الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله)   

الحلقة الثالثة

حتى إذا قيّض الله (هولاكو) لإنهاء ذلك العهد الموبوء، تلاقفها  (آل عثمان) وجدّدوا تلك الحياة الفرعونية، وضخموها بمقدار ماكانت تبدع عقولهم، ويوفّره التطور العالمي، وكرروها جريمة شعواء لا تؤمن بالحدود، ولا تقيم الحدود إلاّ على أعدائها الأبرياء، ونكسوا الموازين الإسلامية والإنسانية، ونسخوا سنن الفكر، ومسخوا قواعد الفلسفة، ونسفوا شريعة الأخلاق، وأرخصوا القيم المثالية وشرائع الحق. فكانت كسروانية فردية، تتبنى واجهة من اسم الإسلام، لا لشيء إلاّ لتبرير ما تقترفه من قمع وإرهاب.

والأمة المسلمة، تستطيع أن تشهر الإسلام لضرب الحكم الكافر، ولا تقوى أبداً على شهر الإسلام في وجه الحكم الذي يطبق الإسلام على الشعب للتوفير على الحكومة، وإنما تتخاذل، وتتوتر، حتى يتمكن منها الحكم المنحرف، ويطفىء فيها حنين الثورة. فمن هو ذلك المسلم الذي يحارب الحكومة الإسلامية؟ وأين هي تلك اليد التي تتطاول على خليفة المسلمين؟ ومتى يوجد الراي الإسلامي الذي يؤكد الثورة على الحكم الإسلامي، ما دامت للحكومة أجهزة دعاية مشعوذة، وكان في الأمة السذج والإغرار!!

وبقيت الحكومة تتاجر باسم الإسلام وظلت الأمة تدفع كلها ضريبة انحراف القادة النفعيين:

وفرضت السلطة على الأمة، أن ترحب بالظلم، وترزح تحت الكابوس بلا أنين، وأن تسلم الجفون للأحلام مئات السنين. وانتفضت على الظلام الرابض الثقيل -مرة ومرات- ونفضت الرقاد من الجفون، -جيلاً فجيلاً- فوجدت الظلام مطبقاً راسخاً، تتفيأ أكنافه جحافل الجلادين بيقظة مرهفة. ورأت الرواعد والبروق، تصعق كل من يتمرد على السبات، وهفوات السياط وضحكات السيوف تشل العرق النابض، الذي لا يطيق الرقاد. وأبصرت الكابوس الجاثم على صدرها، والقيود التي تشدها إلى الأرض وثيقاً… فاستسلمت للواقع المرير الذي لا يغني التذمر منه، وفضلت أن تطبق الجفون على الأحلام الراقصة، على أن تكتحل بالأشباح المرعبة، وتهدر الضحايا بلا نتاج منها سوى المزيد. والثورة تنبع عن الجفون، إن لم يصممها فكر يضمن قبلها النجاح، والحركات الطائشة لا تكسب إلاّ لعنة الشعوب ونقمة الحكومات.

وبقيت الأمة في رقادها المفروض، تقتات القيود، وتمض الأنين، ثم تفرش الأرض بالجباه الحامية، تملقاً لجلال أحذية الجلادين، التي تعالت أن تلمس إلاّ جباه الخاشعينن ولو كان الخشوع تكلفاً كذوباً، يفرضه النير والكابوس، على جبهات الأحرار الثائرين، فما ضرّ الذي يمشي على الرؤوس مرحاً، ليعلو ويفسد في الأرض، أن تهدر فيها جهنم أو تبتسم الجنان، ما دام لا يرتفع إليه منها سوى التضرع والابتهال…

وبقيت الأمة تسبغ الموت والصمت، على سعير صخّاب يجيش بالحمم ويكظم الأهوال الغضاب، وتكبح أعز ما ينبض في الصدور من مشاعر وعواطفن حيث لم تتمطّ تأهباً للانتصاب، إلاّ وصفعها الكابوس، وتلوّت عليها الأصفاد قبل أن تلفت الجلادين…

وبقيت الأمة مربقة بالأرض، حتى مات ثوارها ولم يخلفوا إلاّ الخانعين، وحتى توتر كل ما في قلبها من طموح، وما في تفكيرها من إبداع، واستحالت إلى جثة لحن ممدد، ليس له روح ولا ظل ولا أعصاب…

