ينص ميثاق اليونسكو الذي تقرر منذ أكثر من نصف قرن على ما يلي:

” بما أن الحرب تبدأ في أذهان البشر، فأن علينا إن نبني متاريس السلام في أذهان البشر أيضا”.

فما هي متاريس السلام التي شيدها العقل والمنطق حتى لا يكونا أولى ضحايا ثقافة العنف التي حملناها في العراق اليوم على كتفين أتسعا ليصبحا أشبه بجناحين نطوف بهما فوق سماء ملبدة بدخان الموت اليومي، فيما القلب ينتظر اشراقة شمس عراقية الصحوة ترفل برداء تموز لتذيب هذا الشمع اللئيم الذي يلهم ثقافة العنف امتدادها الأهوج.

ليس مفهوم ثقافة العنف بالجديد على الذهن العراقي أو العربي إذ عبر قرون عديدة عشنا معا” بنسب قد تتفاوت لكنها أبدا” لن تلغي التواتر الذي يمتد عبر وطننا العربي المبتلى بحب السلطة ومقعد السلطان الأبدي، وكان لا بد أن ندفع وعلى امتداد أجيالنا ضريبة حب لانعرف كيف نتخلص منه دون انتزاع للروح، حبنا لأرض غالية ترقبنا ونحن نتنازع فوق ثراها ونملأ أحشائها بأجساد أحبتنا دون إن ترف لنا أجفان لا تعرف ألا أن تغمض عينيها على الحقيقة.

فحين يزدهر العنف تنبثق الدوافع المبطنة بالأنانية ويضمحل المنطق السليم، وكل ما كبرت مساحته كلما حمل تراكمات قديمة ومستحدثة وتناقضات سياسية واجتماعية تعمل على استهداف الإنسانية ولغة التسامح والمحبة والأواصر الدينية الراسخة والفكر والثقافة والحضارة وتجرف في طريقها كل مسميات الفن والأدب والعلم والتواصل لتستمد من تمزيقها ما يحقق لها الإدامة والانتشار.

هل يمكن إن نجد تبريرا” لكل هذا العنف الذي بدأ يتغلغل في كافة مفاصلنا ليستمتع بدورة عنف تأخذ مسميات امتدت حتى داخل الأسرة والحرم الجامعي والتربوي وتمادت حتى طالت دور العبادة والأماكن المقدسة بعد أن استشرت سياسيا”

 1

وعسكريا” وتداخلت بين عمل الأحزاب والتجمعات والتنظيمات المدنية، ولم تغلق الدائرة التي لا زالت تلتهم مجتمعنا دون هوادة.

هل أن وجود التناقضات الفكرية والاجتماعية يعطي للعنف أحقية في الظهور أم إن وجود “ثقافة العنف”هو المتكأ الذي تستند عليه هذه الظاهرة لتجد لها مسميات تبريرية كالعنف الثوري ونظريات التكفير والتعصبات القبلية والمذهبية والقومية.

ما الذي يغذي ثقافة العنف ويجعلها تجد تلك البرك الملوثة التي تتنفس فيها بحرية دموية..؟

وما هو الوعي المطلوب اليوم الذي يتناسب مع هذه المرحلة الدقيقة التي نمر بها..؟

وكيف نبدأ باستخدام وعي التقاطع التام مع ثقافة العنف.؟

نعتقد أن العديد من هذه الأسئلة ستتوقف إمام زاويتين:

الأولى:-

تشخيص وسائل نمو ثقافة العنف.

الثانية:-

: نزع الأقنعة التي تخفي أهدافها الحقيقية وصولا” إلى أدانتها جهارا” بوسائل تعرف معنى ثقافة اللاعنف وترسخها بجدارة مجتمع متحضر تاريخيا” وحاضرا”.ا

وحين نتوقف إمام النقطة الأولى فإننا سنحمل وسائل الأعلام مسؤولية كبيرة في إيجاد البيئة الخصبة لإنعاش ثقافة العنف.

