اللاعنف لم يزل فكرة ومفهوماً يعيش طور النشوء، فلم يرتق حتى الآن إلى مصاف تلك المفاهيم التي ارتفعت إلى مستوى النظرية ذات الاسس والمبادئ التي تمكنها من أخذ مكانها المناسب على الساحة الفكرية. ولذا تجدها ما زالت مورد اخذ ورد، كما ان البعض ممن تناول الفكرة لمن يكن مؤهلاً – بمقتضى الزاوية التي تناول من خلالها الموضوع – للرد على ما يرد من اشكالات كما سياتي.

فمن يروم الاطلاع على الفكرة يجدها بين طيات بعض الكتب التي اختلفت في طريقة تناولها لها.

فالبعض ممن تناولها البسها ثوباً غير الثوب الذي يفترض ان يلبسها إياه، مما ساعد على ظهور تيار مناهض للفكرة تماماً كرد فعل على البعض الأول.

اما البعض الأخر فقد كان معتدلاً في طرحه مما أدى إلى تقبل الفكرة في الاوساط المثقفة نظراً لكونها فكرة تناسب الذوق الانساني ولا تنافي العقل فيما لو البست الثوب المناسب لها.

نحن بدورنا – ومن منطلق تبنينا منهج اللاعنف – نرى لزاماً علينا ان ندلو بدلونا، ونساهم في تلك المحاولات الموضوعية التي تنوي بلورة هذه الفكرة فنقول:

ان فكرة اللاعنف تحتمل معنيين:

1 – اما المعنى الاول للفكرة فمؤداه حذف القوة وإلى الأبد من قاموس الإنسان بحيث ينسى الانسان شيئا بهذا الاسم، نعم قد يستفيد منها في دفع غائلة شيء يقع عليه من غير الانسان اما في غير هذه الصورة، أي من خلال تعامل الانسان مع غيره من ابناء نوعه فإن القوة مستبعدة تماماً، وإن سلب حقه، أو ضرب، أو أهين امام الناس… الخ.

و يمكن التعبير عن هذا المعنى بـ(الغاندية) كما يروق للبعض تسميته. اذانهم يسوقون قضية غاندي كدليل على مدعاهم.

و قد يستدلون بما وردنا في كتب العهدين – القديم والجديد – عن السيد المسيح(ع) حيث يوحي بانه اذا ضربك احدهم على خدك الايمن فأدر له خدك الأيسر»، متغافلين عن وصاياه(ع) حين يقول «من لم يكن لديه سيف فليبع رداءه ليشتريه».

2 – اما المعنى الثاني فلا يتفق اصحابه مع اصحاب المنهج الاول في رفع القوة تماماً من قاموس الإنسان مهما طرأ عليه من الحوادث، انما يعني ذلك تنحية القوة جانباً ما امكن الانسان ذلك، فيحاول جهده حل جميع قضاياه باسلوب العقل والحوار ودفع الحوادث بالسلمي من الطرق، اما حين تستنفد كل وسائل الحوار والعقل في المقام ويتوقف استخلاص الحق على اللجوء إلى القوة، وكان بامكانه استخلاصه اذا لجأ اليها حيث تتوفر شروطها، عند ذلك فقط يحسب حساب الاسلوب الآخر وهو اللجوء إلى ما يمتلك من مخذون القوى.

من خلال ما تقدم يمكن رسم صورة واضحة للفكرة نقدم لها بمقدمة وحقيقة يجب على الانسان التنبه لها فنقول:

ان المقياس الذي تقاس به انسانية الانسان ليس هو مقدار القوة التي يمتلكها – سواء الجسدية منها ام غيرها – كما يتصور بعض ذلك، والذي قاده شعوره هذا إلى خوض غمار الحروب والعمليات الارهابية التي ازهقت الملايين من الارواح ليس الا ارضاءاً لتلك النزوة نزوة التعالي.

لكن المقياس الصحيح هو ما يحمل الانسان من رجاحة العقل التي يمكنه من خلالها – فقط – حل مشاكله دون اللجوء إلى الاسلوب المعاكس.

