يقبع ثلثا السجناء السياسيين في العالم في سجون دول إسلامية، ويشكل المسلمون حوالي 80 في المائة من لاجئي العالم

أمير طاهري

لعقود عدة كان السؤال الكبير في العالم الإسلامي «من فعل ذلك بنا؟». وارتباطاً بتذكر ضياع غرناطة وقازان في القرن الخامس عشر، واستعمار معظم البلدان الإسلامية على يد الإمبراطوريات الغربية في القرن التاسع عشر، والتهميش الكلي تقريبا للعالم الإسلامي في القرن العشرين، كان الحكام والمثقفون من جاكارتا إلى القاهرة، مروراً بطهران وأنقرة، يطرحون السؤال ذاته.
هذا السؤال هو الموضوع الرئيسي لكتاب برنارد لويس الجديد الموسوم «ما الاخفاق: تأثير الغرب ورد فعل الشرق الأوسط». ولويس هو عميد المستشرقين، أي الباحثين الغربيين الذين كرسوا طاقاتهم لدراسة الشرق، خصوصاً العالم الإسلامي. وكان المستشرقون عموماً، ولويس خصوصاً، هدفاً لحملات هجوم معظمها من جانب ما بعد الحداثيين في الغرب، حيث يوصمون بأنهم «عملاء الإمبريالية».
غير أن وجهة النظر تلك صبيانية ومضللة، فما من عاشق للمعرفة ينبغي أن يصدر مرسوماً بإغلاق أي فرع من فروع البحث والتفكير، وإذا لم يفعل المستشرقون شيئاً فإنهم، على الأقل، يظهرون لنا الكيفية التي ينظر بها الغرب إلى عالمنا، وتلك المعرفة وحدها تبرر جهودهم. عمل لويس هذا قيم على نحو استثنائي لانه رفض على نحو منظوم ان يتخذ موقف السمسار تجاه حساسياتنا، والثناء على أهوائنا. وعندما لا يحب شيئاً في ثقافتنا و/ أو ديننا فإنه يقول ذلك صراحة، وهذا يكشف عن وجوه اختلاف مع آخرين، مونتجمري وات على سبيل المثال، المستعد لقبول خرافاتنا الأكثر غرابة لأنه لا يريد، ببساطة، أن يجرح المشاعر. إنني أحب لويس لأنه ينتقدنا، على الرغم من أن هذا الانتقاد ليس صائباً على الدوام. وكل هذا لا يعني ان عمل لويس خال من الأخطاء والعيوب، أو أنه بعيد عن الأهواء والمواقف المغرضة.
دعونا الآن ما إذا كان هناك شيء قد سار خطأ بالنسبة للعالم الإسلامي وكان نصيبه الاخفاق، كما يشير عنوان كتاب لويس.
وإذا ما حكمنا اعتماداً على معايير الحاضر، وكلها معايير وضعها الغرب، فإن الجواب سيكون بالإيجاب.
وبينما يشكل المسلمون تقريباً ربع سكان العالم فإن حصتهم من الثروة العالمية تقل عن ستة في المائة. ويعتبر ثلثا فقراء العالم تقريباً، أي أولئك الذين يعيشون بأقل من دولارين يومياً، من المسلمين، بينما لا نجد بلداً إسلامياً واحداً بين البلدان الثلاثين الأغنى في العالم. ومن بين منتجات الدرجة الأولى المميزة الـ 5000 في العالم لا تنتج واحدة في بلد إسلامي. والحق أنه، إذا ما استثنينا النفط، والكافيار والسجاد الإيراني، فإن الدول الـ 57 الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تقدم شيئاً للسوق العالمية.
وكان من باب المفارقة ان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قال، ذات مرة، ساخراً إن ليس في العالم الإسلامي فريق كرة قدم من الدرجة الأولى.
ولا يزال آخرون، شأن الرئيس الإيراني محمد خاتمي على سبيل المثال، يلقون باللوم على استنزاف العقول الذي يرغم 1.2 مليون مسلم من ذوي التعليم العالي، بينهم 180 ألف إيراني، على الهجرة إلى أوروبا، وأميركا الشمالية، وأستراليا، ونيوزيلندا كل عام (هناك أطباء إيرانيون في كندا أكثر من الأطباء في إيران نفسها).
