د. محمد شريف*

يؤكد منطق العلوم، ان الحكم على الشيء فرع تصوره، وهو استنتاج منطقي لحقيقة ان التصور يسبق التصديق، وانه مقدمة ضرورية للحكم على الاشياء، ذلك ان الحكم، الذي يعرف بأنه اسناد أمر الى آخر، مسبوق بتصورات ثلاثة: تصور المسند اليه ـ الموضوع، وتصور المسند ـ المحمول، وتصور النسبة الرابطة بينهما، ايجابا او سلبا.

ولهذا عني التراث الفقهي والفكري ـ العربي الاسلامي بتعريف الاجناس والحقائق وبتحديد المفهومات والمصطلحات، وبالتمييز بين الحدود والرسوم، قدر غايته بالحكم على الاشياء والبرهنة عليها.
ومع ان التعريف هو المدخل الاول للعلم، فإنهم يبحثون قبله عن وجود الشيء واداتهم في ذلك هي حرف «هل» وتسمى هل البسيطة. وتسأل بها عن وجود الشيء. ويتبعها حرف «ما» وهي لطلب الحقيقة. ما هذا؟ ما هو الارهاب مثلا؟

ولا يعني ذلك ان كل فكرة وتصور وكلمة تحتاج الى تعريف، فقد تكون معرفة الشيء بديهية، كالاشياء التي نحس بها عيانيا او وجدانيا، وقد تكون نظرية فتحتاج معرفته الى تعريف. ومعلوم ان من شروط التعريف أن يكون اوضح من المعرّف.

ولسنا نبتغي هنا، التفصيل في نظرية المعرفة الاسلامية، فليس هذا محله، ويعنينا هنا ان نوضح الملابسات التي تصاحب المحاولات الجارية، هنا او هناك، لتعريف الارهاب. وان كثيرين يرون ان ضبابية مفهوم الارهاب، كما هو الحال الآن، ستعرض نضال الشعوب والامم المستضعفة، وكل حركة وطنية عربية، او اسلامية تسعى لاستعادة الحق السليب لمعضلة الحرب الدولية المعلنة بقيادة اميركا ضد الارهاب، بموجب القرار الدولي المجمع عليه والخاضع للفصل الحاسم السابع من ميثاق الامم المتحدة (1373) في 28/ايلول/2001، ويقترحون مبادرة سريعة للعمل على اقرار تعريف دولي للارهاب يجنب هذه الحركات الشرعية الوطنية، مخالبه، كما جرى ذلك بالنسبة لتعريف العدوان بموجب قرار الجمعية العامة (3314) في 1974، وكأنهم يأملون ان يأتي التعريف الدولي للارهاب، بمثابة حبل نجاة من هذه الكارثة يحقق ما نصبو اليه جميعا من انصاف المقاومة الفلسطينية، وكل مقاومة وطنية مشروعة.

ولدى تقويم هذا الموقف، الذي يمتزج فيه العامل النفسي بالعامل السياسي، لا بد من التمييز بوضوح بين الخيال ومجرد الامكان من جهة، وبين الواقع من جهة اخرى. فقد يتمتع الانسان بما يطلقه خياله من آمال، وقديما قيل: ما اضيق العيش لولا فسحة الامل. فهو ممكن، ولكن الامكان لا يعني انه سيقع، فقد يحاط بالشيء الممكن ظروف تجعله اقرب من المحال كما هي الحال مع التعريف المقترح، ذلك ان القدرة السياسية الهائلة التي تمكنت، بين عشية وضحاها، من صياغة قرار دولي شامل بحجم القرار الدولي آنف الذكر، الذي استقصى كل ما يتعلق بالارهاب من منبعه وروافده الى مصبه، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة (ان صح التعبير)، والزم الدول الكبيرة والصغيرة لاستئصاله بالمفهوم الذي صاغوه من اجله، واقره مجلس الامن بالاجماع سوف لا تعجز ـ هذه القدرة ـ حتما عن صياغة تعريف دولي للارهاب يحقق مقاصدهم فيه. وسوف نعلم ان الارهاب مفهوم اعتباري، وهو سياسي هنا ايضا، فيختلف معناه والمقصود منه باختلاف الاعتباري فهو ليس جوهرا او حقيقة في نفس الامر وبعبارة اخرى مفهوم نسبي. ويجب ان نعلم بأن هناك فرقا كبيرا بين الارهاب في اللغة العربية ومرجعه هو القاموس اللغوي، وبين الارهاب المترجم عن الكلمة الانجيليزية terrorism ومرجعه هو القاموس السياسي المعاصر، ويمتد هذا المفهوم الى عصر الثورة الفرنسية وما حدث فيها من ارهاب وشنق.
ومهما يكن من امر، فقد احسن مجمع الفقه الاسلامي الصنع في بيانه التاريخي في 2001/1/10، وعرف الارهاب تعريفا اراد به التقريب بين المفهومين السياسي واللغوي لكلمة الارهاب وقال: الارهاب هو العدوان الذي يمارسه افراد او جماعات او دول بغيا على الانسان (دينه، دمه، عقله، ماله، عرضه) ويشمل صنوف التخويف والاذى والتهديد والقتل بغير حق وما يتصل بصور الحرابة، واخافة السبيل، وقطع الطريق، وكل فعل من افعال العنف او التهديد يقع تنفيذا لمشروع اجرامي فردي او جماعي، ويهدف الى القاء الرعب بين الناس او ترويعهم بايذائهم او تعريض حياتهم او حريتهم او اموالهم للخطر. فكل هذا من صور الفساد في الارض «ولا تبغ الفساد في الارض. ان الله لا يحب المفسدين». والارهاب هو بغي بغير حق، وقال تعالى في كتابه الكريم «قل انّما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون».

