الإسلام لم يحرق ذوي الرأي الحر في المحارق ولم يعرف محاكم التفتيش

يفجيني بريماكوف  خاص بـ«الشرق الأوسط»
فيما تتعلق انظار العالم بموسكو في انتظار حل ونهاية لأكبر عملية اختطاف للرهائن في تاريخ روسيا الحديثة والعالم المعاصر دفعت بمجلس الامن الدولي الى تعجل الاجتماع واصدار ادانته لهذا الحدث المأساوي، تتجه الانظار صوب حكماء روسيا بحثا عن حل جذري لأزمة استعصى حلها زهاء عشر سنوات. وتبدأ «الشرق الأوسط» اليوم بنشر حلقات من كتاب «عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر» الذي ألفه يفجيني بريماكوف رئيس وزراء روسيا الاسبق وخص «الشرق الأوسط» بنشر بعض فصوله قبل صدوره باللغة الروسية، وكنا قد نشرنا الفصل الاول من هذا الكتاب في 13 سبتمبر (ايلول) الماضي تحت عنوان «من اغتيال الملوك الى الارهاب الجماعي». ونلاحظ هنا ان المؤلف لم يتوقف عند ابعاد احداث الحادي عشر من سبتمبر من منظور المقدمات والنتائج، بل تجاوزها الى ما يرى انه يشكل العلاقة الجدلية بين الكثير من الاحداث التي تعصف بعالمنا المعاصر. كما يتضمن هذا الكتاب ما يراه بريماكوف سبيلا لحل الكثير من القضايا التي سبق ان استعصت على عباقرة الدبلوماسية العالمية وطالت لما يزيد على نصف قرن، استنادا الى خبرة ومعرفة ومشاركة عملية وعلاقة وثيقة بالكثير من اطرافها المباشرين. ومن هذا المنظور يتوقف بريماكوف في كتابه عند أبعاد الانتقادات التي يواجهها الاسلام. ويرد عليها بالتحليل، لينتقل لاحقا لتناول الكثير من جوانب ازمة الشرق الاوسط من منظور ما سماه بالموقف الجديد في تسوية الأزمة ومحاولات انقاذ صيغة مدريد. ولم يغفل المؤلف سرد بعض ما جرى في لقاءاته التي اجراها خلال جولته الاخيرة في الشرق الاوسط مع كل من الرئيسين المصري حسني مبارك والسوري بشار الاسد وممثلي الدبلوماسية العربية والاجنبية الذين وجد فيهم من يريد اصطحابه للقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في محاولة لإقناعه بالتخلي عن منصبه، اعتمادا على علاقاته القديمة معه! ومن ذات منظور الذكريات يتناول بريماكوف الموقف في الشرق الاوسط عبر لقاءاته مع العديد من اطرافه عبر العقود الثلاثة الماضية.
(سامي عماره)
* تصاعدت موجة العداء للاسلام في اعقاب مأساة يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 في الولايات المتحدة وبلدان اوروبا الغربية. بيد ان زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش الى احد المساجد قد خففت لحد ما من حدة التوتر فورا.
كما نشر توني بلير رئيس وزراء بريطانيا عدة مقالات في الصحف الاسلامية لهذا الغرض ايضا، لكن لا يمكن تعديل الصورة بأفعال كهذه تجري مرة واحدة، مهما رغبنا في ذلك، لا سيما بعد ان نشرت في الولايات المتحدة واوروبا فورا بعد 11 سبتمبر مقالات كثيرة تزعم بأن الاسلام بحد ذاته دين عدواني يجيز العنف، وما هو الاخطر الزعم بان عدوانية العالم الاسلامي تزداد. ولاح خطر تقسيم العالم من جديد بعد انتهاء «الحرب الباردة» على اساس آيديولوجي هذه المرة، ووفق مبدأ الانتماء الحضاري والديني.
