تشكل الجامعات في ايران، أحدى أهم ساحات العمل السياسي، خصوصاً مع غياب الاحزاب الفاعلة في الساحة السياسية. وهو ما كشفته الاضطرابات التي شهدتها جامعة طهران صيف 1999 والتي تصادف ذكراها هذه الأيام. فالجامعة في ايران تتعدى كونها مؤسسة تعليمية لتصبح احدى ساحات العمل السياسي المؤثر في عملية التنمية عموماً، والتنمية السياسية في شكل خاص.

من هنا تأتي اهمية البحث في انماط السلوك السياسي لطلبة الجامعات والتنوع السياسي الذي يتوزع عليه هؤلاء. وهو ما يتناوله كتاب مجيد محمدي “السلوك السياسي للطلبة في ايران اليوم”(*) الذي يقول مؤلفه ان ما دفعه لوضعه هو البحث في اوضاع الحركة الطالبية واستشراف المستقبل بافتراض استقرار الظروف الحالية، وهو ما يستدعي اطلالة على تاريخ الحركة الطالبية وتطورها.

بداية يرى المؤلف ان “دراسة السلوك السياسي للطلبة الجامعيين في مجتمع ما، لا يمكن ان يكتمل الا بدراسة التركيب السياسي للمجتمع”، ويميز الكاتب بين نوعين من النظم السياسية هي “النظام السياسي المدني” و”النظام السياسي المقدس” فالثاني “يستمد شرعيته من مصدر مقدس او اسطورة فيما يستمد النظام المدني شرعيته من رأي الشعب”. وتالياً فان السلوك الطلابي يختلف في النظام المقدس عنه في النظام المدني.

يتحدث المؤلف عن فترة “سبات” مرت بها الحركة الطالبية الايرانية خلال العقد الأول من عمر الجمهورية الاسلامية، مرجعاً السبب الى “شيوع ثقافة مفادها ان الفقه ورجال الدين هم في الطليعة، وهو ما ادى الى يأس الطلبة من مستقبلهم السياسي، مما دفعهم الى التركيز على نشاطاتهم العلمية والادبية والفنية، فيما كانت الأوساط الطالبية غير المتدينة بشدة، تزداد نفوراً من الوضع السائد، لكن غياب امكانات تنظيم صفوف هؤلاء والعقبات الموجودة في طريق حريتهم في اعلان مواقفهم ادى الى تحولهم عناصر شغب خفية يمكن ان تفجّر طاقاتها لدى حدوث أية أزمة اجتماعية”.

لكن الأمر يتغير خلال العقد الثاني من عهد ايران الجمهورية الاسلامية، وتحديداً منذ غياب كاريزما الإمام الخميني عن الساحة السياسية، اذ شهدت الساحة الطالبية تغييرات ملحوظة، شملت تحديداً التيار الطالبي المتدين الذي “تراجع ولاؤه المطلق لولاية الفقيه، كما كانت الحال في العقد الأول. واخذوا ينظرون الى ولاية الفقيه في اطار الدستور والقوانين، والولي الفقيه كشخص تحت الدستور والقانون وليس فوقه وهو مسؤول وليس فوق المسؤولية. وبذلك اخذوا المنحى ذاته الذي شهدته الساحة الايرانية عموماً”.

لكن المحطة المهمة في تاريخ الحركة الطالبية الايرانية كانت انتخابات الرئاسة عام 1997 والتي شكلت منعطفاً في حياة الشعب الايراني عموماً، هو الثاني، ولو أقل حدة من منعطف الثورة الاسلامية في شباط ،1979 اذ “دخل الطلاب ساحة السياسة بقوة، وليتصرفوا كقوى من داخل تركيبة الحكم وليس كتيار معارض كما في عهد الشاه او منتصر كما في العقد الأول من حياة الجمهورية الاسلامية، لكنهم بدأوا هذه المرة مرحلة وعي فكري – ديني من خلال نقد الحكم ورؤاه الدينية”.