العراق اليوم هو أرضية تجريبية لجميع وسائل الأعلام العربية والغربية، آذ حرصت هذه المنافذ على أن تندمج في معركة الأعلام في العراق منذ الفترة التي سبقت الاحتلال الأميركي في الألفية,

ففي التسعينات تأسس مركز أعلام الشرق الأوسط MBC  في لندن ثم شبكتا ART/ERT وجاءت من بعدها فضائيات الجزيرة، أبوظبي والعربية وأثبتت هذه المنافذ الإعلامية تأثيرها القوي على المشاهد العربي على حساب القنوات الحكومية، التي بقيت في موقع شبه بعيد على تأثير التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية والتقنية المعولمة والكاسحة، وخاصة بعد خصخصة قطاعات لايستهان بها من الأعلام، وتطور الأطر التشريعية التي حاولت مواكبة متغيرات الخطاب ألأعلامي لكنها فشلت في أن تستوعب كامل المشهد الذي أجاد اقتناص فرصته وهو يعلق على مشجب السبق الإعلامي كل إخفاقاته الإنسانية وليس الإعلامية, وعبر هذه النقطة دخل عنصر المنافسة الساحة باحثا” عن أجساد مقطعة وإخبار دامية بعضها شبه مفبرك وأمتيازات صور لم يعتدها المشاهد العربي ولا الغربي عبر مشاهد الخطف والذبح والتهديد والمطالب التعجيزية والتفجيرات التي ترسل أشرطتها كهدايا لفضائيات دون أخرى فيستقبلها المتلقي بانبهار أولا” ثم بانتظار ومن بعدها بتعود ليصل إلى الإدمان ويحتاج إلى

2

جرعة إثارة اكبر تغازل مناطق جديدة في العقل والإحساس لم يسبق لها إن استقبلت هذه الأمواج العالية من الاستفزاز المنظم بعناية نعتقدها مقصودة لكن الفضائيات تعلل الأمر بأنها في سباق مع منسوب المنافسة لتثبت صلاحيتها إمام الأعلام الغربي المتطور في حقل الأخبار والتحليل والتقرير ولا بد من ارتداء لبوس التغيير على الجانبين: أولها التقني ثم استبدال قيما” ومعايير وثقافة جديدة لايهم كثيرا” إن اقتربت من ثقافة العنف ما دامت أهدافها تصب في جانب تعرية المظاهر السلبيةوأظهار الايجابية( علما” إن الايجابية مختفية تماما” من أغلب الملاحقات الإعلامية العربية والغربية فيما يتعلق بالعراق ولكافة الجوانب الحياتية )، ولو حاولنا الإجابة عن جدوى هذا الترويج ألأعلامي لثقافة السبق الصحفي دون إن نضفي عليه أية تفسيرات سياسية أو مصالح إقليمية فإننا سنجد أنفسنا بحاجة إلى جواب يقنعنا بقبول التعامل مع هذا الهدف الساخر من جراحاتنا وتدجين مشاعرنا لنتفرج على مأساتنا وهم يحاولون اختراق دفاعاتنا الإنسانية بما يجعلنا نتعامل مع أشلاء أبنائنا بشلل لا يحلل المغزى بقدر ما يتلقى صورا” جاهزة متسارعة أعدت باهتمام لتجعلنا نرغب دائما” في المزيد لتصبح بشاعة الصور الأولى أقل تأثيرا” من الثانية وهكذا حتى تكتمل الحلقة، فنجلس باسترخاء لنتفرج على انتهاك حرمة موتانا وأحبتنا في معزل عن قدسية الموت ووصايا ديننا وقرأننا الكريم.

الأخطر من كل هذا هو تسلل ثقافة العنف في أطفالنا هذه البراعم التي تصادر العائلة رغبتها بمشاهدة البراءة عبر برامج مخصصة للأطفال, وتجد نفسها مجبرة على الاستماع لنشرات أخبار تتابعها الأسرة بشغف متنقلة بين الفضائيات فلا وقت للمرح والعراق ينزف أبناؤه مع كل دمار جلبه لنا قطار الاحتلال الأميركي.و يوما” بعد آخر سيتعامل هؤلاء الصغار مع صور الرعب بسلبية مرنة ويستقبلون بشاعة يرونها ويسمعونها دون اعتراض ودون تفكير بالدهشة، فالإدمان ألأعلامي حقق رغبة المحتل وعلل النهايات بالبدايات ورفع شعار ديمقراطية الموت للجميع دون استثناء. ما الذي سيحصل لهذه الأجيال من تراكمات فكرية لمعنى الصراع وأية صور ستنطبع في الذاكرة تهيْ الذهن الصغير لاستخدام نموذج جاهز بكل تفاصيل أعداده ليكون منطلقا لسلوك قد يتم تبنيه ببساطة في ظل غياب الأب والأخ وأحيانا اغلب العائلة التي سحقت في عجلة التفجيرات اليومية, من سيرعى هذه الطفولة اليتيمة من إن تكون طعما سهلا لأية نوايا سيئة تنتظرهم على قارعة طريق وجدوا أنفسهم فيه دون رعاية مباشرة وكيف سنطمئن على مستقبل سيكمل مسيرته بأجيال تربت على مبدأ العنف وأدواته الرهيبة ؟