وسيتوقف سير تطور الاحداث في القرن الحادي والعشرين على مدى القدرة على التخلص من افكار التماثل الزائف بين الارهاب الدولي والاسلام، وبين النشاط المتطرف لبعض الاقليات الاسلامية والعالم الاسلامي بأسره.
ومما يدعم هذا الاستنتاج ان المسلمين لا يعيشون في عالم منغلق على نفسه. ففي الولايات المتحدة يمثل ستة ملايين مسلم الدين الاكثر والاسرع انتشارا هناك. وفي اوروبا يعيش ملايين المسلمين المهاجرين من تركيا والبانيا وشمال افريقيا واندونيسيا وماليزيا والفلبين. علما ان عددهم لن يتقلص ايضا. اذن هل ان خط الانقسام لا يمتد على المستوى الكوني فقط، بل وفي داخل كثير من الدول ايضا؟
ان الاسلام كدين بحد ذاته لا يتسم بالعدوانية وفي هذا الخصوص ثمة امران هامان جدا يرد ذكرهما في القرآن الكريم. اولهما، الدعوة في حالة استخدام القوة ضد اعداء الاسلام الى عدم الحاق الاذى بالناس المسالمين من نساء واطفال وشيوخ عجزة، «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين» (سورة 2 آية 190). وهذه الآية تشير الى الطابع الدفاعي للاعمال المسلحة التي يمكن ان تجري طبقا لوصايا القرآن الكريم. وثانيهما، نهي المسلمين عن الانتحار. وهذان الامران يتسمان بأهمية بالغة، بالاخص لدى محاولة مطابقة الارهاب بالاسلام بحد ذاته.
وثمة شيء فريد من نوعه هو السرعة البالغة لانتشار الاسلام ليس عن طريق العنف عموما، لقد جرى التوسع الظافر لعرب شبه الجزيرة العربية بصورة اساسية بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في عام 632. ففي عهد الخليفة عمر بن الخطاب (اعوام 634 ـ 644) جرى فتح بلاد ما بين النهرين وسورية وفلسطين وما وراء القوقاز وايران ومصر وليبيا.
وفي غضون اقل من نصف قرن بلغ الاسلام حدود الصين ووادي الاند وسواحل المحيط الاطلسي وضفاف النيل. وجرت الفتوحات بخوض المعارك مع قوات بيزنطة وايران الساسانية. علماً ان الاسلام لم يكن عادة يفرض على شعوبها بالقوة. وكتب أ. ماسيه أحد مشاهير الباحثين في الشؤون الاسلامية يقول: «غالبا ما كانت الصراعات الداخلية تخلق التربة المناسبة للغزو». واستقبل العرب كفاتحين من قبل الاقباط في مصر والسوريين الذين اسعدهم التخلص من النير البيزنطي. وفي ايران واسبانيا كان الحكام ايضا غرباء عن الشعب. وكان العرب يكتفون بتغيير قليل في جهاز الادارة القائم، الذي كان يسوم الناس العذاب لأتفه الاسباب، وذلك بجعله اكثر مرونة.
ويؤكد ماسيه «على ان الشعوب المغلوبة اعتنقت الاسلام ليس لاعتبارات القناعة الدينية، بل من اجل دفع ضرائب اقل». ويتحدث عن هذا الموضوع ايضا المستشرق السوفياتي ي. بيليايف: «لقد وفر العرب ظروفا معيشية مقبولة اكثر في حالة الخضوع لسيادتهم. وبنتيجة ذلك فإن غالبية سكان البلدان التي فتحها العرب لم تبد المقاومة فقط، بل تحولت احيانا الى حلفاء لهم».
ولا صحة للآراء بان الاهالي المغلوبين جميعا قد اعتنقوا الاسلام بصورة جماعية. فإن فترة اعتناق غالبية سكان مصر قد تواصلت على مدى اربعة قرون، وحافظ عدد كبير من الاقباط على عقيدتهم حتى يومنا هذا. وتؤكد روح التسامح النسبي حيال ابناء الاديان الاخرى ليس نظريا (الجهاد ضدهم) بل عمليا، وجود الطائفة المسيحية المارونية في لبنان حتى يومنا هذا (بموجب نظام الدولة الطائفي تحتفظ هذه الطائفة بمنصبي رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة)، وكذلك الطائفة الارثوذكسية والجماعات المسيحية الاخرى المنتمية الى غير ذلك من الكنائس.