ومع ان هذا التعريف، من حيث الصياغة، لم يحقق معايير التعريف المنطقي، ذلك ان التعريف تصور وليس بحكم، فلا حاجة به الى الدليل لاثباته. ومن العبارات التي حفظناها في المتون القديمة، كما كانت العادة في دراساتنا الاسلامية قبل خمسين عاما، «لا اعلم أنّ الحد (التعريف) لا يتبين بالبرهان ولا يرد عليه منع او اعتراض (في حالة الجدل) ولا مانع للمصطلح ان يضع الفاظا بازاء ما يريد إلا انه ينبغي ان يكون مطردا (جامعا) في المواضع المستعملة في المعنى المراد من غير مناقضة ولا مخالفة (مانعا).» ـ فإن هذا التعريف، رغم ما فيه من التكرار، لم يخلط بين الارهاب، الذي يبحث عنه في القاموس اللغوي، وبين الارهاب الذي نجده في القاموس السياسي، او في قاموس المصطلحات الجنائية. وهو خلط وقعت فيه عقول خطابية همها اثارة الجماهير، كما هو الحال في الديماغوجية فقد تزعم ان الارهاب نوعان، محمود ومذموم، والارهاب المحمود بزعمهم هو ما يدل عليه قوله تعالى «ترهبون به عدو الله وعدوكم» وهم يجهلون او يتجاهلون ان الارهاب الوارد في القرآن الكريم هو غير الارهاب المقصود بالمصطلح السياسي الذي هو ترجمة لكلمة terrorism. فلا تزال القوة التي تمنع نشوب الحرب (توازن القوى) امرا مرغوبا فيه في الضمير العالمي، وهو ما تعنيه كلمة الارهاب في سياق الآية آنفة الذكر.

والدليل على ما نقوله بشأن تقويم التعريف الفقهي المعاصر، هو انه جعل العدوان هو الجنس القريب للارهاب، فالارهاب نوع خاص من العدوان يعبر عنه قرآنيا بالفساد في الارض مرة وبالبغي بغير حق مرة اخرى. وواضح ان الانسجام الفكري بين اعضاء المجمع الفقهي، وانتماء الجميع الى مرجعية واحدة، يسر الوصول الى صيغة جامعة. وكل ما هنالك ان استطراد العبارات الفقهية في التعريف يعود الى رغبة كل منهم في المزيد من التأصيل الفقهي دون حاجة اليه في التعاريف كما لا يخفى على أمثالهم.

ويلاحظ ان مؤتمر حوار الحضارات المعقود في استانبول في 2002/2/12، تجنب الخوض في تعريف الارهاب رغم مناداة بعضهم، لانهم يفقدون هذا الانسجام الفكري والاعتبار السياسي، ومعلوم ان التعريف هنا هو تعريف اعتباري يختلف باختلاف المعتبرين.

ولكي نستكمل الاطار الثقافي للتعريف (ثقافة التعريف) نقول:

التعريف إما حقيقي، ويكون هذا حين يكون المعرف ثابتا حقيقة، وفي نفس الامر كأن نعرف الانسان ونقول: انه حيوان سياسي عاقل. وإما اعتباري وهو ان يكون وجود المعرّف بوضعنا وباعتبارنا كأن نضع الفقه مثلا لمسائل فقهية مستنبطة من الدليل الشرعي.

وقد يكون التعريف اسميا، فيفيد تبيين ما وضع الاسم بازائه كقولهم الغضنفر هو الاسد.
واهم شرط في التعريف هو ان يكون جامعا مانعا.

وعودا على بدء يرى بعض الباحثين اننا لا نكتفي في فهم الارهاب بالمدخل السياسي، بل ان علم الاجتماع في غاية الاهمية في هذا السياق، ودعا الى أنماط مختلفة للتعريف. والحق ان علم الاجتماع يعالج الاسباب والظروف التي تؤدي الى ظاهرة الارهاب. والحكم على الشيء فرع تصوره.

ويبدو لي ان الارهاب بالاعتبار الغربي هو العنف الموجه الى المدنيين، كخطف الطائرات مثلا، لتهديد الامن والسلام والنظام العام للمجتمع الدولي.

وربما يأتي «الفساد في الأرض» اعمق تعبيرا عن الارهاب الدولي. ولكنها مسألة اصطلاحية وللمصطلح ان يصطلح ما يشاء ولا مناقشة في المصطلح والامثلة.

* وكيل وزارة الأوقاف في العراق سابقا

abosherko@hotmail.com