مشروعية الرأي الآخر تأتي من نفس الأدلة التي يستدل بها على مشروعية الرأي للذات ، فكما أن لك الحق في إبداء رأيك ، فإن للآخر نفس الحق في إبداء رأيه ، وكما لا يحق لأحد مصادرة رأيك ، كذلك لا يحق مصادرة رأي الغير ، وكما أن حرية الرأي للذات حق يكفله الشرع والقانون ، فإن رأي الآخر له نفس المرتكزات الشرعية والقانونية .

ففي الفقه الإسلامي يقرر الفقهاء مشروعية الرأي الآخر بقولهم : ((الأصل في الإنسان الحرية ، في قبال الإنسان الآخر ، بجميع أقسام الحرية ، إذ لا وجه لتسلط إنسان على إنسان آخر وهو مثله ، وقد ذر هذه الأصالة الفقهاء في مسألة الرق .

إن الحرية ليست من الحقوق الموضوعة ، حتى يعطيها إنسان لإنسان آخر ، أو يسلبها إنسان عن إنسان آخر ، فالإنسان حر سواء أقر به فرد أو جماعة أو دولة أو لا)) ، فالإنسان يولد حراً ، ومن أميز ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى هو حريته فلا يجوز له ولا لغيره تجاهلها ، لأن الحرية ليست حقاً ، بل هي واجب ولذلك فالإنسان ـ دون غيره من الكائنات الحية ـ يعتبر مسؤولاً عن إرادته في الحياة .

وفي القرآن الحكيم نجد العديد من الآيات التي تشير إلى حرية الإنسان ، يقول الله تعالى : {فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر} ، ويقول تعالى : {ويضع عنهم إصرهم والإغلال التي كانت عليهم …} ، ويقول تعالى : {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} ، ويقول تعالى {لكم دينكم ولي دين} .

وورد في الحديث عن الإمام علي (ع) قوله : ((أيها الناس .. إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة ، وإن الناس كلهم أحراراً)) . وقوله (ع) : ((لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)) ، وقوله (ع) : ((لا سترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً)) . وقوله (ع) : ((لا تكونن عبد غيرك فقد جعلك الله سبحانه حراً فما خير خيرٍ  لا ينال إلا بشر ، ويسر لا ينال إلا بعسر)) .

هذه النصوص وغيرها تؤكد على حقيقة أن الأصل في الإنسان الحرية ، فكل إنسان حر في عقيدته وفي فكره وفي عمله وفي قناعاته بشرط واحد فقط هو تجاوز حقوق الآخرين ، لأن هذا أمر مناف للحرية نفسها .

والحرية لا تتجزأ ، فهي شاملة لجميع الناس حتى الكفار في مختلف أنواع الحقول .. منها : الحرية الفكرية ، أي حرية البحث والمناقشة في البحوث العلمية والبحوث الدينية .

ومنها : الحرية الاقتصادية ، أي حرية بجميع أنحائها .

ومنها : الحرية الدينية أي التسامح نحو الأديان الأخرى .

وإعطاء الإسلام الحرية للأديان الأخرى بممارسة شعائرها الدينية هو من أوضح الأمثلة على اعتراف الإسلام بحق الرأي الآخر في التعبير عن أفكاره وعقائده وتوجهاته وثقافته وعاداته وتقاليده المختلفة .

ففي روايات متواترة نرى إلزام الإسلام كل أهل ذي دين بما يلتزمون به ، حيث يقر لهم الحرية في دينهم ، مثل ما ورد عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (ع) قال : سألته عن الحكام ؟ قال : ((تجوز على أهل كل ذي دين بما يستحلون)) وفي رواية أخرى ، عن أبي الحسن (ع) أنه قال : ((ألزموهم بما التزموا به)) ، وعن الصادق (ع) أنه قال : ((كل قوم دانوا بشيء يلزمهم حكمهم)) .