وعموما فإن المسيحيين المحليين يشكلون حتى يومنا هذا اقلية دينية في كثير من الاقطار العربية. وكان هذا يشمل اليهود المحليين حتى اواسط القرن العشرين، اي حتى هجرة اليهود الى اسرائيل. وكانت تحدث احتكاكات وتفرض قيود واحيانا تجري ملاحقات لهم، لكن ابناء هذه الطوائف واصلوا العيش في الاقطار العربية جيلا بعد جيل وكان النظام الاسلامي من هذه الناحية ليس اسوأ وليس افضل مثلا مما في روسيا القيصرية او بعض البلدان الاوروبية في القرون الوسطى او غير الوسطى.
ان الاسلام أحد الاديان العالمية، ويزداد عدد المسلمين بسرعة في ايامنا هذه ايضا. ويعمل العامل الديموغرافي عمله ـ فإن زيادة السكان تكون بوتائر اسرع في البلدان او الجاليات الاسلامية، لكن توجد اسباب اخرى، ففي الهند مثلا يعتنق الاسلام عدد كبير من طائفة «المنبوذين» وبهذه الوسيلة يتخلصون من القيود الموجودة في الحياة فعلا بالنسبة لادنى الطوائف الهندوسية.
ويمكن القول بأن تأريخ الاسلام عموما كان اقل دموية مثلا من تاريخ الكاثوليكية. فلم يعرف الاسلام احراق ذوي الرأي الحر في المحارق، ولم يعرف محاكم التفتيش، لكن وجدت في سفر التاريخ الاسلامي صفحات دموية، بيد ان العنف كان ينبثق اساسا على اساس الاشتباكات العرقية وفي حالات نادرة كان موجها ضد المنتمين الى الاديان الاخرى، ومنهم اليهود والمسيحيون الذين يرد ذكرهم في القرآن الكريم، بانهم «من اهل الكتاب» وكان العنف يمارس ضد ابناء العقيدة الواحدة المنتمين الى «المدارس والتيارات الاسلامية» الاخرى، ولا سيما بين السنة والشيعة.
وحين حارب الرسول (محمد صلى الله عليه وسلم)، اهالي مكة الذين رفضوا دعوته وقبائل اليهود المؤيدة لهم في المنطقة، وكذلك القبائل المسيحية في سورية، الذين اعدوا العدة سوية مع اليهود لشن هجوم ضده، دعا مقاتليه الى القتال بشجاعة ولكن بروح انسانية. ونهاهم عن قتل الاهالي الآمنين.. وعن قطع شجرة واحدة او تهديم بيت واحد.
في الوقت نفسه قام الصليبيون منذ القرن السادس بمحاولات عديدة لانتزاع القدس والاماكن المقدسة حولها «بحد السيف والنار». وبعد الاستيلاء على القدس لاول مرة فقط ـ اي المدينة التي كانت تحت السيادة الاسلامية وتعيش بسلام عموما بين ابنائها من مسلمين ويهود ومسيحيين، جرى في غضون يومين قتل حوالي اربعين ألف مسلم.
طبعا، لا يمكن اتخاذ هذا كذريعة لاتهام المسيحية بأنها دين يدعم الهمجية والارهاب، لا سيما ان المسيحيين الارثوذكس او الشرقيين كانوا في ذلك الوقت يعيشون بوئام مع المسلمين ـ حقا كانت تحدث احيانا اشتباكات بين الطرفين، لكنهم كانوا في نهاية المطاف يتعايشون سوية.