التقسيم السياسي للساحة الطالبية في ايران

يؤكد المؤلف ان الطلبة في الجامعات الايرانية ليسوا كلهم من ذوي النزعة الاصلاحية او من أهل النقد للنظام، بل ان هناك تياراً داخل الساحة الطالبية يعتبر افراده انفسهم مدينين للنظام الاسلامي في وجودهم في المقاعد الجامعية التي حصلوا عليها كمنحة ومكافأة لهم لخدماتهم في جبهات القتال ضد العراق (1980 – 1988)، او من خلال اللجان الثورية وقوات التعبئة التي تولت الحفاظ على الآلاف داخل المدن ومكافحة المجموعات المعارضة.

بداية يقسم المؤلف الساحة الطالبية اقساماً عدة هي:

أولاً: الطلبة الذين يؤمنون بالنظام السياسي القائم.

ثانياً: الطلبة الذين لا يعترفون بالنظام السياسي القائم.

ثالثاً: الطلبة الاصلاحيون ومنتقدو السلطة السياسية.

في تفصيل القسم الأول يقول المؤلف، ان هؤلاء الطلبة المؤمنين بالنظام الاسلامي وشرعيته عملوا بين عامي 1982 و،1988 كيسار اسلامي اصلاحي بالمعنى الاجتماعي. فقد كان هؤلاء يؤمنون بولاية الفقيه المطلقة، ولذلك لم يكن بامكانهم ممارسة نزعاتهم الاصلاحية في الساحة السياسية. فرغم انهم كانوا يرفضون الكثير من السياسات المطبقة في المجال الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الا ان قبولهم بالسلطة الدينية كان يحصّن النظام من التشكيك في شرعيته.

كما ان الخصوصية المشتركة الأخرى بين الطلبة الجامعيين في ايران، كانت معاداة الاجنبي، خصوصاً الغرب: “فقد كان الطلبة الاسلاميون واليسار غير الديني، يرفضون بشدة اقامة أية صلات بالولايات المتحدة والدول التابعة لها، وكان شعار رفض الاجنبي هو السائد بين الطلبة، وهو الذي ادى الى تأييد الطلبة بكل اتجاهاتهم احتلال السفارة الاميركية في طهران. لكن هؤلاء وقعوا في المشكلة نفسها، عندما شاهدوا السلطة تبادر الى تغيير سياستها الخارجية حيال الغرب ودول على علاقة متينة بالولايات المتحدة والغرب مثل مصر والمملكة العربية السعودية”.

منذ ذلك الحين، اخذ شعار “الحرية في اطار القانون” يتبلور داخل الوسط الطالبي، اضافة الى شعارات العدالة والتنمية، خصوصاً بعد ايار ،1997 ووصول الرئيس محمد خاتمي الى الرئاسة فيما تميز تيار طالبي بتمسكه بالنظام القائم أي ولاية الفقيه. وهو تيار بدأ يتحدث عن وجود هوة بين النظام (ولاية الفقيه) والحكومة.

ويعدد المؤلف اسماء التنظيمات الطالبية الرئيسية، واتجاهاتها الفكرية – السياسية، التي تقع كلها تحت عنوان التنظيمات المؤمنة بالنظام الاسلامي وهي:

1- الجامعة الاسلامية للطلبة، وهي حركة طالبية مؤدلجة تتبع فكرياً، تنظيم رجال الدين المجاهدين (جامعة روحانيت) ذات التوجهات المحافظة، والتي تصدر صحيفة “رسالت”. ويقول المؤلف ان هذا التنظيم “لم ينشأ  من داخل المجتمع الطالبي، بل بأمر من تيار سياسي من داخل السلطة”.