ولذا نرى  إن الإسلام لا يتعرض للمجوسي ونحوه  أن التزم بشعائره وبما يخاف الشعائر الإسلامية ـ وان كان دينه في الواقع مزيفاـ لان الإسلام لا يريد الإكراه ، للقاعدة المعروفة ((القسر لا يدوم)) ،  وإنما يريد إعطاء الحرية لكل إنسان فيما يعمل حسب معتقده ، وإنما يناقشه بالمنطق ، ولذلك قال سبحانه :ل {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة وجادلهم بالتي هي احسن } .

وفي التاريخ الإسلامي نماذج مشرفة عن  حرية الرأي ، وحرية المعارضة ، فقد مارس المسلمون الأولون المعارضة بكل حرية فالأمام علي (ع)  سمح بمعارضة من قبل الخوارج ، وهو ما يدل على مشروعية المعارضة للأفراد والجماعات معا .

ومشروعية المعارضة تأتي من مشروعية وجود الإنسان ذاته ، فما دام أن الله تعالى خلق كل إنسان بذوق خاص ، وعقل خاص ، ورغبات مختلفة عن غيره ، ولم يفرض على الناس وحدة الفكر والذوق ، فان من حق الناس أن يتصرفوا في شؤنهم الخاصة بالشكل الذي يعجبهم ، وان يتخذوا المواقف التي يختارونها ، وان يعبروا عما يؤمنون به ، إنما في حدود معقولة ، وضمن إطار لا يؤدي إلى الفوضى ،ولا إلى إلغاء حقوق الآخرين .

إن ربنا هو الذي خلقنا (أطوارا) ، فهل يجوز لنا أن نوحد الجميع ونلغي أطوارهم ؟

وإن الله هو الذي خلق الناس أحراراً (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، وهل تبقى لحريتهم من معنى ، لو منعناهم من ممارستها عملياً ؟ .

إن الله جعل ابتلاءه للعباد على أساس حريتهم ، وقدرتهم على الطاعة والمعصية معاً ، ولم يشأ لهم أن يحملهم على الطاعة وإلا لفعل .. (ولو شاء لجمعهم على الهدى) . وقد سمح الله تعالى لمن شاء أن يكفر (قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه) ، (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلنا عليهم حفيظاً) ، فهل علينا أن نجبرهم على الهداية ؟

وإن الله تعالى أراد للناس أن يكونوا أمماً مختلفةً ، وليس أمةً واحدةً بالإجبار والإكراه .. (ولو شاء الله لجعلهم أمةً واحدةً) ، فهل يمكن توحيدهم أمة واحدةً ؟

وهكذا فإن سنة الله تعالى قائمة على التعددية ، لا الأحادية ، وأي إلغاء للمعارضة هو إلغاء للتطور ، وتجميد للحياة وأي محاولة لكبت الرأي الآخر سيؤدي إلى المزيد من المشاكل والعقد ، ذلك لأن تعدد الآراء والمفاهيم والأفكار والمصالح والعادات شيء لا يمكن إلغاءه أبداً ومن ثم لا يمكن إنكاره ، أنه مطابق لسنن والواقع معاً .

وهكذا نجد في القرآن والسنة والفقه والتاريخ والعقل والمنطق أدلة واضحة على مشروعية الرأي الآخر ، وإن من حق الآخر ـ كما هو من حق الذات ـ إبداء رأيه في مختلف شؤون الحياة الفكرية والعقيدية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاعلامية والإرادية … الخ .

فلا وجود لأية مسوغات شرعية أو قانونية لإلغاء الآخر ، لأن وجود مثل هذه المسوغات يعين وجودها أيضاً كمبرر لإلغاء الذات ، فيما لو تمكن الآخر من السيطرة والحلول محل الذات ، هو أمر لا يقبله عندما يكون في موقع الآخر، ومن حق الآخر أيضاً أن لا يقابله من الذات عندما يكون الأخير في موقع القوة والنفوذ والسيطرة ، المواقع قد تتغير ، فالذات قد يكون هو الآخر ، الآخر قد يحل محل الذات ، وعلى كل واحد منهما أن يقبل بحق الطرف الآخر في الوجود ، وهذا ما يقره العقل فضلاً عن الشرع والقانون .