انني اورد جميع هذه الافكار القائمة على حقائق ليس البتة من اجل تناسي وتجاهل الافكار المتطرفة الواسعة الانتشار في صفوف المسلمين، لا سيما في البلدان المرتبطة مباشرة بالنزاع العربي ـ الاسرائيلي. فمثل هذه الافكار موجودة، وانكار وجودها هو شيء مستحيل وسخيف. بيد ان جذور هذه الافكار المتطرفة تمتد ليس في الدين، بل في السياسة. فاتخاذ موقف سلبي قاطع من حق اسرائيل في الوجود لا ينبثق من القرآن الكريم، الذي لا يرد فيه اسم محمد باعتباره الرسول الاوحد فقط، بل ترد فيه ايضا اسماء الرسل الآخرين مثل عيسى وموسى وغيرهما.
ومن المهم الاشارة الى انه بمرور الزمن طرأ تغير ارتقائي واضح على الموقف المتطرف الذي يتجافى مع رأي الاغلبية الساحقة في البلدان الاخرى. لذا ليس من الصدف ان يقترح الامير عبد الله ولي العهد السعودي بالذات، ومن السعودية حيث توجد الاماكن المقدسة الاسلامية الرئيسية، صيغة: اعتراف العرب باسرائيل مقابل انسحابها من الاراضي المحتلة في «حرب الايام الستة» في عام 1967، واعتقد ان هذه الصيغة نابعة ليس فقط من السعي الى احلال السلام في الشرق الاوسط فقط، بل ومن الرغبة في مسايرة غالبية البشرية.
* الأصولية والتطرف مفهومان مختلفان
* من جانب آخر فإن التطرف اشتد في حياض الاسلام ليس نتيجة تطوره الطبيعي، بل بسبب ظهور ونشاط عدد من الفرق الاسلامية. اذ يدافع بعضها عن قيم بعيدة عن الاسلام «التقليدي» اما اتباعها فيؤكدون انتماءهم اليها دون ان يعرفوا ذلك.
بيد ان الافكار الاسلامية المتطرفة محكوم عليها تاريخيا بالزوال، لانها انتشرت في مجال عفا عنه الزمن، ولا يصمد لدى مواجهة التقدم التاريخي للمجتمع العالمي عموما. وليس من قبيل الصدف ان تتزعم الشعب الفلسطيني منظمة التحرير الفلسطينية وليس منظمة الجهاد الاسلامي. ومما له دلالته ان المصريين مضوا قبل خمسين عاما في نضالهم ضد النظام العلماني للملك فاروق المتعفن حتى الجذور، ليس وراء التنظيم الديني المتطرف «الاخوان المسلمون»، بل وراء الضباط الاحرار بقيادة جمال عبد الناصر. وبعد النصر وفي عام 1953 عمد جمال عبد الناصر الى قمع حركة «الاخوان المسلمون» بشدة، مع اتخاذ المجتمع موقف الحياد الايجابي، لانها كانت تصبو الى الاستيلاء على السلطة. وحدثت مواجهة مماثلة في الجزائر وعدد من البلدان الاخرى.
ألا يعتبر ذلك امرا له دلالته؟ ومن المهم الاشارة الى ان القوى المتطرفة التي تطمع في الاستيلاء على السلطة في مختلف الاقطار الاسلامية، لم تحظ بتأييد المجتمع، وفي جوهر الامر انها لم تتمكن من اعادة تطور اية دولة اسلامية القهقرى.
من جانب آخر يلاحظ التوجه نحو تحديث المجتمع الاسلامي وعمليات التحديث تجري في شبه جزيرة العرب حيث موطن الاسلام. فإن الجيل الجديد للمسلمين الاكثر نشاطا من جيل الماضي يدعو الى الديمقراطية والتعددية وحرية التعبير عن الرأي. ومما لا ريب فيه ان العولمة تقوية عملية دمقرطة المجتمع الاسلامي. وتكتسب قيمة كبيرة الانترنت وحدها والتي اصبحت في متناول الناس بفضلها على نطاق واسع، محاضرات ومقالات وبحوث المسلمين الليبراليين مثل المصري حسن حنفي الذي يحظى بشعبية في العالم العربي.
