لقد انحسرت الأديان في شرائح محدودة من شرائح المجتمع، وفي دائرة ضيقة من دوائره. وذلك إننا نرى وسائل الأعلام قد جندت أموالاً طائلة في سبيل تحقيق هذا الهدف، وطبلت لأمر ــ كان سبباً لانحسار الأديان وانكماش الكثير عنها ــ أيما تطبيل، وزمرت مزاميرها أيما تزمير حتى أصمَّت آذان الكثير وأغشت أبصار قوم عن سماع صوت الحق والنظر إلى نور الحقيقة.

وهذا الأمر الذي طبل له هو: أن الأديان هي ـ في الحقيقة ـ تقوم على منهج العنف وقسر الناس على اعتناق ما جاءت به، وبما أن الإنسان قد خلق حراً فمقتضى حريته أن يكون حراً في اختيار أي منهج في الحياة يراه مناسباً له. ولكن وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع نقول على نحو الإجمال ما هو السبب الذي دفع هؤلاء لقيادة حملة من هذا النوع ضد الأديان، وتجنيد هذه الطاقات الهائلة ـ من مادية وبشرية ـ كيما ينالوا من الأديان ويشوهوا صورتها الناصعة أمام الناس؟

ونحن إنما نسأل هذا السؤال بدافع أيماننا بأن المشكلة فيما لو أريد حلها فإنه لا يلجأ إلى القضاء على النتائج فهذا الحل إذا أتى ثماره يوماً، فلا بد أن يكون حلاً مؤقتاً ما دامت منابع المشكلة لم تسد فهي في الواقع قادرة على تعويض ما قضي عليه.

فهذا السؤال هو مما يترتب عليه الحل الجذري للمشكلة. فإن الممارسات التعسفية من قبل من نصب نفسه أو نصبته الظروف ولياً على الدين قصار يقطع رقاب من يخالفه في الرأي بدون أي وجه حق في ذلك هو الذي أدى إلى فقدان الثقة بالدين.

فليس كل الناس هو قادرون على التمييز بين الدين، وبين من نصبوا أنفسهم لتطبيقه، فالغالبية تنظر لمن يطبق الأديان على أنهم هم الأديان، فإن أخطأوا فإن الدين ـ في عرفهم ـ هو الذي أخطأ وإن أصابوا فإن الدين هو الذي أصاب.

لذلك فالسبب الأساس الذي دفعهم لمثل هذه الحملة ضد الأديان هو تصرف أولئك ضد الرأي الآخر باسم الدين. ولكن تصرف هؤلاء لم يكن يوحي من الدين بقدر ما هو تصرف شخصي ودوافعه المصالح الشخصية التي تحرك أصحابها للوقوف بوجه كل من يحسون بأنهم يرون ما يعترضها. ولذا فيجب على كل إنسان أن يميز بين مبادئ الأديان، وبين تصرفات القائمين عليها بالقهر وَالحَديد.

فمن المستحيل القول بأن نبي من أنبياء اللـه عليهم السلام كان قد جاء قومه بدين تلقاه وحياً من اللـه تعالى وأن هذا الدين يقوم على العنف، بل على العكس من ذلك تماماً فإن أنبياء اللـه ورسله عليهم السلام هم الذين كانوا يعانون ما يعانون من جراء العنف الذي يمارسه أقوامهم ضدهم. ولم يكونوا ـ كما وردنا في التاريخ ـ يقابلون ذلك العنف بغير الأسلوب الهادئ الذي يقوم على أساس البـرهان والعقل والأدلة الرصينة، لذا تجد رسالتهم هي التي تحتل قلوب الناس آخر المطاف، وتتمكن منها، فتجد الدنيا حينها تركع أمامهم واضعة جميع إمكاناتها تحت تصرفاتهم فهل كانوا ـ حين امتلكوا ـ القدرة قد مارسوا العنف كنوع من الانتقام والتشفي ضد أولئك الذين ما فتئوا يرفعون ألوية العدوان ضدهم؟

كلا، بل كان العفو دائماً رفيق لهم عنذاك.

ونحن لو أردنا تسليط الضوء على جميع الأديان، والمناهج التي سار عليها الأنبياء جاءوا بها لطال بنا المقام ليصل إلى سلسلة طويلة تستغرق وقتاً ولكننا نشير وبصورة إجمالية إلى الأديان الثلاثة الرئيسية وهي الديانة الموسوية «اليهودية»، والديانة المسيحية، ثم الديانة الخاتمة للأديان أجمع أعني بها الديانة الإسلامية.

فنقول ابتداءاً بأن الديانة الموسوية ـ نسبة إلى نبي اللـه موسى عليه السلام ـ لم تكن قد قامت يوما على أساس العنف وهذه الآيات الكريمة الخاصة بدعوة نبي اللـه موسى عليه السلام إلى فرعون تصرح بما يحمل أسس الحوار القائم على اللين والحوار الهادئ الذي يحمل بين طياته الرحمة الإلهية حتى اتجاه اعتى طاغية، والذي أدعى الربويبة من دون اللـه تعالى.

فمن الآيات ما يقول : «وقولوا له قولاً لينا………» ومنها ما يقول : «فقل هل لك إلى أن تزكى* وأهديك إلى ربك تخشى* فأراه الآية الكبـرى* فكذب وعصى* ثم أدبـر يسعى * فحشر فنادى* فقال أنا ربكم الأعلى»

أما بالنسبة لـ «اللاعنف» الذي كان يمارسه تجاه قومه فكان أكثر من أن يوصف فقد كانوا يطلبون منه ما لا يحتمله أحد، ولكنه ومع ذلك لم يكن يقابل كل ذلك إلا بالصبـر وسعة الصدر.

إذن فمن غير المعقول أن ننسب العنف للديانة اليهودية نتيجة تصرفات هوجاء تصدر من قبل أولئك الذين يعتبـرون أنفسهم قيمين على الدين وأهله والحال أن صاحب الديانة، والوسيط الذي توسط بين اللـه تعالى والناس في نقل معالم هذه الديانة الإلهية لم يكن قد مارس أي نوع من أنواع العنف ضد من بعث إليهم.

أما لو قيل بأن نبي اللـه موسى عليه السلام كان قد مارس العنف ضد أحد الناس الذين كان قد تشاجر مع واحد من بني إسرائيل فقتله فإنه بغض النظر عن ظروف وملابسات تلك القضية فإن أكثر التفاسير يرى بأن ذلك الذي قتله نبي اللـه موسى عليه السلام لم يكن من البشر وإنما كان من الملائكة وذلك لتقديم درس من اللـه لموسى عليه السلام.

إضافة إلى أننا وكما سبق أن قدمنا في بحوث متقدمة بأننا لا نرى ولا نعتقد بالغاندية المطلقة، بل نعتقد بأن العنف مستبعد قدر الإمكان من قاموس الحياة مادامت عجلة الحياة دائرة على أساس اللاعنف، وأما لو استحال دوران عجلة الحياة على أساس اللاعنف فعندها تفرض ضرورة إدارة عجلة الحياة العنف كوسيلة ــ ضمن ضوابط معينة ــ لإعادة دوران تلك العجلة.

إلى هنا ننهي مقالنا هذا الذي لم نتمكن فيه سوى للإشارة إلى الديانة الموسوية على نحو الإجمال في كونها ليست ديانة تقوم مبادئها على أساس العنف بل على العكس من ذلك ثم نسأل اللـه تعالى أن يوفقنا أنفاً لتسليط الضوء على كل الديانتين النصرانية والإسلامية.