أهمية الرأي الآخر

تأتي أهمية الرأي الآخر من الحقائق التالية :

أولاً : الرأي الآخر ضرورة

إن وجود الرأي الآخر إنما يعبر عن ظاهرة صحية وحضارية ، فلا يمكن للمجتمع التقدّم حضارياً بدون رعاية وحماية ((التعددية)) فالبناء الحضاري مرهون نجاحه بحرية الرأي والرأي الآخر .

والرأي الآخر ضرورة تفرضها الطبيعة البشرية والحياتية والكونية وهو تعبير عن واقعية الاختلاف في حياة البشر .

ففي  المجال التشريعي ـ مثلاً ـ نلاحظ الاختلاف الفقهي بين الفقهاء من الوضوح بدرجة كبيرة وهو شيء ضروري وطبيعي ((يجب أن يعلم الذين يريدون جمع الناس على رأي واحد ، في أحكام العبادات والمعاملات ونحوها من فروع الدين : أنهم يريدون ما لا يمكن وقوعه ، ومحاولاتهم رفع الخلاف لا تثمر إلا توسيع دائرة الخلاف ، وهي محاولة تدل على سذاجة بيّنة ، ذلك أن الاختلاف في فهم الأحكام الشرعية غير الأساسية ضرورة لابد منها .

وإنما أوجب هذه الضرورة طبيعة الدين ، وطبيعة اللغة ، وطبيعة البشر ، وطبيعة الكون والحياة .

فالاختلاف وتعدد الآراء الفقهية في مجال الفقه ضرورة لا يمكن الغاؤها ، وقد ألّف بعض العلماء كتباً في توضيح أسباب الاختلاف بين الفقهاء مثل كتاب ((أسباب اختلاف الفقهاء)) لعلي الخفيف ، وكتاب ((الإنصاف)) للبطليموسي الأندلسي وغيرهما .

وفي المجال السياسي يبدو الرأي الآخر أكثر ضرورة ، ذلك أن وجود ينمي شجرة ((الحرية)) ويساعد الحاكم على معرفة نقاط الضعف والخطأ ، فالنقد البناء ضرورة سياسية ، وهي لا يمكن أن تنمو إلا في ظل ((حرية الرأي)) والرأي الآخر .

كما أن المجتمع ـ أي مجتمع ـ حافل بالتعددية السياسية والفكرية والعقيدية والمذهبية وربما العرقية والغوية ، وأي محاولة لفرض رأي معين على الطرف الآخر سيؤدي إلى إفرازات سياسية معاكسة ، بينما إعطاء الحرية للمجتمع هو وحده الكفيل لخلق الأمن والاستقرار ا لسياسي على المستوى القريب والبعيد .

وبنظرة لا تحتاج المزيد من التأمل نجد العالم الغربي اليوم يعيش في استقرار سياسي ، بينما العالم الثالث يموج في بحر من المشاكل والأزمات السياسية والسبب أن الأول يضمن الحرية للمجتمع في حين أن الثاني تنعدم فيه أبجديات الحرية .

ومن هنا فأن ضمان الحرية للمجتمع هو صمام الأمان ضد أي أخطار تهدد الأمة ، والرأي الآخر أكثر من ضرورة لضمان مسيرة الأمة في الاتجاه الصحيح .

وهكذا فان وجود الرأي الآخر شيء ضروري ومهم جداً ليس في مجال دون مجال ، ولا في زمان ، دون زمان ، ولا في مكان دون مكان ، بل هو ضرورة في كل مجال وزمان ومكان .

ثانياً : التعددية ثروة

تعددية الآراء والأفكار والاجتهادات في أي حقل من حقول المعرفة إنما يعد ثروة حضارية لا تقدر بثمن ، فالتعددية دليل على وجود عقول كبيرة ومتنوعة في التفكير والمنهج العلمي ، وقادرة على العطاء والإنتاج العلمي .

