أما العلاقة بين الحركات الإسلامية والغرب،
فستتوقف –إلى حد بعيد– على طبيعة المنظور الإستراتيجي الجديد التي سيتبناه صانع القرار الأميركي، في الظروف الجديدة الناتجة عن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول وحرب أفغانستان.

إن من المفارقات الكبرى التي تكشفت عنها أحداث 11 سبتمبر/ أيلول أن الأمن لم يعد مسألة فنية، بل قضية سياسية بالدرجة الأولى. فبينما كانت الفرقاطات والمدمرات وحاملات الطائرات الأميركية تجوب المحيطات عبر العالم، وهي تطوق أعداء أميركا وتحمي أصدقاءها.. أصيبت أميركا بضربة قاتلة في القلب، وقد تحدث العديد من الإستراتيجيين الأميركيين عن مستوى “الكفاءة العالية” التي تم بها التخطيط لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول وتنفيذها، وأبدوا تشاؤما كبيرا من أن ذلك مؤذن بمرحلة جديدة ستميل فيها كفة القوة لصالح المنظمات على حساب الدول.

وصرح هؤلاء الإستراتيجيون بأن أي إجراءات حربية أو احتياطات أمنية لن تمنع من مخاطر المستقبل التي قد تحملها منظمات معادية إلى أرض الولايات المتحدة، أو إلى مصالحها عبر العالم.. والسبب في ذلك هو أن خبرة التنظيم والاتصال التي توفرها تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين للجميع، فقراء وأغنياء حكاما ومحكومين.. تجعل المواجهة أصعب وأعقد من المواجهات التقليدية بين جيشين متوازيين.. ويقتضي هذا التحول من الناحية العملية ترجيح الحلول السياسية على الحلول الفنية، والاستماع إلى الشعوب –لا إلى الحكام فقط– وعدم التمادي في تجاهل أسباب العداء وجذور الشر.

وفي حالة العلاقة بين الحركات الإسلامية والغرب �خصوصا أميركا – فإن ذلك يقتضي من الولايات المتحدة التخلي عن تجاهل هذه القوى الاجتماعية الصاعدة، وإعادة التفكير في العلاقة بها على المدى البعيد، بشكل يخدم السلم والتعايش -إن لم تكن الصداقة الخالصة ممكنة- ورفع الظلم الذي يثير حفيظة الحركات الإسلامية في فلسطين والعراق وغيرهما.. فإن نجح هذا التوجه الجديد في لمس شغاف القلب الأميركي الجريح –وهو أمر غير مؤكد في المدى القريب– فإن العلاقة بين الحركات الإسلامية والغرب ستتطور نحو الأحسن.. وإن استمر التفكير الأميركي التقليدي مسيطرا، تغذيه اللوبيات اليهودية واليمينية التي تكره رؤية الأمور سائرة في هذا الاتجاه .. فإن توتر العلاقة هو الذي سيسود، وسيحمل معه نتائج كبيرة وخطيرة.

وليس لنا أن نتفاءل كثيرا في المدى المنظور بتحول إيجابي في نظرة أميركا للحركات الإسلامية، لأن روح المواجهة وصوت الحرب هو السائد حاليا.. وقد كتب أحد الصحافيين الإسرائيليين منذ أيام يقول مخاطبا الأميركيين “هنالك طريقان، أن تفهموا الإرهاب أو أن تحاربوه، وليس هناك طريق ثالث”.. وقد جهد الإسرائيليون واليهود الأميركيون إلى دفع أميركا إلى خيار الحرب على حساب خيار الفهم، ونجحوا الآن في ذلك، وربما سينجحون في ذلك مرات أخرى في المدى القريب.. إن من الواضح أن الشعوب الإسلامية والشعب الأميركي سيدفعان مرة أخرى ثمن البلادة الأميركية.. لكن خيار الفهم لن يغيب من الخارطة على أي حال، وستفرضه الوقائع في النهاية.

إن ما نتج عن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول من تحول مفهوم الأمن من مسألة فنية إجرائية إلى أمر سياسي، سيؤثر على تفكير الحكام في البلاد الإسلامية، بنفس الدرجة التي أثر بها على التفكير الأميركي، ولربما بشكل أكبر.. ولا بد أن مَنظر البنتاغون متحطما، ومركز التجارة العالمي محترقا، قد أثر في نظرة الحكام في البلاد الإسلامية إلى أمنهم وبقائهم. وليس مما يُستغرَب أن “المساعدات الفنية” الأميركية في مجال الأمن، لم تعد بنفس الدرجة من الأهمية والمصداقية في نفوس أصدقاء أميركا من حكام الدول الإسلامية، بعد يوم 11 سبتمبر/ أيلول.. فإذا كان المتكفل بالأمن لم يعد آمنا، فإن المعتمدين عليه لن يرتاحوا إلى تلك الطريقة في التأمين.

وقد بدأت ملامح ذلك تظهر للعيان منذ اليوم الأول للهجمات، وأبدى أصدقاء الولايات المتحدة في العالم العربي “شجاعة سياسية” غير مسبوقة في نقدهم لأميركا وسياساتها، والنأي بأنفسهم عنها.. وربما كان هذا على الأرجح أمرا ظرفيا يقتضيه فن العلاقات العامة أيام الأزمات، كما تدل عليه ازدواجية الخطاب السائدة، التي جعلت وزير دفاع إحدى الدول العربية يصرح –بالعربية- بأن بلاده لن تسمح لأميركا باستخدام قاعدة جوية على أرضها في ضرب أفغانستان، ثم يصرح سفير نفس الدولة لدى أميركا في نفس اليوم –لكن بالإنكليزية هذه المرة – أن القاعدة رهن الإشارة الأمريكية.

ومع ذلك فإن هذا الخطاب السياسي يدل على أن عالم ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول عالم مختلف، وأن موازين القوى داخل الدول الإسلامية بدأت تهتز. ومن آثار ذلك على المدى البعيد أن بعض الحكام المسلمين سيجدون من الأجدى لهم في النهاية التفاهم مع القوى السياسية المحلية – وأهمها الحركات الإسلامية – بدلا من الاتكاء على حماية من وراء البحار، وربما لن يقتنع بعضهم بهذا المنطق، وسيزيد من الاعتماد على الخارج، لكن ذلك سيزيد الوضع السياسي احتقانا، ويقربه من حافة الانفجار.

وربما تفهم أميركا أن من يزرع “الشاه” يحصد “الخميني”، وتخاف على مصالحها بعيدة المدى، فتدفع الحكام في الدول العربية إلى التكيف مع الحركات الإسلامية، والعمل على احتوائها، بدلا من قمعها بشكل مباشر.. وسيكون ذلك بداية انفراج، وعلاقة طيبة بين أميركا والحركات الإسلامية.

كل هذه الاحتمالات واردة، وسيترجح بعضها على بعض بناء على حالة الوضع الداخلي في أميركا وفي الدول الإسلامية.