ليس هناك من يشك في كون الشعر هو المؤرخ الصادق الذي كان ولا يزال يسجل وقائع عصره اروع تسجيل لما له من القدرة على صياغة الاحداث في اجمل عقد وايصالها إلى الاذهان بلحن يقر في القلب لتلتصق على صفحاته ضامنة لنفسها الامان من الاندثار كل ذلك فيما لو مارس الشعر دوره في جو من الديمقراطية وحرية الرأي.

ولكن في سلوك الشعراء ما يلفت النظر من خلال التحولات العجيبة في مواقف الشاعر. فمرة يغدو الشاعر من حملة رايات الحرب فيهز جوانح من يسمع او يقرأ شعره لترقص الجوارح طرباً وشوقاً للغوص في لهوات الحرب.

يقول الشاعر:

أتعلم أم انت لا تعلم

بان جراح الضحايا فمُ

فمٌ ليس كالمدعي قولةً

وليس كآخر يسترحمُ

يصيح على المدقعين الجياع

أريقوا دمائكم تطعموا

ويهتف بالنفر المهطعين

أهينوا لئامكم تكرموا

وفجأة ينتقل الشاعر بقارئيه إلى أن يطلقوا العنان لاعينهم كيما تفيض دموعها حنيناً إلى الوطن الذي يحن اليه حد البكاء:

حيَّيت سفحك عن بعد فحييني

يا دجلة الخير يا أم البساتين

حيَّيت سفحك ظمآناً ألوذ به

لوذ الحمائم بين الماء والطين

اني وردت عيون الماء صافية

نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني

وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني

يحاك منه عادة البين يطويني

وهكذا فما يلبث الشاعر ان يرسو على شاطئ من شواطئ بحر القوافي حتى يعود ليبحر ثانية كيما يرسو على شاطئ آخر وهكذا من شاطئ لآخر.

بناءً على ذلك يمكن أن يسأل عن سر هذا التحول السريع من موقف لآخر هذا التحول الملفت للنظر؟

للاجابة عن هذا السؤال لابد ان يعرف بان الشاعر ليس بدعاً من البشر كي تثير تحولاته مورد السؤال الدهشة فهو أولاً وآخراً واحد منهم الا أنه لمكان تسجيله لكل ما يحدث حوله نظماً تسابق القلوب الابصارَ في حفظه على سطورها كان ملفتاً للانتباه بخلاف بقية الناس الذين لا تسجل مواقفهم ازاء الاحداث والوقائع ويجب ان يعرف ان غير الشعر من ضروب الادب وغيرها ايضاً لها نصيبها من تأثرها بالاحداث الا انها لم تكن موضوع كلامي هذا.

من جهة اخرى لابد ان نعرف ان الشاعر هو صاحب الحس الأرهف بين ابناء فصيلته وهذا الحس هو الذي يملي عيه التأثر السريع بما يحدث حوله.

بعد كل ما تقدم ينبغي ان نثير أمراً يعد ظاهرة في عالم الشعر وليس ذلك الا نتيجة طبيعية للاستفزاز الذي يتعرض له الشاعر وهذه الظاهرة هي تحويل روح الشاعر الشفافة وحسه المرهف إلى شهاب يحرق من يمر به مما نحن في غنىً عنه، فإن ما نلتمسه في مثل هذه الاجواء التي تعيشها الكرة الارضية هو ما يحملنا إلى شاطئ تهدأ فيه نفوسنا وتنفض عن كواهلها غبار تعب الايام فنحن مع الشاعر في لسان حاله اذ يقول دائماً: هب لي أمنا أريك عذب نظمي ومنه -عذب نظم الشاعر- ما قد وقع اختيارنا عليه وهو:

مرَّ النسيم برياَّكم فاحيانا

فهل كذكراكم في القلب ذكرانا

إنَّا سرينا على الامواج تحملنا

وباسمكم بعد إسم الله مسرانا

لا تسألوا عن جمال البدر يبعثُه

فذاك إلا عن الاحباب ألْهانا

هذي النجوم وما خلقٌ سدى خُلِقَت

أُنس المحبين نرعاها وترعانا

يا حبذا هذيان العاشقين بكم

لا شيء افصح عندي منه تبيانا

وحبذا تحت ظل النخل مصْبَحُنا

بدجلةٍ وعلى الاجراف مُمسانا

وليت من دجلةٍ كأساً تُصَفِّقُه

أمواجها بالرحيق الصفْو ملأنا

أكرم الشحماني