وأي خطة للحجر على (الرأي الآخر) هو من قبيل الدعوة لإلغاء عقول الآخرين مما يسبب في تبديد ثروة عملية ومعرفية ، في حين أن وجود التعددية والمعرفية والفكرية والعلمية بمثابة ثروة حضارية تكون من الأهمية بحيث أن أي بناء حضاري بدونها يبدو غير ممكن من الناحية العملية .

خذ نموذجاً واحداً يدل على أهمية الرأي الآخر ، وإن تعدد الآراء ثروة عملية مهمة ، هذا النموذج من الفقه الإسلامي .

إن اختلاف الآراء الاجتهادية يثري به الفقه ، وينمو ويتسع نظراً لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارت شرعية أفرزتها عقول كبيرة ، تجتهم وتستنبط ، وتوزن وترجح وتؤصل ، وتعقد القواعد وتفرع عليها الفروع والمسائل .

وبهذا التعدد المختلف المشارب ، المتنوع المسالك ، تتسع الثروة الفقهية التشريعية .

ويصبح من وراء تعدد المدارس والمشارب والمذاهب والأقوال ، كنوز لا يقدر قدرها ، ولا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث وهو ما نوهت به المجامع والمؤثرات العالمية في عصرنا ، مثل مؤتمر لاهاي للقانون المقارن سنة 1963م ومؤتمر باريس سنة 1951م .

وللمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي قرار قوي بشأن تعدد المذاهب وموضع الخلاف الفقهي بين المذاهب ، اعتبر فيه تعددية المذاهب واختلافها ثروة فقهية تشريعية وإليك بعض ما جاء في هذا البيان الصادر عن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هج الموافق 17 اكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هج الموافق 21 اكتوبر 1987م حيث جاء فيه :

إن اختلاف المذاهب الفكرية القائم في البلاد الإسلامية نوعان :

أ ـ اختلاف في المذاهب الاعتقادية .

ت ـ واختلاف في المذاهب الفقهية .

وأما الثاني : وهو اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل ، فله أسباب علمية اقتضته ، ولله سبحانه في ذلك حكمة بالغة ومنها : الرحمة بعباده ، وتوسيع جمال استنباط الأحكام من النصوص ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقيهة تشريعية تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها ، فلا تنحصر في تطبيق شرع واحد حصراً لا مناص لها منه إلى غيره ، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقاً ويسراً ، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة أم في المعاملات وشؤون الأسرة والقضاء والجنايات على ضوء الأدلة الشرعية .

فهذا النوع الثاني من اختلاف المذاهب هو الاختلاف الفقهي ، ليس نقيصة ولا تناقضاً في ديننا ولا يمكن أن لا يكون ، فلا توجد أمة فيها نظام تشيعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي .

فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة وأنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى ومزية جديدة بأن تتباهى بها الأمة الإسلامية .

ومن جل ذلك أكد علماؤنا فيما أكدوه ، وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه فإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة .

وفي هذا قالوا : من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم .

ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم انفه رائحة الفقه ؟ وآفة كثير من الدخلاء على العلم أنهم لا يعرفون إلا رأياً واحداً ، ووجهة واحدة ، أخذوا عن شيخ واحد ، أو انحصروا في مدرسة واحدة ، ولم يتيحوا لأنفسهم رأياً آخر ، أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة أو يميلوا أنظارهم في أفكار المجالس الأخرى مما أدى بهم إلى ضيق في الأفق ، وتعصب في الرأي ، وتهجم على الرأي الآخر ، وخلق معركة لا داعي لها ، في حين أن الانتفاح على آراء الآخرين فيه توسيع الآفاق العقلية والعلمية وفهم أفضل لمدارك ومباني الفتاوى الشرعية ، وانطلاق أرحب في ميدان العلم .