2- الجمعيات الاسلامية للطلبة الجامعيين، وهو تنظيم طالبي يميني محافظ قريب من تنظيم رجال الدين “روحانيت مبارز” ايضاً، والاوساط الثقافية المحسوبة على صحيفة “كيهان” اليمينية التي تؤمن بالحكم الشمولي المستند الى القوى الأمنية. وغالبية أفراد هذا التنظيم من افراد ميليشيا “الباسيج” الذين اصبحوا طلبة جامعات.

3- الباسيج الطالبي: وغالبية أفراد هذا التنظيم الطالبي هم ممن حصلوا على مقاعدهم الجامعية كمنح وهدية من النظام، وتالياً فهم يشعرون بأنهم مدينون له. كما ان هؤلاء جاءوا من تنظيمات سياسية من خارج الجامعة مما يعني ان وعيهم السياسي تشكل خارج الاطار الطالبي.

أما القسم الثاني من الطلبة الجامعيين، أي الطلبة الذين لا يعترفون بالنظام السياسي، فيقسمهم المؤلف الى الطلبة المحايدين، او من يسميهم بـ”المحبوبين من جميع الانظمة” الذين لا يشاركون في السياسة، والطلبة غير المنتمين للتيارات السياسية لكنهم يمارسون نشاطا فكريا. وهؤلاء يميلون الى المثقفين المنفصلين عن نظام الجمهورية الاسلامية اضافة الى القوى الطالبية، الجديدة المنتمية الى الاوساط الفكرية والثقافية العلمانية والاسلامية.

اما القسم الثالث فهم الطلبة، الاصلاحيون ومنتقدو الحكم. ويعرف المؤلف هذا القسم بانه “الطلبة الجامعيون العاملون تحت شعار الديموقراطية والحرية، ممن يعرفون بتيار الثاني من خرداد” (خرداد هو الشهر الايراني الذي انتخب فيه خاتمي للرئاسة الاول عام 1997). ويشكل هؤلاء الجزء الاكبر من اعضاء الجمعيات، الاسلامية الطالبية، وهم الطلبة الذي دأبوا منذ ما قبل مجيء خاتمي على طرح مطالب سياسية مثل، اطلاق سراح السجناء السياسيين، واطلاق حرية التعبير وحرية المطبوعات. وثقافية مثل اطلاق الحرية الثقافية ورفع العقبات امام عقد الاجتماعات والقاء المحاضرات ونشاطات المفكرين الى اية جهة انتموا. وكذلك حظر دخول قوى الامن  الى الجامعات والسماح بالنشاطات الطالبية السياسية فيها والاجتماعية.

يقول المؤلف ان ” تيار الثاني من خرداد” الطالبي اعتمد دائما، قبل مجيء خاتمي وبعده، الطرق القانونية في عرض مطاليبه الا انه ووجه دائما بقمع من جانب الميليشيات واجهزة الامن والقوات الحكومية المتمركزة في الجامعات، وآخرها كان الهجوم الذي تعرض له هذا التيار من الميليشيات وقوات الشرطة صيف .1999

ثم يخوض المؤلف في الرؤى السياسية للتيار الطالبي الاصلاحي فيقول ان “هؤلاء الطلبة يرون ان نظام الجمهورية الاسلامية ليس مغلق الافق، وهو قابل للاصلاح بمعنى انه يمكن دائما القيام بالاصلاحات بعيدا عن فكرة الانقلاب. كما ان هؤلاء يرون ان السعي لتحقيق مطالبهم الاصلاحية يتم من خلال السبل القانونية ولو استغرق ذلك سنوات، وتطلب تحمل انواع المصاعب والشدائد.

واللافت ان المؤلف ينسى حين يتحدث عن التوجهات الفكرية والعملية للطلبة الاصلاحيين ما طرحه في المقدمة من انه يتناول موضوع بحثه باسلوب محايد، بل استغرق في وصف افكار التيار الطالبي الاصلاحي باسلوب ينم عن انتمائه لهذا التيار سابقا، او تأييده المطلق له حاليا.

