمنطق الحركة وهي دولة – ظاهرة استثنائية.

وربما يدل ذلك أيضا على مزيد من وعي الحركات الإسلامية بالمكان، واعترافها بالخصوصيات فيما بينها، وضرورة مراعاة تلك الخصوصيات في التعاطي السياسي.. وهو درس لأميركا قد تدرك من خلاله أن الإسلاميين ليسوا بالضرورة أعداء أبديين لها في كل الظروف والأحوال، خصوصا إذا أصبحوا حكاما يقيدهم منطق الدولة ومصلحتها.

على أن كلا من إيران والسودان ظهر فيه المنطقان بشكل متواز، ففي حين أبدى الرئيس “خاتمي” تفهما للمواقف الأميركية، أظهر الإمام “خامنئي” موقفا صلبا ضدها، وفي حين تعاطفت وزارة الخارجية السودانية مع أميركا، أصدر “مجلس علماء السودان” بيانا يناهض أميركا، ويدعو إلى نصرة الأفغان.

آثار الأحداث الأخيرة على الحركات الإسلامية

من المؤكد للمطلع على مسار الحركات الإسلامية أن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول وما تلاها تشكل محطة مفصلية هامة، سيكون لها ما بعدها في التأثير على الحركات الإسلامية، سواء في علاقاتها في ما بينها، أو في علاقاتها بالحكام في الدول الإسلامية، أو في علاقاتها بالغرب.

فمن حيث العلاقات الداخلية بين هذه الحركات، يمكن أن تسير الأمور في اتجاه الاتصال أو الانفصال، بحسب التطورات القادمة في الدول الإسلامية، فإذا زادت الضغوط الأمنية والسياسية على الحركات الإسلامية، نتيجة لما يسمى حاليا “الحرب ضد الإرهاب”، وظلت محرومة من التعبير السلمي عن نشاطها وطموحها السياسي – كما هو متوقع في المستقبل القريب – فسيؤدي ذلك إلى التقارب بين مدارسها المختلفة أكثر فأكثر. ولن يكون للتقسيم الثلاثي الذي أشرنا إليه دلالة كبيرة مستقبلا.. بل الراجح أن الحركات الإخوانية ستصبح أكثر راديكالية في ظروف المواجهة، وستصبح الحركات السلفية أكثر تسيسا من ذي قبل، وستعي الحركات الجهادية أهمية المظلة السياسية والإعلامية، وتنسيق الجهد مع الآخرين.. وربما أنتج ذلك تركيبا جديدا يحمل مشروعا سياسيا جديدا وسبلا للمواجهة مختلفة عما كان عليه الحال في الماضي.

أما إذا استطاع الحكام – والغرب من ورائهم� إدراك التنوع داخل الصف الإسلامي، والتمييز بين النضال السياسي السلمي وغيره، فسمحوا للحركات الإسلامية بمزيد من حرية العمل والمشاركة السياسية، فسيؤدي ذلك -على الأرجح- إلى إقبال كل من الحركات الإسلامية على شأنها، وترجيح همها المحلي على المناصرة العالمية، حرصا على مكاسبها الخاصة في مجتمعها الخاص، ومراعاة لموازنات التعامل السياسي الداخلي التي تفرض نفسها.