لم تكن المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها قد أخذت الدور المنوط بها والذي يركز على النظر في قضايا جرائم الحرب ، والجرائم ضد الإنسانية ، وذلك أن المحكمة سبق أن عانت منذ التأسيس من عقبات عديدة أهمها التبعية ، وعدم الاستقلالية ، التي تعد النقطة الأهم والعقبة التي تجب إزالتها وإلا فقدت المحكمة الهدف من تأسيسها ، أو معناه .

   لم تتعد المحكمة في وظيفتها ـ فيما مضى ـ صدور الدعوات والتهديدات التي لم تكن تمثل شيئاً يمكن أن يعتد به بالنسبة إلى أولئك الذي تشربوا العنف وعشوا الدم فاعتبروه هدفاً لم يغمض لهم جفن في لياليهم ما لم يروا ذلك اللون الأحمر ، ويشموا رائحته . وإذا تعدى  دور المحكمة ـ حينذاك ـ صدور التهديد ، فإن سهامها كانت تصيب البقة وتخطئ الجمل كما يقال ، وهذا ما حدث فعلاً حين أقدمت المحكمة على اعتقال واحد من الجنود الصرب الذين اتهموا بارتكاب مجازر ضد المسلمين في البوسنة والهرسك فحكمت على الشاب الصربي البالغ من العمر حينها ( 26 ) عاماً ولكن لم ينفذ الحكم بعد أن أعلن أن الشاب يعاني من أزمة نفسية ، هذا في الوقت الذي ينعم فيه جزار الصرب وقائدهم بالحرية دون أن يرف له جفن ، بعد أن أمن جانب المحكمة المذكورة ، وعدم الجدية في ممارستها لمهامها التي أنشئت لأجلها ، وهكذا الأمر بالنسبة لبقية جزاري العالم الذين أمنوا العقاب الدولي فراحوا يعيثون الفساد في الأرض ويذيقون شعوبهم ويلاة العقد التي يعانون منها .

   أما اليوم فقد بدا أن المحكمة الجنائية بدأت تخرج ـ بمقدار ـ من القمقم الذي كانت تخبو فيه منذ تأسيسها وإلى اليوم ، وإن كان هذا التحرك على استحياء حيناً ، ووفق خطوط معينة حيناً آخر ولكن إجمالاً يمكن القول أن الرمد خير من العمى ، وإن كان يرجى من المحكمة دور أكبر من هذا الذي تلعبه اليوم .

   لقد كانت فاتحة الأمر في إقدام المحكمة بمساعدة القوات الدولية المتواجدة في البوسنة على اعتقال أحد الوزراء الصرب الذي كانوا قد مارسوا دوراً قذراً في حرب البوسنة والهرسك ضد المسلمين الأبرياء .

   وقبل فترة تم اعتقال الديكتاتور اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلو سيفيتش الذي لم تستطع البشرية أن تنسى يديه القذرتين اللتين لوثتهما دماء الأبرياء من أبناء شعبه الذين لا حول لهم ولا قوة إزاء عنفه وتسلطه غير الاستسلام ، فماذا بإمكان شعب أعزل أن يصنع في قبال شخص كان قد جند ميزانية الشعب لتدعيم أركان حكمه الديكتاتوري بشتى صنوف أسلحة القتل والدمار والتخريب ؟

   لقد كان اعتقال سلوبودان ميلو سيفيتش بمثابة رسالة قد وجهت بصورة غير مباشرة إلى الحكام المتسلطين على رقاب شعوبهم بالحديد والنار في أنه لم يكن هناك أحد بمعزل عن العقاب الدولي ، إن لم يكن اليوم فغداً ، وهذه الرسالة كان أول المستفيدين منها هو نجل الرئيس اليوغسلانفي السابق ميلو سيفيتش الذي فقد توازنه وهو يرى والده الأسطورة الديكتاتورية يقاد مقيداً وهو الذي كان يتحكم برقاب الناس الأبرياء ، هذا المنظر دفع نجل الرئيس المعتقل سلوبودان ميلو سيفيتش إلى طلب اللجوء السياسي ، ولكن في بلاد أثار اختيار نجل الرئيس لها دهشة العالم أجمع ، وذلك لعدم العامل المشترك بينه وبين النظام الحاكم فيها على كافة    الأصعدة، اللهم إلا في اشتراك هذا النظام مع والده في التسلط على رقاب الناس .

   لقد طلب نجل الرئيس اللجوء السياسي في أفغانستان التي يحكمها نظام طالبان الذي يكن كل العداء للغرب ، ولكن ما هو غريب لمجرد الاسم فكيف تسنى لنجل الرئيس أن يختار هذه البلاد يا ترى ؟

   لقد كان من تأثيرات هذه التحرك من قبل المحكمة أن حركت دعوى من قبل إحدى الناجيات من مجزرة صبرا وشاتيلا ضد المسبب الرئيس والمنفذ لبها أعني به رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي آرييل شارون ، وذلك أمام القضاء البلجيكي ، تلك الدعوى التي أضطرت آرييل شارون إلى حذف شارون اسم بلجيكا من برنامج زيارته التي قام بها إلى أوروبا .

   ما يجري اليوم يفترض أن يدفع الحكام المتسلطين إلى إعادة حساباتهم في سياساتهم إزاء شعوبهم البريئة التي ترزح تحت نير ظلمهم واضطهادهم ، فلم يكن العالم اليوم ليسمح بالسكوت على ظلم ظالم مهما كانت السبل التي يتخذها الحكام المستبدون لمنع وصول صوت الذين ينالهم ظلمهم إلى العالم .

   ليعد هؤلاء الحكام حساباتهم قبل فوات الأوان ، فلم يعد أحد بمنأى عن العدالة الدولية وقد رأوا بأم أعينهم كيف تحول أكبر دكتاتور في أوروبا بين ليلة وضحاها من رجل يتحكم بمصائر الناس الأبرياء إلى رجل لا يعرف مصيره ، ورأوا كيف تحول الرجل الذي طالما راهنت الصهيونية على عنفه وتطرفه إلى ذليل لا يمكنه أن يدخل أحد الدول الأوروبية التي كان من المقرر أن يزورها في إطار جولته الأوروبية حيث كان اسمها مدرجاً في برنامج جولته .

   لقد حكم ميلوسيفيتش بالتسلط والعنف ، ومارس شارون العنف والإرهاب ، ويمارس غيرهما القتل والتعذيب في أماكن أخرى ولكن هل يفكر هؤلاء أنهم سوف يعمرون في الأرض فلا بد أن يأتي اليوم الذي لا طاقة لهم فيه على الوقوف بوجه صوت الحق ، ودعوات العدالة كما حصل فعلاً مع ديكتاتور يوغسلافيا ، وكيف أن الأرض ـ حينها ـ قد ضاقت عليه بما رحبت .

   إن الدور الذي تقوم به المحكمة الجنائية الدولية مما يبشر بالخير فعلاً ، ولكن المرجو منها هو أكبر من ذلك، أن الذي يرجى منها هو السعي للحصول على الاستقلال اللازم بالمقدار الذي يمكنها من محاسبة ومحاكمة أية شخصية في العالم بغض النظر عن المركز الذي تحتله ، وبعبارة أخرى لا يفترض أن يكون هناك أشخاص فوق المحاكمة والمساءلة الدوليين ، وإنما يجب أن يكون الجميع في العالم بنفس المركز أمام القانون ، كما يجب على المحكمة أن تعامل الجميع على قدم المساواة تمهيداً لهدم الديكتاتورية سواء المباشرة وغير المباشرة التي يذهب ضحيتها الملايين من البشر سنوياً