الفصل الاخير من الكتاب يخصصه المؤلف للعلاقة بين التيار الطالبي الايراني من جهة وشرائح اجتماعية رئيسية مثل المثقفين المتنورين، ورجال الدين. فعلى الصعيد الاول (العلاقة مع المثقفين المتنورين) يقول ان المثقفين هم اكثر الفئات الاجتماعية تأثيراً على الحركة الطالبية، فهم ينتجون فكراً خاصاً، وطلبة الجامعات يتلقون (يستهلكون) هذا الفكر من خلال قنوات عدة، منها التعليم اذ ان عدداً كبيراً من هؤلاء المثقفين هم اساتذة في الجامعات، او ان لهم علاقة ما بالجامعات. وكذلك من خلال انشاء الاحزاب والتنظيمات السياسية التي يتلقى فيها الطلبة المنتمون الى هذه الاحزاب الفكر السياسي من منظري الاحزاب ومن خلال المثقفين الذين يتحدثون في الندوات والمحاضرات التي ينظمها الطلاب، اضافة الى قنوات اخرى تؤمن التواصل والتأثير والتأثر بين المثقفين والمتنورين وطلبة الجامعات.

اما العلاقة بين طلبة الجامعات ورجال الدين، فيقول المؤلف ان تأثير فئة رجال الدين على الحركة الطالبية كان كبيراً خلال السبعينات والثمانينات، أي قبل رحيل الشاه وبعده.

ففي المرحلة الاولى (السبعينات) كان رجال الدين ذوو الصلة بالأوساط الطالبية الجامعية، هم “اولئك الذين يتمتعون بمستويات علمية رفيعة وفكر متطور يميل الى  الثقافة الجديدة والاجواء الجامعية. اما خلال الثمانينات (أي العقد الأول من عمر الجمهورية الاسلامية) فقد اتسعت مساحة شمولية رجال الدين بالعلاقة مع الجامعة، واصبحت العلاقة مع أي رجل دين امراً قيماً للطلبة اما رجال الدين الذين يمسكون بالسلطة فلم يكونوا يرون حاجة لوجود علاقة متبادلة مع الطلبة. بل اقتصرت العلاقة على مستوى التابع والمتبوع، وكلما كان التأييد الطالبي لرجال الدين يزداد كان هؤلاء يطالبون بمزيد من التبعية والطاعة لهم، حتى بدأت تبرز مجموعات طالبية تضع شروطاً للعلاقة مع رجال الدين والولاء لهم، وهو ما ظهرت آثاره في الانتخابات النيابية الثانية والثالثة والرابعة”.

ومع نهاية عقد الثمانينات “انقطع الارتباط الفكري بين الطلبة ورجال الدين، ولم يعد لرجل الدين الموقع القيادي الفكري في الجامعة، واقتصر وجود رجال الدين في الجامعات على عدد من مدارس المعارف الاسلامية فيما يوجد آخرون كممثلين للقائد واللجان الثقافية الاسلامية ممن يمارسون دوراً تنفيذياً فقط، وهم يتعاطون مع الطلبة بمنطق السلطة وليس بالفكر، فيما ظهرت مجموعة اخرى من رجال الدين ما زالت تتمتع بالشرعية في الجامعات قوامها الخلفاء السياسيون و”الحزبيون للطلبة”.

يعد كتاب “السلوك السياسي للطلبة الجامعيين في ايران اليوم” جهداً تكميلياً لسلسلة كتب ودراسات صدرت في ايران حول الحركة الطالبية وتقسيماتها وتطلعاتها وتاريخها ودورها في ساحة العمل السياسي في ايران، خصوصاً خلال السنوات الاخيرة.

سالم مشكور

* الكتاب: “السلوك السياسي للطلبة الجامعيين في ايران اليوم”.

المؤلف: مجدي محمدي – منشورات: كوير – طهران .2000