في ذات الوقت الذي كان العالم يواصل زحفه المرهق البطيء، في المتاهات والمنعرجات، حتى قطع أشواطاً من الحركة الصناعية، التي كان في وسع الأمة أن تطويها بقفزة من قفزاتها الرائعة التي تعودتها، لو توفرت لها الحريات الكافية، التي توفّرت للعالم طوال أربعة قرون، ولكنها كانت حطاماً بشرياً يعلوه ركام من الأغلال والقيود فيما كان العالم حراً منطلقاً، ينقل خطاه بتؤدة وفتور… ففاز بمكاسب وانجازات، أغرته -فيما بعد- بغزو العالم الإسلامي… فكان من الطبيعي المحتوم، أن يتحقق الانتصار الحربي الساحق -في أقل محاولة- للعالم الغربي المرتطم في الأسلحة الحديثة، على العالم الإسلامي الأعزل، الذي لم يتجند إلاّ بالأسلحة الرمزية التي لم تصلح -ذلك اليوم- إلاّ لتزيين الصدور والقبعات، وزخرفة المتاحف الأثرية، تخليداً لذكريات أسلاف البشرية لا أن تُشهر على المدافع والصواريخ وتخوض معامع اللهيب لمقارعة القنابل والألغام.

واستيقظت الأمة من غفوتها المفروضة الطويلة، بانكشاف (الحكم العثماني) عنها، لتشهد في اليقظة عرضاً حافلاً، لبقايا الأحلام المرعبة التي تعودتها في العهد السابق. ففزّت مذعورة بزئير أسراب الطائرات المقاتلة، التي تعصف بالمدينة الواسعة، فتهطل عليها ديمة وطفاء من القنابل، التي تذرها جحيماً يسعر فيها اللهيب، ليعرج أميالاً في الفضاء، أو تبحر السفن الحربية، محملة بقطعات من الجيشن شاخصة نحو العدو، لتنسف على الضفاف المدافع الثقيلة، بالسيوف الهندية المصقولة والأناشيد الساعرة فتتفجر في مجاريها الألغام، لتتركها مشاعل مرسلة على زجاجة الماء.

فاستيقظت الأمة من غفوتها المفروضة الطويلة، بنسف الكابوس الجاثم على صدرها الواهي العريض، وفصم الأغلال المتشابكة الثقيلة، ووقفت الأمة التي طالما فرض عليها الرقاد، على أقدام متعتبة متهالكة، لأول مرة تنظر وتفكر وتقول كلمتها الرائدة. وسرعان ما أجفلت مذعورة متلفتة، تبحث عن ملجأ يحمها ولو في أعماق جهنم، لكنها وجدت نفسها في حومة اللهيب، وقد طوقها(الحلفاء) بتلك الأسلحة المبيدة، التي تنجز حملات التصفية الجماعية، بأسرع من طرفة عين، في الوقت الذي كانت الأمة عزلاء شديدة الإفلاس، حتى من مؤهلات الحياة الخاصة… فكان عليها أن تتولى تقرير مصيرها، بعدما تبخر ذلك الحكم، الذي كان يفرض عليها المصير المحتوم إن خيراً أو شراً. وكان لها أحد اثنين: إما أن تعلم الاستسلام الكامل المطلق، للغزاة الفاتحين، وترضى بالاستعمار كله.. وإما أن تتعبّأ للتمرد، وتقذف بالكلمة العزلاء -حيث لم تملك غيرها- لترد عليها وكفات من القنابل الفتاكة.. فرأت: أن الكلمة المقذوفة، لا تعني مدلولاً سياسياً، ما لم تعبر عن إرادة مجندة بالسلاح… فاختارت الاستسلام المطلق لإرادة الأقدار، وأعلنت خضوعها السياسي الكامل، لقوات «الحلفاء» بصراحة مفاجئة…

وهذه الأحدث التي تعاقبت غبّ الحكم العثماني، كانت مفاجئات أربكت الجهات المراقبة، التي حملت بين جوانحها هيبة من الأمة المسلمين، بل العالم الذي تسلسلت في ذاكرته مواقفها، وقُدِّرَ لها ألف حساب وحساب، وكانت بالفعل مفاجئات غير متوقعة، بالقياس، إلى سطح التاريخ الإسلامي، ولكنها كانت نتائج طبيعية حتمية، لأحداث متسلسلة أنجزت تعبئتها خلف الستار، أيام الحكم العثماني، فلم يوجد -بالقياس إليها- ما يدهش أو يثير…

ونجح الاستعمار المشترك في تنفيذ الجزء اول من خطته تجاه الأمة، وهو القضاء على الإسلام، على صعيد السياسة الدولية، وكان هذا النجاح مقدراً، ومتوقعاً في ذهنية قادة الغرب، وطبيعياً في رأي بعض المفكري، المسلمين، الذين تنبأوا به من  قبل.