فلو كان المقياس الاول – مقدار القوة – صحيحاً لكان أضرى الحيوانات وأشرسها أرقى من الانسان.

بعد كل ما تقدم يمكننا ان نسأل ما هو (اللاعنف)؟

من خلال كل ما سبق ذكره يمكننا رسم صورة واضحة لـ(اللاعنف) نزيل من خلالها ما علق في ذهن بعض الناس عنها نتيجة الطرح غير الصحيح للفكرة.

اللاعنف: هو اسلوب راقٍ، ومنهج قويم، لا يتسنى لغير ذي الفكر النيّر الأخذ به اذ أنه يعني حجب العنف والقوة والاستفادة من الحوار وقبول آراء الآخرين بصدر رحب وان كان يختلف معي في الفكرة، فليس علي فرض آرائي على الآخرين، ولا رفض آرائهم لانها ليست آرائي انما اتعامل مع آراء الآخرين بموضوعية تامة، وبروح الباحث عن ضالته فاذا ناسبته قبلها، واذ لم ترق له لم يكن ليعنف اصحابها، بل ساحة الحوار مفتوحة.

اما القوة فهي مستبعدة قدر الامكان والجهد ولها شروطها المناسبة، والتي بحثت في محلها حين لا ينفع غيرها.

ولكن ينبغي الاشارة إلى ان (اللاعنف) لا زال يصطدم بعقبتين اساسيتين:

1 – فالعقبة الاولى هي على مستوى التنظير، فكما تقدم ذكره لا زالت الفكرة تعيش تخبطاً، وعدم استقرار في عملية طرحها، إذ ان البعض كان قد افرط فيها مما انزلها إلى واقع الخنوع والاستسلام ما أدى إلى تفريط البعض الآخر فيها.

اما التيار المعتدل في طرحه للفكرة فقد ضاع صوته تقريباً في زحمة الاصوات.

2 – اما العقبة الثانية فهي ناشئة – في الحقيقة – من العقبة الاولى. وهذه العقبة هي اصطدام الفكرة بالواقع الذي تعيشه البشرية الآن.

فقد اعتاد الناس – على مدى حقب من الزمان – اللجوء إلى القوة في الدفاع عن النفس، وفي مجال فرض فكر وعقيدة ما، وكذلك في مجال استرداد الحق. اللهم الا بعض الاستثناءات من البشر الين تحكمت عقولهم بنزواتهم وغرائزهم فهم قادرون أيما قدرة على كبح جماحها في الوقت المناسب، وهذا النهج هو نهج الانبياء والصالحين والعلماء وسلوكياتهم. فاعتياد الناس منهج القوة ادى إلى انطمار فكرة العنف شيئاً فشيئاً وهكذا حتى صارت مفهوماً غريباً لا تأنس اليه عقول اكثر الناس، كأنها فكرة مستحدثة ومبتدعة مع انها موجودة وقديمة قدم الانسان اذ رافقته منذ خلقه.

خلاصة القول ان الطرح غير المناسب للفكرة واعتياد الناس نهج القوة كلاهما قادا إلى عدم تقبل الفكرة ورفضها من قبل عامة الناس ظنا منهم انها تدعو إلى الخنوع والاستسلام، وهذه هي العقبة الكؤود التي تصطدم بها فكرة (اللاعنف).

فما هو السبيل – اذن – لجعل الفكرة مورداً للقبول من قبل الجميع؟

ان السبيل إلى ذلك يتركز في استخلاص الفكرة واجراء عمليات التنقية عليها لتخليصها مما قد علق بها كي نرتفع بها إلى مستوى النظرية التي نقومها على أسس متينة، ونؤطرها بالاطار المناسب لها كي تقف صامدة امام الريح.

و كذلك يتسنى لنا ذلك من خلال القراءة المتأنية لفكر الناس لكي نتدرج في طرحنا للفكرة لا أن ننهج نهج اولئك الذين طرحوا الفكرة – غير المناسبة طبعاً – من غير حساب دقيق، والذي قد يقود إلى رفض الفكرة نهائياً فنكون بعملنا كمن اضر بغيره حيث اراد ان ينفعه.