وكما في الفقه ، كذلك في شتى حقول المعرفة ، فأن تعددية الاجتهادات العلمية في حقول الثقافة والسياسية والاجتماع والاقتصاد والإدارة والقانون ، يعد ثروة علمية لا غنى عنها في أي عملية للبناء الحضاري الشامل .

ثالثاً : الاختلاف رحمة

من الصعب أن تجد اتفاقاً عامّاً على موضوع تتعدد وجهات النظر حوله ، بل نستطيع القول : قلّما يتفق أصحاب الرأي في موضوع واحد على رأي واحد .

وجود وجهات نظر متباينة على الكثير من المواضيع محور البحث ونقاش على المادة العلمية شي منطقي وواقعي ، ولكن غير المنطقي حقا هو مطالبة أصحاب الرأي على أن يتفقوا بكل شي على رأي واحد !

والاختلاف القائم على أسس علمية مجردة ، رحمة بالأمة وتوسعة عليها ، فما دام باب الاجتهاد مفتوحاً ومشروعاً لكل من تتوافر فيه مؤهلات الاجتهاد .

وما دام أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى لكل واحد منا عقلاً قد يفكر به ، وحثّنا في أكثر من آية شريفة على ممارسة التفكير ، واعتبره عبادة عظيمة كما ورد في الأخبار فأن من المنطقي بعد ذلك أن نفكر ونجتهد حول جميع القضايا القابلة للاجتهاد والتفكير ، ومن حقنا أن نختلف ! ولكن اختلافنا على أسس عملية متينة .

هذا الاختلاف مبني على القواعد العلمية الصلبة ، هو رحمة بالأمة فقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) قوله : (اختلاف أمتي رحمة) وعن محمد بن بشير وحريز ، عن أبي عبد الله (ع) قال : قلت له : أنه ليس شيء أشدّ عليّ من اختلاف أصحابنا ، قال : (ذلك من قبلي) وعن أبي الحسن (ع) قال : (اختلاف أصحابي لكم رحمة) وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال (ع) : (أنا فعلت ذلك بكم لو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم) وهذا يعني أن الاختلاف فيه توسعة على الأمة ، والاجتهاد شيء مشروع في فروع الدين وفي القضايا العلمية والموفية لشتى حقولها وتشعباتها .

وإذا كان الاختلاف العلمي رحمة بالأمة فإن الاختلاف الناشئ من اتباع الهوى والمصلحة الشخصيّة وحب الأنا مذموم في الشرع لأنه يفرق الكلمة ، ويحوّل المجتمع المتماسك إلى مجتمع كراهية ، ينازع بعضه بعضاً ويحارب كل واحد منه الآخر ، وتعادي الأمة نفسها بنفسها ، وهذا ما حذر منه القرآن الكريم بقوله تعالى :

{ولا تكونوا كالذي تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} وقوله تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} وقوله تعالى {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} كما وردت في الأخبار في الأخبار أحاديث مستفيضة تحذر من اختلاف الهوى ، فعن الرسول (ص) قال : ((لا تختلفوا فأن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) وعنه (ص) قال : ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) وعنه (ص) قال : ((أذهبتم من عندي جمعاً وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة)) وعن الإمام علي (ع) قال : ((إن الشيطان يسنّ لكم طرقه ، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة بالفرقة الفتنة ، فأصدفوا عن نزعاته ونفثاته)) .

فالاختلاف الذي يكون مصدره الهوى مذموم في الشرع لما يورثه من فرقة وتنازع وعداوة وبغضاء وكراهية ، بينما الاختلاف العلمي الناشئ من قواعد علمية مجردة يكون رحمة بالأمة ، وتوسعة عليها وثروة وذلك لما يسببه من إنتاج علمي غزير ، وثروة معرفية كبيرة ، وحركة ثقافية متناهية ورصيد حضاري لا ينضب ، ومن هنا نعرف الفرق بين الاختلاف المشروع والاختلاف الممنوع ، وبين اختلاف الرحمة واختلاف النقمة !

 

عن كتاب : شرعية الاختلاف .