ومن بين النزاعات الثلاثين المحتدمة في العالم اليوم، هناك 28 ممن تعني الحكومات أو المجتمعات الإسلامية.
وفي العقود الثلاثة الماضية، لقي ما لا يقل عن 2.5 مليون شخص حتفهم في حروب جرت داخل أو بين الدول الإسلامية. ويقبع ثلثا السجناء السياسيين في العالم في سجون دول إسلامية، قامت ايضا بتنفيذ 80 في المائة من الإعدامات في العالم. ويشكل المسلمون، ايضا، حوالي 80 في المائة من لاجئي العالم. وكل الدول التي عانت من انهيار منظوم، وبالتالي أصبحت «دولا عاجزة»، تنتمي، باستثناء واحدة، إلى العالم الإسلامي.
ونادراً ما نجد أية أحزاب سياسية حقيقية في أي بلد إسلامي، حتى في تركيا التي تتمتع بنظام أوروبي الطراز منذ ما يزيد على 70 عاما. ففي معظم الدول الإسلامية تعتبر الأحزاب محظورة، وعندما لا تكون كذلك، فإنها مجرد أدوات بيد الزمر الحاكمة.
إذن، ما الذي مني بالاخفاق؟
خلال فترة كبيرة من القرن الماضي، كانت هناك وجهة نظر شائعة مفادها ان العالم الاسلامي بدأ الانحدار تحت تأثير الغزوات من جانب المغول والتتار والأتراك من آسيا الوسطى، لكن مرجعاً مثل ابن خلدون، الذي اعتبر الغزاة، ممن انتهوا جميعاً إلى أن يصبحوا مسلمين، موضع ترحيب، لأنهم جلبوا دماء وطاقات جديدة لعالم إسلامي كان مهزولا وضامرا، رفض وجهة النظر تلك.
اما «سبب الانحدار» الثاني الذي يشير إليه بعض المفكرين فهو الحملات الصليبية. غير أن ذلك، ايضا، تعين التخلي عنه لأسباب عدة. فهو، اولا، لم يكن يعني سوى جزء من العالم الإسلامي. ايران، مثلا، لم تلعب دورا في الحملات الصليبية، بل استفادت منها، في الواقع، لأنها أبقت أعداءها الأتراك منشغلين في أماكن أخرى. وعلى أية حال فإن الحملات الصليبية انتهت بهزيمة الغزاة. ثم جاء الادعاء بأن جذور كل مشاكلنا تعود إلى التجربة الكولونيالية. غير أن ذلك، ايضا، لم يكن سوى جواب غير كامل في أحسن الأحوال. فالامبراطوريتان العثمانية والفارسية لم تصبحا من المستعمرات، كما لم تصبح أفغانستان وجزء كبير من اليمن. ومع ذلك فإنها «تخلفت» بقدر تخلف البلدان التي أصبحت مستعمرة، بل وأكثر تخلفاً في بعض الحالات.
وعلى سبيل المثال، فإن عدن وسنغافورة كانتا مستعمرتين بريطانيتين. وكلتاهما كانتا ميناءين قليلي السكان. واليوم تعتبر سنغافورة قوة عظمى ـ مصغرة، تتمتع باقتصاد حديث أكبر من اقتصاد مصر. غير أن عدن.. حسناً أنتم تعرفون أين تقع.
وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين طرحت نظرية جديدة: الإسلام كان ضحية مؤامرة قامت بها قوى «مسيحية» واستثمرها «اليهود الصهاينة»، الذين كانوا عازمين على منع الإسلام من اخضاع العالم بأسره.
وكان لويس من الحذر بما يكفي لتحديد مدى طموحه تجاه الشرق الأوسط، على الأقل في عنوان كتابه، لكنه عبر الكتاب، الذي هو في الواقع سلسلة من المحاضرات، يجعل من الواضح أن ملاحظاته يقصد بها الكشف عن العالم الإسلامي بأسره. غير أن لويس يركز، في الواقع، على بلدين إسلاميين فقط هما تركيا وإيران. وحتى في هذه الحالة نجد تركيزاً أكبر بكثير على تركيا، ببساطة لأن لويس متخصص، أساساً، بالتاريخ العثماني. ولويس، الذي يتقن التركية، أقل ثقة بمعرفته بالفارسية والعربية، لذلك يعتمد، إلى حد كبير، على النصوص والبينات العثمانية لدعم أطروحاته.
