فرج بو العشة

منذ بضع سنوات مضت كنت اشرف على ادارة النشر في شركة عربية للمطبوعات مقيمة في قبرص، والتي كانت على وشك الافلاس (ككثير من المشاريع الثقافية العربية الجادة!)، عندما عرض على محقق ليبي شاب، هو محمد المزوغي، مخطوطة نادرة لشيخ الصوفيين ابن عربي بعنوان «رسالة الذي لا يعول عليه». وللأسف لم نتمكن من نشرها رغم الاتفاق المبدئي مع محققها. ولا اعتقد انه تمكن من نشرها الى الآن لصعوبة الأمر في ليبيا. والمثير ان في حوزته 24 مخطوطة اخرى للشيخ ابن عربي، بعضها لم يطبع من قبل! على كل حال ظلت المخطوطة معي. ادمنت قراءتها مرات عديدة في المنفى الجرماني بعيدا عن وجه امي في صلاة الفجر! المخطوطة، وان كانت نادرة، فقد سبق نشرها، اذ انها، كما يقول محققها، طبعت لأول مرة ضمن مجموعة رسائل ابن عربي بمطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد سنة 1948. ثم اعيد طبع المجموعة بدار احياء التراث العربي ببيروت كما هي مصورة عن طبعة حيدر أباد.
الجديد في المخطوطة المحققة بمعرفة محمد المزوغي انها مهمشة بشروح وزيادات لبعض تلاميذ ابن عربي. ومتزيدة بمعوليات لم ترد في مخطوط حيدر آباد. كما انها منسوخة عن نسخة بخط ابن سودكين احد كبار تلاميذ ابن عربي المقربين والذي جاء ذكره مراراً في مؤلفات ابن عربي. ونتيجة لقرب الناسخ (ابن سودكين) من ابن عربي ظهرت بعض المعوليات (من يعوّل) مكررة، لأن ابن عربي لا يراجع ما يكتبه، فهو يكتب ما يمليه عليه وحي الشعر والكلام، أي أنه بلغة الأدب الحديث كان يطبق منهج الكتابة الاتوماتيكية حسب المفهوم السريالي، أو كما يقول ابن عربي بنفسه عن منهجه في الكتابة: «ما قصدت في كل ما الفته مقصد المؤلفين ولا التأليف وانما كان يرد علي من الحق موارد تكاد تحرقني، فكنت اتشاغل عنها بتقييد ما يمكن منها، فخرجت مخرج التأليف لا من حيث القصد».
رسالة «الذي لا يعول عليه» كتبها ابن عربي قبل وفاته بست سنوات واحتفظ بها لنفسه ورفض نسخها في حياته، وهي من أواخر الرسائل/ الكتب التي الفها والتي تصل الى 253 مؤلفا ذكرها بنفسه وقسمها الى ثلاثة أقسام: 1 ـ سبعة وعشرون مخطوطة خرجت من يده ولا يعرف عنها شيئا وهي غير متداولة في دكاكين الوراقين! 2 ـ خمسة وسبعون مخطوطة معروفة متداولة بين الناس.
3 ـ وتوجد مائتان وخمسون مخطوطة من ضمنها مخطوطة «الذي لا يعول عليه» ذكر ابن عربي انه يحتفظ بها لنفسه! ان ابن عربي نسيج وحده، وتراثه، ايضا، نسيج وحده. انه روح الحضارة الاسلامية عند درجة الوجد، وما ادراك ما الوجد؟! وجد سلطان الحقيقة، انكشاف الغائب في الحاضر. الآخر في الأنا. وجد الكشف المتوالي، الذي لا يكف عن رفضه للتواجد في الوجود المستقر الذي يتعاطاه الناس! لأن، كما يقول سيد الوجد: «الوجد الحاصل عن التواجد لا يعول عليه» كما أن: «الوجود الذي يكون عن مثل هذا الوجد لا يعول عليه».
والتواجد، أي اخذ الوجود بما هو موجود عليه، يطابق هيمنة الظاهر على الباطن، لأن هيمنة اللفظ على المعنى لا يعول عليه.
واذا اردنا ان نختصر انحطاط الحضارة العربية/ الاسلامية في عبارة (= معولة) فإنها، بالقطع، هي عبارة «هيمنة اللفظ على المعنى» التي بسبب هيمنة التفسير اللفظي السلطوي عبر قرون الانحطاط ندفع، اليوم، اكلافا باهظة، خلاصتها جمودنا على الموجود! باسمها دفعنا التوحيدي الى حرق كتبه بنفسه وحرقنا الحلاج وذرينا رماد جثته من اعلى مئذنة في بغداد وشطبنا ابن رشد من تفكيرنا، بل اصدر احد سلاطيننا مرسوما رسميا يحرم الفلسفة، أي يحرم التفكير في الوجود بالمرة، وبالتالي لم يتبق لنا الا الوجود في الوجود والجمود على الموجود، وقد ذهبت سدى «معولة» سيد الوجود في النقيض، الشيخ ابن عربي، القائل: «كل علم حقيقة لا حكم للشريعة فيها بالرد، فهو صحيح والا لا يعول عليه».
فعلم الحقيقة هو فن التسامح في ادارة الاختلاف. اي، بحسب ابن عربي عدم التعويل (على سبيل المثال) على تفضيل الخواص للحسن البصري (الفقيه الزاهد) على شاعر العوام الحسن ابن هاني (ابو نواس) وبالعكس. فلكل من الخواص والعوام حقيقته الخاصة، وان ذلك ينطبق على «المُعوَّلة» التي تقول: «الكشف الذي يؤدي الى فضل الانسان على الملائكة أو فضل الملائكة على الانسان مطلقا من جهتين لا يعول عليه». ان «معوليات» ابن عربي في التحليل البنيوي، بالمعنى التاريخي المعرفي (الاركيولوجي/ الايبستومولوجي) هي بمثابة معادلات فكرية/ روحية للخاص من «التجلي المتكرر في الصورة الواحدة (الذي) لا يعول عليه. «انه التجلي المتكرر في الصورة الواحدة التي جرى عليها التواجد المكرور للجمود التاريخي للحضارة الاسلامية، الجمود الذي قتل روح الابداع والاجتهاد والنقد والاختراع. استأصل ابن عربي والتوحيدي وابن حزم وابن رشد الى آخر سلالة التنويريين العظام، وأبقى على «علماء السوء» /حراس التواجد المكرور!!
* مقتطفات من «الذي لا يعول عليه»
* كل شهوة غير شهوة الحب لا يعول عليها المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه الكلمة التي تفهمها لا يعول عليها الصمت الذي لا يحتوي الكلام لا يعول عليه كل معنى احتوته عبارة لا يعول عليه الشوق الذي يفتر عند اللقاء لا يعول عليه كل معرفة لا تتنوع لا يعول عليها العطاء بعد السؤال لا يعول عليه الحكمة اذا لم تكن حاكمة لا يعول عليها القطرة اذا لم تحتو المنبع لا يعول عليها