وثمة حقيقة ثابتة هي ان الاسلام اقام حضارته كما فعلت ذلك المسيحية واليهودية والبوذية، ولكن الحقيقة التاريخية تتجسد في ترابط الاديان والتفاعل بينها. فالعهد القديم يعتبر الكتاب المقدس لدى اليهود وكذلك لدى المسيحيين. وجمع القرآن الكريم في صفحاته الكثير مما جاء به هذان الدينان السماويان.
ويطرح محتوى القرآن الكريم بصفته رسالة الخالق الاوحد التي نقلت الى الناس عبر رسوله الاخير محمد (صلى الله عليه وسلم)، (بالتالي فهو اقرب الجميع الى الحقيقة)، علما ان القرآن الكريم لا ينكر رسل الله الآخرين من يهود ومسيحيين، لكن يجري في كثير من الحالات شطب «الحقائق» التي جاءوا بها بما جاء به الوحي لاحقا. فيرد في القرآن الكريم مثلا اتهام احبار اليهود بأنهم شوهوا التوراة (السورة2، الآية 79)، التي ذكر فيها حسب التأويلات الاسلامية ان الرسول الجديد سيبعث في شبه الجزيرة العربية.
وفي التراجم الاولى لمعاني القرآن الكريم ترجمة لفظة الجلالة «الله» بلفظة «الرب»، وفيما بقيت لفظة «الله» كما هي بدون ترجمة، مما خلق الانطباع بأن لدى المسلمين ربهم انفسهم. ويرد في القرآن الكريم «ولا تجادلوا اهل الكتاب إلا بالتي هي احسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي انزل الينا وانزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» (سورة 29 الآية 46).
لقد اسهم العلماء المسلمون بقسط كبير في العلم والفن والتعليم، وبتعبير آخر في اساس الحضارة الحديثة. وكتب ابن سينا في عام 980 عملا عظيما هو كتاب «القانون» الذي كان حتى القرن السابع عشر اشهر عمل طبي في اوروبا القرون الوسطى. بينما عرف ابن حيان بكونه «أب» الكيمياء. وكلمة الكيمياء نفسها مأخوذة من كلمة عربية. اما مصطلح «اللوغاريتم» فيعكس اسم العالم الخوارزمي (باللاتينية الغوريزم)، الذي استحدث مبدأ اللوغاريتم في الرياضيات. وكان كتابه المرجع الدراسي في الرياضيات في جامعات اوروبا حتى القرن السادس عشر. والامثلة على ذلك كثيرة.
ومما لا ريب فيه ايضا ان الحضارة الحديثة مارست تأثيرا كبيرا على العالم الاسلامي.
فهل توقفت عملية التفاعل بين الحضارات؟ طبعا، لا. زد على ذلك ان اشتداد عملية العولمة كان لا بد ان يتجسد في ازدياد تأثير الحضارات في بعضها بعضا، وان يقود في المستقبل الى توحيدها في كنف الحضارة العالمية.
ومن المهم على الاخص لغرض تفهم العالم الاسلامي مستقبلا وتأثير بقية العالم البشري على هذا العالم ان نفرق بين الاصولية الاسلامية والتطرف الاسلامي، فالاول، شأنه شأن اية نزعة تطرف ديني، يدعو الى التربية الدينية والتمسك بالتقاليد الدينية في الحياة اليومية. اما الثاني فيضع هدفا له ان ينشر بالاكراه، وبضمن ذلك في البلدان الاخرى، نموذج الدولة الاسلامي، وقواعد السلوك الاسلامية في المجتمع وفي الاسرة وبالاكراه والقوة بالذات.