وكل هذا يعني أنه كان يمكن للكتاب أن يكون أكثر اقناعاً لو أنه عنواناً فرعياً: «تأثير الغرب والإمبراطورية العثمانية».
فمصطلح «الشرق الأوسط» شديد الالتباس، وعرضة لتعريفات مختلفة، بحيث يصعب استخدامه كأساس لبحث. إنه مصطلح مختزل، مفيد لكتاب العناوين السريعة والدبلوماسيين الكسولين، كما أنه يمكن أن يشير إلى سمات جغرافية، خصوصاً موقع المنطقة مقابل أوروبا وجنوب الصحراء الافريقية، لكن يصعب استخدامه كأساس لنظرة أحادية مطبقة على تاريخ معقد ومتنوع. وهذا هو السبب الذي يجعل لويس، الذي يتمتع بدراية بهذه القيود، يوسع تحليله ليشمل العالم الإسلامي بأسره. والافتراض الضمني هو أن الدين الإسلامي الشائع يمكن أن يؤدي وظيفة المبدأ الواحد الأقوى.
هل يمكن ذلك؟، ان لويس يقع هنا في مأزق منطقي.
فهو يبدأ بإخبارنا كيف ان عالم الإسلام كان رائعاً وليبرالياً ومزدهراً عندما كانت أوروبا المسيحية ترقد في «عصور مظلمة»، والدلالة الضمنية واضحة: الإسلام كان قوة تاريخية إيجابية في ذلك الوقت. ثم ينتقل إلى إخبارنا، ضمنياً مرة أخرى، بأن كل البؤس الذي يعاني منه المسلمون الآن يعود إلى الإسلام. وبكلمات أخرى، فإننا نجد أمامنا وضعاً يكون فيه الإسلام الباني والهادم.
وبفعله هذا يردد لويس أصداء الجدل التبسيطي الذي ظل محتدماً داخل العالم الإسلامي خلال العقود القليلة الماضية.
وفي جانب من هذا نجد الكثير من «الحداثيين» المسلمين المختلفين من اليسار واليمين، ممن جادلوا، على الدوام، بأن الإسلام لا يمكن أن يتخلص من الاستبداد ويحسن حياة شعوبه ما لم نتخلص من الاسلام عبر نوع من علمانية على الطراز الفرنسي أو بتبني الالحاد الكامل للشيوعيين.
وفي الجانب الآخر من هذا الجدل، نجد أمامنا الإسلاميين المختلفين ـ من الاخوان المسلمين وفدائيي الإسلام إلى أصوليي الحاضر ـ الذين يجادلون بأن المجتمعات الإسلامية فقيرة وبائسة لأنها ليست «إسلامية» بما فيه الكفاية. وأعتقد أن هذا جدل زائف، ومضاد في نهاية المطاف، ذلك أنه يجعل من السياسي لاهوتياً. ويقع فيه لويس ربما على نحو بعيد عن البراعة.
ان افتراض لويس من أن بروز الشرق الأوسط في الفترة ما بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين كمركز للحضارة العالمية مرتبط بالإسلام، افتراض يصعب دعمه بالحقائق. فالمنطقة التي دخلت الاسلام بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين كانت، على الدوام، مهد حضارة. إنها نقطة التقاء الحضارات المصرية والاغريقية والرومانية والفارسية والهندية، بل والصينية الى حد أدنى. فقد ابتكرت الكتابة هناك كما كان شأن الزراعة والتجمعات البشرية المستقرة.
ومن ناحية أخرى كانت كل المدن الإسلامية الكبرى، بما فيها مكة نفسها، قد وجدت كمراكز رئيسية للتجارة، والمعرفة، والحياة الاجتماعية المشتركة، لقرون عدة، قبل مجيء الإسلام. وبصيانة وترجمة النصوص الفلسفية والأدبية والعلمية الاغريقية والفارسية القديمة والسنسكريتية إلى اللغة العربية كان علماء المنطقة إنما يحافظون على إرثهم الثقافي الخاص. وإذا ما تحولت سويسرا إلى الإسلام يوماً لا يمكننا أن نقول إن ساعة الوقواق ابتكار إسلامي. لقد اضاف الإسلام طبقة جديدة ومهمة من الحضارة إلى قمم كانت قائمة في ذلك الحين.