أنها مكيدة ثقافة العنف التي كلما ارتفعت الأصوات لتسأل عن شرعية ما يجري، يتم إعداد سيناريو موت جماعي جديد لإلهاء ذهنية السؤال وأبعاده عن أجوبة لا يحق له الحصول عليها الآن فلعبة السياسة تداخلت في البناء الإنساني وطالت مرافق لا يحق لها الدخول فيها لا في ظل الدكتاتورية ولا الديمقراطية لكنها استغلت استباحة المجتمع وبنت براعتها المشوهة على أنقاضه التي تتراكم كل يوم دون إحساس بالمسوؤلية المباشرة عنها ممن ألهتهم لعبة السياسة عن الإنسانية .

3

 هل اكتشفنا خطورة لعبة الأعلام، أم أننا بحاجة إلى تحليل يجيب عن سبب حجب الأعلام لمخطط استلاب أجيالنا وتحويلها إلى كائنات آلية تعرف كيف تأكل وتنام وتتناسل دون مشاعر رفض بل يخزين عنف ينفجر كيف شاء وبوجه من يشاء ولمصلحة من يشاء.

إن ثقافة العنف التي يروج لها الأعلام تستند على مرجعيات سياسية ومصالح متصارعة على الساحة العراقية المؤهلة بفعل اكتنازها الحضاري المتشعب إن تستحق التنازع للاستحواذ.

وبالعودة إلى الزاوية الثانية من الأسئلة التي تتطلب منا نزع أقنعة الأهداف الخفية، فلا بد لنا إن لا نتجاهل الاختلافات الاجتماعية التي يحفل بها مجتمعنا سواء الطبقية أو السياسية أو القومية أو المذهبية أو الآثنية، ولابد إن نتبع أسلوبا” سلميا” في حل تناقضاتنا واختلافاتنا يبنى على مبدأ اللاعنف والتعرية الصحيحة لمن ينتهجه أسلوبا دون الخشية من قوته أو ركائزه السياسية والحزبية، حتى لا نسمح بتحويل العنف داخل الدولة إلى قوانين ومؤسسات وصراعات لا تعوزها زوايا الظهور الصارخ.

ويقينا إن طريق التحويل السلمي إلى الديمقراطية الحقيقية لا يمكن إن يتم بدون خسائر منظورة وغير منظورة ولا بد له من جهود متحفزة داخل كل مفاصل المجتمع لكي يقام داخل أسلوب تربوي ثقافي حقيقي يبدأ من الأسرة ويكبر ليشمل المجالات التدريسية والتنظيمات الثقافية والإعلامية ليحقق بالتالي شموليته داخل بناء دولة الفكر والمنطق والعقل.

إن الطريق إلى ثقافة اللاعنف يتطلب من كل المجتمع العراقي الأيمان بأنها تملك المستقبل عبر طريق واحد يمر عبر تحقيق مصالح الشعب والوطن وليس هناك أكثر ضررا علينا من اعتقادنا بان هناك أي طرف أجنبي سيحقق لنا ما نحلم به من أمال وتطلعات خيرة,  وكلنا نعرف إننا شعب صعب وعصي على التخاذل ولايمكن إن نعيد بناء الإنسان إلا من خلال الإنسان نفسه ليكون طريق الإنسانية معبدا بصدق الأيمان والالتزام والشعور بكينونة وماهية الروح السامية.

يكفينا إغفالا” لمعرفتنا بمسببات العنف وانتهاج ثقافته الدموية ويكفينا استرخاء هذا الإغفال الذي لجأنا أليه لكي لا نشعر بضعف من يعرف الحل ولا يبذل جهدا” للبدء بخط الشروع، أغفلنا حتى ما يقدم لنا على طبق من مشروعية لأننا نعرف منذ عرفنا الأيمان بالله ماذا تعني المشروعية والشرعية والفارق بينهما وبين الضلالة والبهتان.

هل نستحق أن نبعثر أجسادنا المؤمنة على قارعة المصالح المتضاربة لنقول إننا

 4

مارس ديمقراطية السياسة وتعددية الآراء واختلافات الفكر ونغفل أستلابات الروح والضمير ونداري خيبتنا بإحصاء بيانات تحمل أرقاما بلا أسماء لأرواح بلا أجساد كل ذنبها أنها تريد إن تعيش بعيدا” عن الكراسي البراقة والمناصب الزائلة .