وثمة تفسير لاشتداد نفوذ الاصولية الاسلامية في العقد الاخير. ولا ريب في ان لهذا علاقة بانهيار النظام الاستعماري ـ لان قسما كبيرا من المستعمرات والاراضي التابعة يقطنها المسلمون ـ وظهور عشرات الدول الاسلامية المستقلة على الخارطة. ومن هذه الناحية ترتبط الاصولية بتنامي الوعي القومي الذي كان مجمدا في ظروف النظام الاستعماري.
كما تتغذى الاصولية الاسلامية بانقسام العالم الى «المليار الذهبي» اي الشمال الذي يسوده الرخاء، وبقية العالم التي تنتمي اليها غالبية الاقطار الاسلامية.
اما بصدد مجال الاتحاد السوفياتي السابق حيث يلاحظ تنامي النزعة الاصولية الاسلامية، فقد حدث ذلك بمثابة رد فعل على ممارسات الفترة السوفيتية في الجمهوريات الاسلامية مثل حظر بناء المساجد وحظر اداء الشعائر الاسلامية واقامة الاعياد الاسلامية. وكانت هذه السياسة تمارس حيال جميع الطوائف الدينية، لكنها مست السكان المسلمين بقدر اكبر لان الاسلام يفرض اكثر من الاديان الاخرى اسلوب معيشة المؤمنين. وفي الفترة السوفياتية بلغ الامر حتى ملاحقة المسلمين من حزبيين ومسؤولين اذا ما سمحوا لانفسهم مثلا بدفن ذويهم او اقاربهم وفق العادات الاسلامية اي بالكفن واتجاه الرأس نحو الكعبة المشرفة، كما لو ان طريقة الدفن البديلة اي في النعش تخص الاشتراكية او الشيوعية.
ان آفاق تطور المجتمع الاسلامي تتوقف على العلاقة بين تيارين هما: الاصولية والتطرف. وبوسع الاصولية الاسلامية ان تتخلص نهائيا من الاتجاه المتطرف والتحول الى الديمقراطية الاسلامية القريبة من القيم التقليدية، طبعا ان هذه الديمقراطية ستختلف عن الديمقراطية الغربية، كما تختلف عنها مثلا الديمقراطية الهندية، لكن يجب ان يؤخذ بنظر الاعتبار ان الانتخابات والاستفتاءات والتشريع البرلماني وتغيير الحكومات وفق احكام الدستور والتقارب بين الرجل والمرأة في الحقوق، كان على مدى فترة طويلة يتجاور مع التقاليد الدينية.
من جانب آخر ان الحد الفاصل بين الاصولية والتطرف يزول اما حين تسيطر على السكان والمسلمين فكرة الانفصال كما حدث في كوسوفو مثلا، ام في القسم الاسلامي من مقدونيا، واما لدى التضامن مع بلاد اسلامية ما تتعرض الى عدوان خارجي.
ومما لا شك فيه ان تقسيم العالم الى حضارتين ومواجهة العالم الاسلامي بـ«القسم الصحي» في المجتمع الدولي سيقود الى ازالة الحد الفاصل بين الاصولية الاسلامية والتطرف الاسلامي.
وكتب الباحث الاسلامي راي تكية من معهد سياسة الشرق الاوسط في واشنطن قائلا بحق «ان تكامل الديمقراطية الاسلامية مع المجتمع الديمقراطي العالمي يتوقف في نهاية المطاف على رغبة الغرب في قبول الصيغة الاسلامية للديمقراطية الليبرالية. فالمعتدلون المسلمون يعتقدون، رغم اعترافهم في الواقع بوجود «قيم ديمقراطية شاملة» ما، بأن من الواجب ان تتوفر لدى الحضارات المختلفة الفرصة للتعبير عن قيمها بالشكل المقبول والمناسب في مناطقهم بالذات. ولهذا سيواصل المعتدلون المسلمون النضال ضد كافة اشكال هيمنة الولايات المتحدة من الناحيتين السياسية والثقافية، وسيرون بأن النظام الدولي المناسب اكثر بالنسبة لهم هو النظام المتعدد الاقطاب والمتعدد الحضارات».